- En
- Fr
- عربي
العولمة والاقتصاد اللبناني
إنّ التغيّرات السياسية ولاقتصادية الهائلة التي يشهدها العالم منذ أوائل العقد الأخير من القرن الماضي, وتحديداً تسارع مسيرة العولمة بعد انهيار الاتّحاد السوفياتي, قد فرضت على الدول النامية, وخصوصاً الصغيرة منها, تحدّيات على مختلف الصعد ومن أهمّها القدرة على مواجهة متطلّبات التنافس الاقتصادي في نطاق اقتصاد عالمي منفتح على بعضه البعض. وتكبر حدّة التحدّيات في حال بقيت الدول النامية تتفاعل إفراديّاً مع العالم الخارجي عوضاً عن إقامة تكتّلات اقتصادية في ما بينها بهدف خلق قوّة فاعلة قد تمكّنها من درء التهميش الكبير لجهة فقدان السيطرة على القرار الوطني الاقتصادي والسياسي في ما لو اختارت الانخراط إفراديّاً في سياق السيطرة على القرار الوطني الاقتصادي والسياسي في ما لو اختارت الانخراط إفراديّاً في سياق العولمة, وهو تهميش سوف يكون أكثر حدّة بكثير قياساً إلى نا قد يكون عليه الأمر في حال قيام التكتّل, علماً أنّ عدم إقامته لا يعني بالضرورة تردّياً في الأحوال الاقتصادية في الدول النامية, بل قد يترافق مع إتاحة فرص جديدة لتقدّمها, والثورة المعلوماتيّة هي أحد أهمّ أوجهها. إلاّ أنّه في المقابل يعني تصاعداً كبيراً في التبعيّة الإقتصادية والسياسية للدول الصناعية ذات القاعدة التكنولوجية/ المعلوماتية المتطوّرة, مع كلّ مضامينها على مختلف الصعد, وخصوصاً فيما يتعلّق بقرارات السياسة الاقتصادية والأداء السياسي. هنا تكمن إحدى أهمّ إشكاليّات الانخراط التام في العولمة, أكان ذلك طوعاً أو قسراً. فلو أنّ دول العلم تلتقي حقّاً حول تطلّعات وأهداف وطموحات ونظم سياسة متجانسة, لربّما كانت العولمة الاقتصاديّة لا تثير مخاوف كبيرة لدى الدول, ولا سيما النامية والصغرى منها. في حالة مثاليّة كهذه, فإنّ تهميش إستقلالية القرار الوطني السياسي والإقتصادي الذي يترافق مع العولمة قد يصبح ذا أهميّة متدنية. أي أنّ افتراض التجانس والتوافق السياسي الكامل بين الدول قد يتيح لها فرص التركيز على الجوانب الإقتصادية للعولمة, والعمل على الإفادة منها دون التوقّف عند هواجس ومخاوف التبعيّة السياسية/ الإقتصادية, واضمحلال استقلالية القرار الإقتصادي الوطني المواكب لها.
غير أنّ العالم لم يصل بعد إلى هذه المرحلة من التطوّر السياسي. فالتباعد في الأهداف والطموحات والنّظم السياسيّة بين الدول المختلفة حقيقة قائمة, وهكذا مخاوف الدول النامية والصغرى من الهيمنة السياسيّة والاقتصاديّة للدول الكبرى, ولا سيّما الولايات المتحدة الأميركية, في ظلّ الوضع السياسي العالمي السائد, والاختلال الكبير في موازين القوى لصالح هذه الدول.
