إنتخابات ٢٠٢٢

العمل الصامت في الانتخابات هو الأصعب: هكذا تجاوزنا التحديات

سيظل تاريخ 15 أيار 2022 حاضرًا، ليس في الذاكرة اللبنانية فحسب وإنما أبعد منها. فالانتخابات النيابية التي جرت في هذا اليوم كانت الأصعب في تاريخ لبنان. وبينما كان المجتمع الدولي يؤكّد ضرورة حصولها وعدم السماح بانهيار آلية النظام الديموقراطي، ظل إجراؤها حتى اللحظة الأخيرة محل تكهنات ورهانات وشكوك كثيرة، وسط تخوّف من عمل أمني كبير يطيح بها، أو يؤدي إلى تأجيلها على الأقل. لكن الانتخابات جرت بسلاسة، ونجحت الخطة الأمنية التي واكبتها في تجاوز التحديات الكبيرة: تحدي تداعيات الوضع الاقتصادي وضغوطاته المعيشية على المواطنين والعسكريين، تحدي اليأس المستشري بين الناس، والتحدي الناتج عن الأجواء السياسية المشحونة والشرخ العمودي بين الأفرقاء.

 

استطاعت المؤسسة العسكرية تجاوز كل التحديات بنجاح وضمنت أمن الانتخابات وسلامتها. نزل الجيش بكل قواه إلى الأرض، لكن في موازاة القوى التي انتشرت وتحركت، كانت هناك قوى أخرى تعمل في الظل وقبل موعد الانتخابات بكثير، كان عملها صامتًا واستباقيًا وهنا تكمن أهميته. فهذا العمل الذي قامت به مديرية المخابرات في الجيش اللبناني بكفاءة كبيرة هيأ الأرضية قبل انتشار العسكر في الساحات والشوارع، وأتاح معالجة الإشكالات التي حصلت بفاعلية وسرعة، ما منع تطورها وتأثيرها على سلامة العملية الانتخابية.

 

حادثة كادت توتر الأجواء ولكن...

الرصد المستمر وتحليل المعلومات وتحضير الخطط المسبقة كلها عوامل مهمة في العمل الاستخباراتي، لكن ثمة عوامل أخرى مهمة أيضًا في هذا العمل ومنها القدرة على اتخاذ القرارات الصائبة وكيفية نشر المعلومات وتوقيتها. وهذا ما ظهر بوضوح من خلال التعامل مع الحادثة التي وقعت في عكار صبيحة يوم الانتخاب، إذ أقدم المدعو ي.م. على إطلاق النار باتجاه مركز للجيش ما أدى إلى إصابة عسكريين. الإعلان عن وقوع الحادثة كان من شأنه توتير الأجواء وبث الذعر بين المواطنين وبالتالي منعهم من الإقبال على الانتخاب. لكن ما حصل هو أنّ قوة تابعة للمخابرات تعقبت الفاعل الذي حاول الفرار بواسطة سيارة أجرة، وأوقفته ثم بوشرت التحقيقات معه على الفور، وكان كل ذلك قبل نشر خبر الحادثة بعد ساعتين من وقوعها.

 

الجهد الاستثنائي الصامت الذي قامت به مديرية المخابرات بدأ قبل أسابيع من موعد الاستحقاق، إذ وضعت خطة انطلاقًا من المخاطر المحتملة الناتجة عن الظروف الصعبة التي يمر بها لبنان على كل الأصعدة والمستويات، وحددت الآليات التي ستتبع لتنفيذ هذه الخطة بدقة ومن دون أي خطأ. الإمساك بكل المعطيات اللازمة اقتضى العمل المتواصل ليلًا ونهارًا وتهيئة العدة والعديد اللازمين للتنفيذ، فضلًا عن تهيئة الأرض من خلال التواصل مع جميع الفرقاء المعنيين وكان لهذا التواصل أثره الجيد في الحد من التشنج، والتعاون مع العسكريين.

