ضيف العدد

الفتى العائد على صهوة جواد
إعداد: أمين ألبرت الريحاني

سماحك أيها الفتى العائد إليّ على صهوة حصانك بعد أربعين عاماً. أحدّق في وجهك محاولاً أن أستعيد ذاكرتي الهرمة. من تُراك تكون؟ ألمح في أساريرك ما عرفته وأحببت منذ أقدمت على خوض غمار الحياة. أرى في عينيك البريق الذي ألفته قديماً وتأبطته عدتي وسلاحي لمواجهة الدنيا. أتلمس على وجنتيك آثار أحلام هزّتك كما هزّتني، غير أنها لم تهزمك كما هزمتني. فأنت ما تزال في أوج وهجك الذي ما يزال طعمه تحت حلقي، لكن السنين أوجعتني كما لم توجعك، فظلّ وجهك مضيئاً وعيناك حادتي النظر، وصار وجهي خافت اللون وعيناي متعبتين من هول الأيام. ظلّ جبينك وضّاحاً مشرقاً، وترك الزمن أثلامه محفورة على جبيني.

سماحك أيها الفتى الذي ما عرف طعم الكهولة منذ أربعين عاماً فحمل شبابه ومشى بثقة وعزم أعرف أنهما لا يرتدعان. أما أنا فقد تعددت كبواتي وأشرف جوادي على السقوط لولا صورتك أمامي. منذ عشرات السنين وأنت أنت، لا تقوى عليك الأيام، ولا يلين لك جانب. أحتفظ بصورتك لا على الورق فحسب بل في أعماقي لأستقوي بك على المصاعب ولأعوذ بك من شياطين الانكسار. باعدت المسافات بيننا يا صاحبي. حِكْمَتُك أنك وقفت حيث أنت تراقبني من بعيد فحافظت على أحلامك التي هي ملح الأرض، أما أنا فوقعت ككل الناس فريسة طيشي، وطيشي أنني مشيت مع الزمن فتساقطت نفسي على نفسي من دون أن أدري. وشغلتني الحاجة فعرجت عن ذاتي من دون أن أدري. أصارحك القول أن الحنين يشدني إليك، فأتخيلك رئيساً لـ”جمعية نهضة الشبيبة” في قريتك تحث أعضاءها على العمل من أجل عمل اجتماعي وثقافي تخدم به مجتمعك الصغير، ثم رئيساً لـ”عصبة الشباب اللبناني” في مدينتك تدفع الزملاء فيها على بلورة ولاء وطني نظيف، لا تسوده إلا المصلحة العامة ومستقبل كريم للمواطنين. وتحضرني مناسبات قديمة عزيزة على قلبي كنت تقف فيها الخطيب المفوّه والمناضل المكافح الذي امتاز بكونه صاحب رأي وموقف. أينها تلك الأيام يا صاحبي؟ أين بريقها؟ وأين إشراقاتها النضرة؟

أراك الآن على مسافة أربعين عاماً فلم تتبدل ملامحك، ولم تتغير أسارير وجهك، رغم أن المدينة قد تبدّلت، والوطن قد تغيّرت معالمه، والعالم برمته قد اختلفت أسسه، وأنظمته، وقدراته، وحتى الأشكال. أحسدك لأنك لم تتغير كسائر المخلوقات، وأسخر من نفسي كيف بدلتني الأيام. تُـرى أهذه هي الحكمـة في التقـاط صـورة تجمّد اللحظـة فتكـون لها غلبـة على الزمن، ونسير نحن بـلا وعي منـا، يسير صاحب الصورة الى مصيره مهمـا ادعـى تصميماً وتخطيطـاً مسبقـين؟

هل كنت تدري ما سوف تؤول إليه حياتك؟ هل أصابتك بعض الشظايا مما آلت إليه أيامي؟ هل خطر ببالك أن هذا الذي تحدّق به الآن، كما أحدّق أنا بك، هو أنت بالذات كما صرته بعد أربعين عاماً من عزّ شبابك؟ أذكر كيف كنت تبني القصور لآمالك وأحلامك، كيف كنت تسخر من جور السنين، وكيف كنت تتسلح بإرادة صلبة على متابعة الطريق. أذكر كيف كنت أنت تخطط ليومك ولغدك معاً حتى إذا ما هفوت هفوة استعضت عن واحدهما بالآخر وأكملت المسير !! أما أنا اليوم فأجدني أحسب ألف حساب للكبيرة والصغيرة، وإذا ما نجحت مرة أكون قد أخفقت مرات.

فيا صاحبي القديم الجديد، يا صورتي التي كنتها منذ عشرات السنين، يا أناي الذي أرهق ذاكرتي لأستعيده في أعماقي، سماحك لئن لم أحقق لك كل مبتغاك لأنني قديماً لم أحسب حساباً لمصاعب الأيام. سماحك لئن لم آت لك بكل آمالك وطموحاتك لأنني قديماً لم أدرك أن لفرسي كبواتها، ولقنديلي خفوته، ولنفسي زلاتها.

عزائي أن هذا الوجه الصبوح، وجه الفارس المقدام، قد خرج من صورته الورقية القديمة ليحتل وجهاً جديداً من لحم ودم، بكل ما في ذلك الوجه من عزم وإقدام وإشراق. وإن بدأ المشيب يخيّم فوق هامتي فثمة هامة مطلة آتية، هامة "خالد" تأخذ من الفارس القديم عدة الإلتحام مع الحياة، وقد تمتاز عدته بأحلام أكثر واقعية وبواقعية أشد مراساً.

وليس لديّ اليوم سوى خيباتي، على امتداد الوطن الصغير والكبير، أقدمها للفارس الجديد. ليس لدي سوى آلامي المتراكمة على امتداد مدينتي، وسائر المدن، أقدمها للفارس الجديد. ليس لدي سوى وعيي لحقيقة ذاتي الصغرى وذاتي الكبرى، قديماً وحديثاً، أقدمه للفارس “الخالد” الآتي إليّ عبر صورتي القديمة، علّه يجمل صورتي الأخيرة ويتابع الطريق.