أعياد ومناسبات

العيد معكن أحلى
إعداد: ليال صقر الفحل

معارك نهر البارد وعبرا وفجر الجرود وغيرها، مرّت أمام عيني في لحظة، اجتاحت مخيلتي صور شباب يتقدون شجاعة ونبلًا واندفاعًا، غادرونا في نعوش ملفوفة بعلم لبنان تغمرها الورود وحبّات الأرز، وتركتنا على وقع الزغاريد ممزوجة بصيحات الوجع.

 

عزمت أن أكون قوية في هذا اليوم، لأنقل فرح أبناء ضباط وعسكريين شهداء في الاحتفال الذي أقيم على شرفهم في نادي الرتباء المركزي الفياضية احتفاءً بالعيد. ومع أوّل باص من أصل ستة باصات نقلت أطفالًا من المناطق اللبنانية كافة، ومع دخول أوّل مجموعة منهم، ضعفت عزيمتي وانهمرت من عيني دموع حارقة، دموع لم تستطع محو ابتسامة رسمتها براءتهم وقد دخلوا باحة النادي راكضين. خلعوا أحذيتهم بلمح البصر وشرعوا يقفزون بين الألعاب التي استقدمها جهاز الرعاية لترفه عنهم. رموا بأنفسهم على ما يحبّون من دون تفكير واستسلموا للفرح. أباؤهم من قبلهم، رموا بأنفسهم في أحضان الشهادة من أجل من يحبون، من أجل وطنهم.

 

عيونهم نطقت فرحًا

كان يمكن أن يكون العذر هذه السنة أنّ الأوضاع الاقتصادية لا تسمح بإقامة احتفالات بالأعياد كما جرت العادة قبل الأزمة، لكنّ قائد الجيش العماد جوزاف عون لم يقبل أن تمرّ أعياد آخر السنة من دون التفاتة فرح حيال أبناء من أعطوا أغلى ما يملكون. خصصت القيادة لهم يومًا رأينا فيه عيونهم تنطق فرحًا وسمعنا ضحكاتهم تصدح ملؤها الحياة. عقيلة قائد الجيش السيدة نعمت عون كانت في مكان الاحتفال قبل انطلاقه. بقيت مع الأطفال حتى اللحظة الأخيرة، حملت بعضهم، وأخذت صورًا تذكارية مع معظمهم، جلست على السجاد مع كثير منهم، وسألتهم ماذا يحتاجون وماذا يطلبون وكيف يشعرون. راقبتها من بعيد وعن كثب، عيناها خاطبتا عيونهم، التمست منهم امتنانهم لعطاء المؤسسة واهتمامها بهم، ورضاهم عن أبيهم القائد كما يقولون، هو الذي لم يبخل عليهم يومًا بتلبية طلب أو أمنية أو بلفتة، في الأعياد وفي الأيام العادية.

 

ألوان العلم على الوجوه وفي القلوب

أوين وأليكسا جورج بو صعب، علي وريان مشيك، سيرين جول قزي، رنيم محمد صقر، دانييلا داني كرم، روزاريتا وكلاريتا كميل عطاالله، كيت وبيار بيار زغيب، ليا روبير العشي، أبناء وبنات شهداء كان لي شرف لقائهم، شرف النظر في عيونهم البريئة، عيون تغمرها الفرحة من دون أن تخفي ما يسكن أعماقهم من ألم. أطفال بحاجة إلى دعم الأب ورعايته وحضنه الدافئ ومساندته في كل وقت وحين، وقد اضطروا لمواجهة صعوبات الحياة باكرًا. سألت بعضهم: ماذا تقولون لبابا في السماء؟ توقعت أن يقولوا لا تقلق يا بابا نحن بأيدٍ أمينة، لكنّ دموعي سبقت أجوبتهم، لا محارم معي. بجانبي طاولة وضعت عليها أدوات للرسم على وجوه الأطفال. التقطت محرمة ومسحت بها دموعي، وإذ بألوان العلم اللبناني الذي كان يرسم على وجوه الأطفال، تستقر على وجهي. للحظة شعرت أنني تساويت معهم من خلال ألوان علم الوطن. تبنى الأوطان بالإلفة والمحبة والاتحاد رغم الاختلاف، ألوان العلم الموحّدة رسمت على وجه أحمد كما بيار، وريتا كما فاطمة، واجتمعوا كلهم في مناسبة واحدة وفي كنف مؤسسة واحدة حاضنة جامعة.

 

من دون أي خطأ!

جنود مجهولون كثر كان لهم فضل نجاح الاحتفال، أوّل هؤلاء الجنود رئيس جهاز الرعاية والشؤؤن الاجتماعية للعسكريين القدامى العقيد الركن جهاد مرعي، وضباط وعسكريون من الجهاز عينه لبسوا ثياب «بابا نويل»، رقصوا ورسموا على وجوه الأطفال وحرصوا على سلامتهم واهتموا بالتفاصيل ليكون التنظيم سيد الموقف رغم العدد الكبير للحاضرين.