وعلى ضوء هذه الحقـائق, ومن منطلق المحـافظة بالقدر الممكن على استقلاليّة القرار الوطني أو التقليل بالقدر المستطاع من درجة تهميشه نتيجةً للعولمة, اتجهت مجموعات من الدول إلى إقامة تكتّلات اقتصاديّة بحيث تقوّي السيادة الوطنيّة تجاه الخارج كجزء من سيادة إقليميّة أوسع لدولٍ تجمع بينها تطلّعات سياسيّة واقتصاديّة متجانسة. والاتحاد الأوروبي, الذي باشر العمل بالعملة الموحّدة (اليورو) منذ مطلع العام 1999, هو مثال ساطع على ذلك. والملفت أنّ الاتجاه العربي نحو إقامة تكتّل اقتصادي/ سياسي فاعل ما زال ضعيفاً جدّاً بالرغم من تأسيس جامعة الدول العربيّة منذ أكثر من نصف قرن, ومن صدور عشرات القرارات والتوصيات بهذا الخصوص, وبالرغم أيضاً من التغيرات العالمية الكبيرة في السنوات العشر الأخيرة. إنّ أسباب التخلّف العربي في هذا المضمار متشعّبة, فمنها ما هو سياسي ومنها ما هو اقتصادي, وقد تناولها باحثون كثر وأشبعوها تحليلاً وتفصيلاً. وربّما يمكننا القول إنّ عصارة هذه التحليلات هي أنّ متطلّبات تحقيق التعاون الاقتصادي العربي تعوزها الإرادة السياسيّة قبل كلّ شيء للسير في هذا الخيار الذي إذا ما تأمّن فإنّ القدرة على التخطيط لنجاحه متوفّرة.
في ما يلي نتطرّق بإيجاز إلى موضوعين رئيسيّين:
1- بعض أوجه العولمة
2- التحدّيات التي تواجه لبنان في ظلّ مسيرة العولمة والخيارات المتاحة بما فيها خيار التكتّل الاقتصادي العربي.
بعض أوجه العولمة
للعولمة ثلاث سمات علينا التوقّف عندها. السمة الأولى في تسارع التحرير الاقتصادي الذي تنادي به الدولا الصناعيّة والمؤسّسات الدوليّة, كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظّمة التجارة العالمية. والتحرير يعني فيما يعنيه تحرير النشاطات الاقتصاديّة من قيود أو إجراءات مصطنعة تخلق تشوّهات في النظام الاقتصادي, كالإبقاء على مستويات مصطنعة لسعر القطع والفوائد, أو منح قطاعات إنتاجيّة معيّنة دعماً غير مبرّّر إقتصادياً. كما أنّ التحرير الاقتصادي يعني الانفتاح الكلّي على العالم الخارجي, لجهة إزالة التقييدات على المعاملات مع الخارج (وإن ظلّت مسألة التحرير الكامل لتنقّلات الرساميل موضوع نقاش غير محسوم) وإزالة الحماية الجمركيّة تدريجيّاً. ويبقى أيّ تدخّل من قبل السلطات المختصّة هدفه الأساسي تصحيح تشوّهات معيّنة, أو خلل في عمل آليّة السوق. ومن هنا اتخذ العديد من الدول إجراءات تحدّ من نشوء الاحتكارات في السوق أو تعمل على احتوائها. كما أنّ الخصخصة قد أصبحت, أيضاً, من أهمّ مظاهر التحرير الاقتصاديّ الذي تنادي به المؤسّسات الدوليّة, وقد أخذت بتطبيقها العديد من الدول النامية كجزء من برامجها في الإصلاح الاقتصادي.