 

خطة بثلاث مراحل

تم تنفيذ الخطة وفق ثلاث مراحل:

 

بدأت المرحلة الأولى قبل موعد الانتخابات بأسابيع، وتم خلالها استنفار كل القوى التابعة للمديرية، وذلك لتفعيل العمل الاستخباري في جميع المناطق وخصوصًا تلك التي تُعتبر حساسة، ما يقتضي زيادة الجهود الاستعلامية فيها استدراكًا لأي عمل يهدد الأمن.

 

المرحلة الثانية هي التي تمت فيها مواكبة العملية الانتخابية عبر المتابعة الحثيثة لمجريات هذه العملية، واتخاذ الخطوات اللازمة لمنع أي إخلال بالأمن والنظام العام، والتدخل بسرعة وحزم في حال وقوع أي حادث. وقد رافق ذلك التواصل مع جميع القوى السياسية والحزبية والعائلية العشائرية بهدف الحد من الإشكالات التي قد تحصل خلال العملية الانتخابية.

 

في المرحلة الثالثة، وإثر فرز النتائج وصولًا إلى اصدارها، حافظت مديرية المخابرات على استنفار كل طاقاتها تحسبًا لأي خلل أو محاولة لإثارة البلبلة من قبل المتضررين، فتابعت ردود الفعل وعملت على توقيف كل مخل بالأمن.

 

عملت مديرية المخابرات كخلية واحدة لتأمين سلامة العملية الانتخابية وتوفير المستلزمات اللوجستية عبر شبكة من غرف العمليات تصب كل المعطيات المجمّعة لديها في غرفة العمليات المركزية في قيادة الجيش. فعالية هذه الشبكة التواصلية أمنت القدرة على اتخاذ القرارات والإجراءات المناسبة عند وقوع أي حادث والقضاء عليه في مهده.

 

لقد عولجت أمور كثيرة بصمت استنادًا إلى معلومات مؤكدة، وأدت عمليات الملاحقة والمداهمة إلى إجهاض كل المحاولات التي كانت تهدف إلى تخريب اليوم الانتخابي.

 

تحرير مخطوف بعملية استثنائية

غالبًا ما يستغل المجرمون انشغال الجيش والقوى الأمنية لينفّذوا جرائمهم، وهذا ما تحسّبت له مديرية المخابرات، ففي خضم انشغالها بمتابعة الانتخابات كانت عيونها ساهرة على مختلف الجبهات: ملاحقة جماعات الجريمة المنظمة والمخدرات والتهريب... فضلًا عن توقيف مطلوبين بجنايات مختلفة. ويُسجل لها في هذا السياق تنفيذ عملية استثنائية ناجحة أسفرت قبل الانتخابات بيوم واحد عن تحرير المواطن اللبناني جوزيف مفرج الذي كان مخطوفًا منذ شهر وموجودًا في سوريا. هذه العملية اقتضت جهودًا جبارة، فمن ناحية لم يكن واردًا الرضوخ لمطالب الخاطفين ودفع فدية مالية لهم لكي لا يشجع ذلك آخرين على اقتراف المزيد من جرائم الخطف. ومن جهة ثانية كانت مخابرات الجيش أمام تحدي الحفاظ على حياة المخطوف وضمان تحريره سالمًا، لكنها نجحت في تجاوز جميع التحديات.

 

مَن واكب الجهد الكبير الذي بذلته مديرية المخابرات، يدرك جيدًا أنّ إنجازه يتطلّب إمكانات ضخمة، لكنّ عسكريينا اعتادوا أن ينفّذوا مهماتهم «باللحم الحي»، وهذا ما فعلوه هذه المرة أيضًا.

 

لقد أمّنوا نجاح الانتخابات الأصعب في تاريخ لبنان. التزموا أداء واجبهم من دون أي خطأ يُذكر، فكانوا الأوفياء لقسَمهم العسكري، واستحقوا بجدارة تهنئة قيادتهم.