خُصصت ١٦ قافلة لنقل الأولاد وأمهاتهم إلى مكان الاحتفال، ٧ من منطقة الشمال، ٥ من البقاع ٢ من الجنوب ١ من جبل لبنان وأخرى من بيروت. ١٢٠ ضابطًا وعسكريًا من الجهاز ونادي الرتباء والشرطة والمخابرات وآخرون من القطع العسكرية المختلفة، كانوا كخلية نحل لا تهدأ عملوا كمجموعة متكاملة لإنجاح هذا النهار الحافل والصاخب.

هنا لا بد من الإشارة إلى أنّ هذا الاحتفال المركزي شكّل سابقة من نوعها على صعيد الاحتفالات التي يقيمها الجيش لعائلات الشهداء والتي كانت تُقام في المناطق. فقد اجتمع ٣٥٠ ولدًا من عمر ١٤ سنة وما دون في كنف نادي الرتباء في الفياضية، وكانت المبادرة مناسبة لتعارف الأبناء الآتين من بيئات مختلفة ويوحدهم دم غالٍ بُذل من أجل لبنان.

أسبوعان من العمل المضني للوصول إلى نتيجة ١٠/١٠ ولا خطأ واحد، تحضير المكان وتأمين مستلزمات الزينة والهدايا وتحدي الوصول إلى تأمين التمويل والرعاية (Sponsoring)، فرز الهدايا وتحضير لوائح الأسماء للاستفادة من التقديمات المالية... عمل شاقّ لم يكن لينجح لولا همّة ضباط المؤسسة وعسكرييها وكفاءتهم، ولولا ثقة القيادة بهم.

 

الروابط الراسخة

استُقبل المدعوون، وكانت لهم صورة تذكارية مع السيدة نعمت عون وجهاز الرعاية وفريق العمل في باحة النادي الخارجية، ثم انتقلت الجموع إلى قاعة النادي حيث استهل الاحتفال بالنشيد الوطني اللبناني، تلته كلمة ترحيبية لرئيس جهاز الرعاية العقيد الركن مرعي وأخرى للسيدة نعمت عون، اللذين أعربا عن فرحهما لوجودهما مع أبناء الشهداء، مؤكدين عزم القيادة على المحافظة على الروابط الراسخة مع عائلات من قدموا حياتهم فداء للبنان، كما عبّرا عن الامتنان لحضور ضيوفهم الأعزاء، وتمنيا لهم أعيادًا مجيدة.

جورج ابن الرائد الشهيد بيار بشعلاني، وبريسيلا ابنة الرقيب الشهيد ميخائيل فجلون اعتليا المنصّة بباقتين من الورود قدّماها بكل محبّة وامتنان للسيدة عون التي انحنت لتقبيلهما.

كُتُب شكر ودروع تذكارية قُدّمت إلى كل من السيد هاني شيت لدعمه المادي للاحتفال، وللفنان إيلي مسعد والسيد رائد أبو مراد الملقب بالساحر جينو لتقديمهما عروضًا مسلية للأطفال، وللسيد طوني زرد ممثلًا بعقيلته السيدة جيزال هاشم زرد لتقديمه الـ jeux gonflables والسيد سمير وهبه لتقديمه مستلزمات الـface painting وفقاعات الصابون، ولكورال الفرع الرابع دير القمر- كلية الفنون الجميلة والعمارة في الجامعة اللبنانية ممثلة بالأستاذ ماريو جاد.

 

«ما في غير الجيش»

على هامش الاحتفال كان لي فرصة الحديث مع معظم المشاركين في زرع البسمة على وجوه الأطفال، هم من تبرعوا بوقتهم وجهدهم وحضّروا من دون مقابل. لم يتذمّروا من جهد التحضير ولا من عناء البروفات المكثفة، لسان حالهم نطق :«لولا المؤسسة العسكرية ما كنا واقفين هون اليوم»، «ما في غير الجيش رح ينقذ لبنان»، «هي المؤسسة الوحيدة اللي منوثق فيها»،«شو ما قدمنا قليل قدام التضحيات اللي عم بيقدمها الجيش كرمالنا»...

بين حمامة تتحول إلى محرمة، وأرنب حقيقي يغدو لعبة، وفقرات التنويم المغناطيسي، والرقص والغناء مع الكورال وأغاني الفنان إيلي مسعد، مرّ الوقت بلمح البصر، ضحكوا، تفاجأوا، رقصوا، ولعبوا... ثم اجتمعوا على مائدة واحدة، يومهم كان حافلًا بالمرح.

 

الهدايا وفرحة العيد

فرحة العيد لا تكتمل من دون هدايا، و«بابا نويل» الجيش كان سخيًا جدًا... السيدة عون اهتمت بالتوزيع شخصيًا، كل طفل يتقدم منها ويستلم هديته، كانت تراقب الفرح في عيونهم، وتطمئن إلى أنّهم نالوا ما كانوا يتمنونه.

انتهى اليوم الجميل، وغادر الجميع على أمل أن يقدّر الله المؤسسة على البقاء دائمًا إلى جانب عائلات شهدائها رغم التحديات والظروف الاقتصادية الصعبة، وهي لطالما أكدّت أنّ هذا الأمر يقع في طليعة أولوياتها، كيف لا وهي مؤسسة الشرف والتضحية والوفاء؟!