السمة الثانية هي ازدياد درجة الاعتماد الاقتصادي المتبادل (Interdependence)
بين الدول نتيجة لعمليّة التحرير الإقتصادي. والعديد من الإقتصاديين يرى في ذلك ازدياداً تلقائيّاً في تبعيّة الدول النامية للدول الصناعيّة. إنّ الإنفتاح الإقتصادي يؤدّي إلى رفع مستوى التأثيرات الإقتصادية المتبادلة بين الدول, وذلك بدوره يحدّ من فعاليّة السياسة الاقتصادية الوطنيّة وسيادتها. وهكذا فإنّ إنشاء التجمّعات الاقتصادية, أو السوق الإقتصاديّة المشتركة بين دول تربطها أواصر محدّدة, يتطلّب من قبل الدول المعنيّة, بعض التنازل عن السيادة الإقتصادية الوطنيّة, ضمن نطاق التجمّع الإقتصادي, مقابل الحفاظ بقدر الإمكان على إستقلاليّة القرار الإقتصادي والسيادة الإقتصاديّة لهذا التجمّع تجاه العالم الخارجي. هذا مع التأكيد على أنّ خيار التجمّعات الإقتصاديّة أو السوق المشتركة يفترض ضمنيّاً أنّ المنافع الناتجة عنه, بالنسبة لكلّ من دوله, تفوق أيّة منافع يمكن أن تحرزها في غياب هكذا تجمّع أو سوق.
السّّمة الثالثة هي السعي لتوطيد سلطة مؤسّسات دوليّة ذات سلطة تتعدّى تلك المنوطة بالمؤسّسات الوطنيّة في مختلف البلدان بحيث تصبح خاضعة للسلطة الدوليّة. غير أنّ مسيرة العولمة بهذا المعنى, أي إخضاع السلطات الوطنيّة لصالح سلطة المؤسّسات الدوليّة التي تسيطر عليها الدول الكبرى, ما تزال تلاقي مقاومة من قبل الدول, ولا سيّما النامية منها. وهكذا نرى صراعاً بين توجّهين. التوجّه الأوّل (تعبّر عنه الدول النامية) يحاول أن يبقي المنظّمات الدوليّة منظّمات تتمثّل فيها السلطات الوطنيّة, وإن كان حجم التمثيل والتأثير على القرارات المتّخذة يختلف من بلد إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى. وأمّا التوجّه الثاني (الذي تقوده الدول الكبرى) فهو العمل على جعل سلطة المؤسّسات الدوليّة أقوى شأناً من سلطة المؤسّسات الوطنيّة. ولا عجب إن اختارت الدول الصناعيّة الكبرى هذا التوجّه بما لها من تأثير طاغٍ على المؤسّسات الدوليّة.
لقـد أثّرت العـوامل الإقتصـادية كثيراً في دفـع مسيرة العولمـة. ومن أهمّ هذه العوامل:
1- الاتّساع الكبير في التجارة الدوليّة قياساً إلى الناتج المحلّي وتنوّع قنواته.
2- تعاظم الإندماج بين الأسواق الماليّة العالميّة.
3- اموال والاستثمارات المباشرة الخاصّة.
4- التقدّم الهائل في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
5- ازدياد تدفّق القوى العاملة بين الدول. وقد نتج عن كلّ ذلك ازدياد قوّة الشركات الكبرى المتعدّدة الجنسيّات أو بالأحرى المتخطّية للحدود القوميّة, مع تغيّر كبير في نمط إدارتها, إضافةً إلى ازدياد درجة التجانس الاقتصادي بين الدول على مختلف الصعد, بما في ذلك تجانس الأنماط الاستهلاكيّة. علماً أنّ دولاً كثيرة تحاول مقاومة هذا التحوّل بالتشديد على خصائصها القوميّة بمختلف المجالات من استهلاكيّة واجتماعيّة وثقافيّة وغيرها.
وإذ يؤكّد معظم الباحثين أنّ مسيرة العولمة لا رجوع عنها ضمن الإطار السياسي العالمي السائد, وأنّها تعني,, في ما تعنيه, زوال الفروقات بين السياسات الإقتصاديّة الدوليّة والوطنيّة, فإنّ العديد منهم يشير إلى إنعكاساتها السلبيّة, خصوصاً على المدى القصير, بحيث أنّ الإنخراط الكلّي في الإقتصاد العالمي قد يكون له أكلاف إقتصاديّة وإجتماعيّة كبيرة, منها على سبيل المثال: إرتفاع مستوى البطالة, وتحمّل أعباء توزيع الدخل لصالح طبقة رجال الأعمال. كما أنّ فوائد العولمة قد لا تصل إلى جميع البلدان بالتساوي, ومن هنا الدعوة إلى أنّ تحسّن البلدان النامية بيئتها الإقتصاديّة من أجل توفير فرص أوسع للاستفادة من مسيرة الانفتاح الخارجي.
وكما أسلفنا, فإنّ أحد الأوجه الرئيسيّة للعولمة والتحرير الإقتصادي هو تعاظم دور القطاع الخاص في النمو الإقتصادي. علماً أنّ حدود هذا الدور المتّسع ونوعيّته وبالتالي الدور المتقلّص للدولة, والبعض يصفه بالمتغيّر, ليس بالضرورة متّفقاً عليه. فالبعض في الدول النامية يقرّ بحتميّة توسّع دور القطاع الخاص ولكنّه يتخوّف من انعكاسات سلبيّة قد تترافق معه, خصوصاً في نطاق العولمة الإقتصاديّة. ومن هذه السلبيات, على سبيل المثال, اضمحلال القدرة الصناعيّة الوطنيّة, والتبعيّة الاقتصاديّة المفرطة للشركات المتعدّدة الجنسيّات, وتسارع عمليّة التحرّر الاقتصادي مع غياب الإطار التنظيمي الضروري لها. وفي المقابل, وعلى ضوء تجارب القطاع العام, فلقد برز اقتناع متنام أنّ الدولة المهيمنة على قطاعات خدماتيّة أو إنتاجيّة لا يمكنها عموماً مجاراة التطوّر في الكفاية الإنتاجيّة, ونوعيّة الخدمات, أو إنتاج السلع في القطاع الخاصّ الذي يتماشى أداؤه مع التطوّرات التقنيّة المتجدّدة. ومن هنا أصبحت هنالك قناعة متنامية أنّ للانفتاح الوطني في نطاق العولمة الإقتصاديّة وتعاظم دور القطاع الخاص (بما في ذلك الخصخصة) فوائد جمّة تفوق ما قد يستحقّ من أكلاف إقتصاديّة تتماشى معه, شرط وجود التشريعات التنظيمية الملائمة للمصلحة العامّة مع حسن تطبيقها. وعموماً, فإنّ التحدّي الكبير الذي تواجهه الدول, النامية, هو اعتماد السياسات التي تمكّنها من الإستفادة من فوائد العولمة, وهي تؤسّس لأرضيّة صلبة لاقتصادها الوطني, وتكفيه مع متطلّبات الانفتاح والتحرّر الإقتصادي, بما فيه خصخصة مؤسّسات إقتصاديّة أو ماليّة يشرف عليها القطاع العام. والقضيّة الأساس التي تواجهها الدول النامية في هذا المضمار, هي كيفيّة توفير الشروط الضروريّة التي تجعل من عمليّة الخصخصة أحد أوجه ستراتيجيا إقتصاديّة تهدف إلى ترشيد استعمال الموارد المتاحة بحيث يرتفع مستوى الكفاية الإنتاجيّة الوطنيّة وقدرتها التنافسيّة, مع التركيز على النواحي الإجتماعيّة للتنمية. (1)
ومن هذه الشروط:
1- إرساء إطار تشريعي وتنظيمي ملائم يضبط عمليّة الخصخصة ويرشّدها توخّياً للمصلحة العامّة, ويكون من أهدافه توطيد أسس المنافسة الحقيقيّة وتأمين حماية المستهلك ومراقبة نوعيّة الخدمات والسلع العائدة للمؤسّسات التي يتمّ تخصيصها, إضافة إلى تأمين الشفافيّة في تنفيذ إجراءات الخصخصة في مراحلها المتعاقبة مع حسن التطبيق.
2- تطوير الطاقة المؤسّسيّة بما له من تأثير إيجابي في عمليّات الخصخصة وفي مسار التنمية الإقتصاديّة عموماً.
3- تأمين أسس الإستقرار الإقتصادي الكلّي وتحرير التجارة الخارجيّة من قيود تكبّلها فكلاهما يساهم في رفع مستوى الكفاءة الإقتصاديّة إضافة إلى جذب الاستثمارات الأجنبيّة المباشرة. وأمّا بالنسبة لتحرير تدفّق الرساميل, فإنّ أيّة خطوات تتّخذها البلدان النامية بهذا الاتجاه ينبغي أن تترافق مع إيجاد بيئة جذّابة وسن التشريعات الملائمة, إضافة إلى الاستقرار الاقتصادي, وذلك بهدف تأمين استخدام كفوء للرساميل الوافدة.
4- تطوير الأسواق الماليّة وتعميق دورها في التنمية. إنّ تطوير هذه الأسواق والخصخصة هما عمليّتان تساند إحداهما الأخرى.
لبنان وتحدّيات العولمة
هنالك نوعان من التحدّيات التي يواجهها لبنان في مسيرة العولمة: الأوّل ولعلّه الأهم هو التهيّؤ المطلوب على الصعيدين العامّ والخاصّ بهدف تقوية قدرة لبنان على المنافسة في الحلبة الدوليّة. وأمّا الثاني فهو خارجي ويتمثّل بالعمل مع باقي الدول العربيّة لإقامة تكتّل اقتصادي عربي منفتح. وسأتناول باختصار كلّ منهما على حدة.
التهيؤ الداخلي
وهو متشعّب الأوجه يتطلّب عملاً متواصلاً على أكثر من صعيد في طليعتها اتخاذ الخطوات التي ترفع مستوى الإنتاجيّة للاقتصاد الوطني وتوسّع قاعدته وتثبّت دعائم مناخ إقتصادي يهدف إلى توطيد الاستقرار النقدي/ المالي وتحفيز التنمية المستدامة في آنٍ واحد.
إنّ قضيّة رفع مستوى الإنتاجيّة ترتبط عضويّاً بإنشاء قاعدة تكنولوجيّة متطوّرة وتكثيف عمليّة تطوير الكفاءات البشريّة إضافة إلى رفع مستوى كفاءة السوق وقدرته التنافسيّة. وإذا كان لبنان قد خطا خطوات لا بأس بها في ميادين التعليم والتربية وفي تطوير مناهج متخصّصة تماشياً مع التطوّرات العالميّة, فلا يزال ينقصه الكثير من أجل بناء قاعدة تكنولوجية تستند أساساً على الكفاءات البشريّة والأبحاث العلميّة والتقنيّة. ومن متطلّبات بناء قاعدة كهذه يأتي في الطليعة تطوير المؤسّسات الجامعيّة وقدراتها العلميّة والبحثيّة في مختلف الميادين بحيث تعزّز مواردها المخصّصة للأبحاث والدراسات بما يفوق بكثير مستوياتها السائدة في لبنان. والعبء هنا لا يقع فقط على الجامعات التي من مهامها تشجيع البحث العلمي, بل أيضاً على القطاع الخاص ومؤسّساته المختلفة التي يفترض بها, بل من واجبها, أن تدعم هذا التوجّه لدى المعاهد العليا القائمة. إنّ دور القطاع الخاص اللبناني في هذا المجال ما زال خجولاً جدّاً قياساً لدوره في الدول المتقدّمة إقتصاديّاً وحتّى في بعض الدول النامية. وما قد يحفّز إندفاع مؤسّسات القطاع الخاص بهذا الإتجاه هو سنّ تشريعات ضريبيّة ملائمة بحيث تُعفى على سبيل المثال هذه المؤسّسات من ضريبة الدخل على الموارد التي تتبرّع بها للأبحاث العلميّة. وكلّما تمكّن السوق اللبناني من استيعاب التطوّرات التكنولوجيّة المتلاحقة, تنامت مع كفاءة الإنتاج الوطني لقواعد التنافسيّة في السوق (على سبيل المثال منع نشوء إحتكارات وتشوّهات تعطّل فعاليّته). ولعلّ السوق اللبناني لا يشكو كثيراً من عدم وجود التشريعات الضروريّة بقدر ما يشكو من عدم تطبيقها تطبيقاً حسناً. ولا بدّ من ردم هذه الثغرة بهدف تحسين بيئة النشاط الاقتصادي.
كما ان لبنان لم ينجح في فترة ما بعد الحرب الأهليّة, على أقلّه حتّى الآن, بتطوير سوق مالي فاعل, أكان ذلك على صعيد حجم التداول أو عدد المؤسّسات التي تشارك فيه. فسوق بيروت المالي هو حاليّاً أصغر الأسواق العربيّة حجماً وفعاليّة. وأمّا بالنسبة للخصخصة التي قد أصبحت أكثر قبولاً من حيث المبدأ, فإنّ نجاحها يرتبط بشروط يجب توفّرها إذا ما توخّينا أن ينتج عنها إستعمال أفضل للموارد المتاحة, بما فبه رفع مستوى الموارد المخصّصة للاستثمار, إضافة إلى تحفيز تطوير سوق بيروت المالي. هذا مع العلم أنّ التقنيّات التكنولوجيّة الحديثة قد أطاحت بما كان يُعتبر سابقاً إحتكارات طبيعيّة, بما يساعد على تفادي أن تكون عمليّة الخصخصة كناية عن انتقال إحتكارات القطاع العام إلى إحتكارات في القطاع الخاص. وبالطبع فإنّ من أهمّ قضايا الخصخصة إنعكاساتها الإجتماعيّة التي يتوجّب بها خدمة لمبدأ العدالة الإجتماعيّة.
بالنسبة للمناخ الإقتصادي فإنّ لبنان يواجه تحدّيات كبيرة من أهمّها التمكّن من ترسيخ قواعد الإستقرار الإقتصادي والنقدي المتمثّلة بالسيطرة على عجز الموازنة الكبير وبالتالي على الإرتفاع المتواصل للدين العام بحيث أصبحت خدمته تشكّل عبئاً كبيراً جدّاً على موازنة الدولة. وكما هو معلوم فإنّ توقّعات المستثمرين لا تتأثّر فقط بالتطوّرات السياسيّة, بل أيضاً بالوضع المالي العام للدولة, وبطرق المعالجة المطروحة.
لقد عانى الإقتصاد اللبناني في فترة ما بعد الحرب الأهليّة من اختلالات الوضع المالي العام للدولة, فتحوّل التمويل الداخلي من القطاع الخاص إلى القطاع العام من أجل تغطية عجز الموازنة المتفاقم وذلك بفوائد مرتفعة. وهذا الإتجاه بالتمويل أثّر بدوره سلباً على الإستثمارات الخاصّة والنمو الإقتصادي, ناهيك عن الضغوط على سوق القطع. وبالتالي فإنّ من أهمّ شروط تحسين المناخ الإقتصادي هو التمكّن من معالجة هذه الإختلالات الكبيرة بحيث يُعاد تركيز أسس الإستقرار الإقتصادي والنقدي.
ولا بدّ من التشديد على أنّ المناخ الإقتصادي ومسيرة التنمية يتأثّران كثيراً بنوعيّة الحكم القائم خصوصاً في عالم منفتح على بعضه البعض. ومن هذا المنطلق تعدّدت الدعوات إلى ترسيخ الشفافية في التعامل ومحاربة الفساد, كعوامل مؤثّرة في النمو الإقتصادي. كلّ هذه الأمور تُختصر في أداء المؤسّسات, وتحديداً مؤسّسات القطاع العام, ومقدار ما يرتكز أداؤها على معايير المسؤوليّة والكفاءة والشفافيّة والإنتاجيّة.
إنّ لبنان كما الكثير من الدول الأخرى يواجه تحدّياً كبيراً بهذا الخصوص, والأمل أنّه سيتمكّن من مواجهته بنجاح. هذه قضيّة رئيسيّة لا يمكن لأيّ بلد أن يتغاضى عنها مهما كانت الظروف الآنيّة. فالأداء المؤسّسي يشكّل أحد العناصر الأساسيّة للأداء الوطني.
التكتّل الإقتصادي العربي وشروط نجاحه:
يؤدّي التكتّل العربي الإقتصادي المنفتح بالنّسبة للبنان وللدول العربيّة الأخرى إلى توسّع كبير في آفاق أسواقها, وبالتالي في فرص تطوير الكفاءة للإنتاجيّة والتكنولوجيّة لكلٍّ منها. ولكنّ فرضيّة الإفادة من هذه الفرص مبنيّة على توفّر بعض الشروط نذكر منه:
أوّلاً : أن يتماشى قيام التكتّل مع متطلّبات العولمة, على سبيل المثال لجهة الإنفتاح الإقتصادي (وما يعني ذلك من تنشيط لدور القطاع الخاص في التنمية) وتأمين المناخ الإقتصادي الملائم ورفع مستوى الأداء المؤسّسي.
ثانياً : أن تُحسن الدول المعنيّة تطبيق الخطوات الآيلة للتقارب الإقتصادي ومنها آليّة التنسيق المطلوبة.
ثالثاً : أن تتعاطى الدول العربيّة مع متطلّبات التنمية المستدامة, وفي طليعتها قضايا البيئة, وعلى دور المعايير الدوليّة السائدة.
رابعاً : أن يكون التكتّل مبنيّاً على استغلال الميزات النسبيّة لكلّ دولة من دوله. إن توفّر هذه الشروط مجتمعةً يكفل للدول المعنيّة تعظيم الفائدة الإجماليّة للتكتّل قياساً لتكاليفه المتمثّلة أساساً بتقليص بعض جوانب السيادة الوطنيّة لصالح سيادة التكتّل, والتأقلم التدريجي على الصعيد الوطني لمتطلّبات الإندماج.
إنّ قيام التكتّلات الإقتصاديّة الكبيرة, كالإتحاد الأوروبي, يتطلّب من الدول العربيّة مواجهتها ككتلة إقتصاديّة موحّدة عوضاً عن أن تتعامل معها كلٌّ على حدة كما يحصل حاليّاً. فمن البديهي أن التفاوض والتعامل العربي الجماعي مع التجمّعات الإقتصاديّة الخارجيّة يقوّي القدرات التفاوضيّة للبلدان العربيّة, ويفتح أمامها بالتالي فرصاً للإفادة من التعاول مع الكتل الخارجيّة, وهي فرص لا تكون متوفّرة في حال راحت كلّ دولة تفاوض بمفردها.
كلمة ختاميّة:
إنّ التحدّيات التي يواجهها لبنان في نطاق العولمة كبيرة جدّاً. ومن البديهي أنّ قدرته على مواجهتها بنجاح تتوقّف على تمكّنه من توطيد وضعه الداخلي إقتصاديّاً ووطنيّاً على أسسٍ تكفل قيام المناخ الإقتصادي والمجتمعي الملائم. هذا هو الأساس الذي يقوى بقيام تكتّلٍ إقتصادي عربي منفتح.
المراجع
(1) إنظر بهذا الخصوص كتاب دور القطاع الخاص في الإقتصادات العربيّة, الذي يضمّ وقائع الندوة المنعقدة في الكويت في 11 12 نيسان/ إبريل 1999, والتي نظّمها كلّ من الصندوق الإقتصادي والإجتماعي وصندوق النقد العربي.