- En
- Fr
- عربي
بلى فلسفة
مال العصر الحاضر الى إلغاء الفروقات في اللباس بين الجنسين، قياساً على ما فعله في أمور أخرى كان محقاً في معظمها: حرية التعبير، التعلّم، ممارسة الفنون، العمل في بعض المهن وتولّي بعض الوظائف... وظنّت المرأة أنها انتصرت بذلك إذ لم يعد من المستغرب لديها أن تُرى في ثياب الرّجل، لكن من المستغرب، ومن الغريب، أن يُرى هو في لباسها (التنّورة، الفستان...)
وإلاّ سمّي مخنّثاً. لكنّها في الحقيقة خسرت في أن تستمر امرأة لأنها لم تعرف أن ملامح المرأة ضرورية تماماً كما هي دلالات الرجل ضرورية هي الأخرى، وإلاّ لمَ يُرفض ارتباط المرأة بأختها، وميل الرجل الى ابن جنسه يا ترى؟
لقد نشأ التغيير الإجتماعي - المعروف باسم التطوّر - على محاولات الكشف عن أسرار الجسد، وإلغائها، وإراحة الأذهان من همّها. ليس في القصد من طرح هذا الرأي وقوف ضد الجسد، فطفْح كيل البطن وتهدّله تهديله أيضاً، في لفت وقح للنّظر، ليس كالكشف الجميل عن العنق أو عن إحدى الذراعين مع ما في ذلك من تلميح خفيف الى حميميّة الصّدر، وهذا ما عرفته الحضارات القديمة قبل الحضارات المعاصرة كما دلّت الرسوم المحفورة على صخور المغاور والكهوف، والموجودة في وثائق الكتب والدراسات. كما أن طول الألبسة آنذاك كان يتعدى الركبة أحياناً، ويرتفع عنها في أحيان أخرى، ويستقر عليها في الغالب والسّائد، ولم يكن ذلك إلاّ تطبيقاً لإشارات الفن الذي كان لا يزال يعتبر الطبيعة أمه ومعلمته وموجّهة خطواته، شجرة كانت أو نهراً أو جبلاً أو مساءً أو صباحاً أو فضاءً أو رجلاً أو امرأةً، وكانت العين ترسم آنذاك عيناً والغصن غصناً وثنية الرداء ثنية رداء لا طعجة صفيح في التنك البالي.
والفستان هو من أعزّ ضحايا هذا العصر. لقد تم القضاء عليه بكياسة ولباقة في "حرب باردة" دامت طويلاً بحيث غلبه النسيان واختفى صامتاً لا أم له تبكيه ولا ابنة تنوح عليه... فلو أمسكه الأعداء في ساحة عامة ومزّقوه أو أحرقوه لوقف الى جانبه المناصرون مستنكرين المشهد، مدينين الحادث، والتقطوا صورة له في مأساته تحرك المشاعر أو تغيّر المواقف (والكل يعرف ما أثر الصورة في المعارك والصراعات) ، لكن الأعداء هؤلاء، وبذكاء كبير داروا حول الفستان من هنا، ونظروا إليه غدراً من هناك، وحاربوه على مهل، في اللّيل وفي النّهار، في الصّيف وفي الشتاء، وسحبوه الى الأرض مرة بعد مرة، ثم جرّبوا مكانه السروال - هو ثوب الرجل المسمى "بنطلون" - وزيّنوا به المرأة، فقيل عنها أخت الرجال، لا بل قيل "فحلة"، وهنا ضخامة التعبير وقساوته، وهنا تغليب الحيْوَنَة على الأنسنة في البشر رجالاً ونساءً. إنني أميل عن هذه الكلمة لاصقة بالرجل نفسه، فكيف إن كانت عنواناً للمرأة هي الأخرى؟! وأكثر ما أنفر من غلظتها وقساوة وطئها وانعدام رقّتها، في الشّعر، وذلك حين يُقال عن المتمكنين في ذلك الفنّ الفصيح البليغ المعبّر السّامي "فحولا".
إنّه تعبير يذكّر بقطعان الماعز في فصل التخصيب، أو بمزارع البقر في كل فصل، فكيف إذا انتقلت التسمية الى الإنسان رجلاً أو امرأةً، والأخيرة هي الكائن الذي خُلق الدلال كرمى لعينيه، وخلقت الرقّة والحلاوة والخجل واحمرار الوجه، ذلك الإحمرار الذي تسعفه، وتحل محلّه عند اللزوم، الوسائل والمساحيق، والذي من أجله حملت سيدتنا الحقيبة الصغيرة "الجزدان". لقد سمعت، في جلسة عامة، ناقدة متخصصة تتكلم على الأدب والشعر، وتصنّف شاعراً آمنت بشعره بين "فحول الشعر"، فسألت نفسي على الفور سؤالاً غير أدبي: ما وقع هذا التعبير على هذه المرأة يا ترى؟ هل استعذبت شعر شاعرها الى هذا الحدّ أو الى هذه النّاحية أو الى هذه الزّاوية الخصوصية الجانبية؟ هل ندرت التعابير لدى من سبقوها، ولديها، واختفت التسميات فوقفت المعاني في الإسطبل تنتظر حصتها في الإنجاب؟ وهل أنا سيّء النيّة طارحاً تلك التفسيرات؟
أعود الى الفستان، إنني انتظر فصل الشتاء لكي أراقب مسيرة المرأة في مواقفها من اختيار طراز ألبستها، فأتأكد بأمّ العين أن الأشكال باتت واحدة لديها في كل الفصول: الملفوفة ملفوفة، والمكشوفة مكشوفة. ففي الأول تظنّ أن في الداخل خشباً يمشي أو فلّيناً أو رجلاً ربّما، أو امرأةً أو امرأتين، من يدري، فالمساحة تتسع أحياناً. وفي الثاني ترى كشف حساب بالعين المجرّدة كشفاً عن هبوط في البورصة، وانكشاحاً في الرؤية وضيقاً في الرؤيا عند الجهتين الأمامية والخلفية مع مساحة في الحرية في هذه الأخيرة إذ أن ورقة التّين التي تزيّن ما تبقّى من الأمامية لا زالت عالقة في الشجرة لم يُسقطها النسيم العليل الذي يشفي من الأمراض، ويدعو الى طيب الرحلات، ويحيي الذكرى في الوجدان، وينوّر "الذاكرة" في مقدمة البطن، وينعش الحنين الى زمان الفستان سيّد السيدات الذي استحال عيداً زائلاً مرمياً في الماضي، محكوماً بالسؤال السّاخر: "مين بعد بيلبسه اليوم؟"، وليس من المستبعد أن يأتي يوم لو سمع فيه أحد التلامذة قول نزار قباني على لسان محبوبته:
حتى فساتيني التي أهملتها فرحت به، رقصت على قدميه
لعاد الى ذيل الصفحة يفتش عن تفسير كلمة "فساتيني"، أما الشاعر فقد يعرفه، لأن هذا الأخير استطاع المحافظة على شهرته وكتب بألسنة الجميع، فأبدع مرّة وتساهل مرّة خصوصاً في ختام نتاجه. أما ورقة التّين الدّهرية القديمة، الورقة التي ضاقت صدور معظم نساء الأرض بها، فقد قُطع غصنها بالمنشار، وسلخ جلدها بالسكين، وجفف حليبها في العراء، ومع ذلك فلا زالت عالقة معلّقة، "لا تحسّ على دمها" ولا تقع أرضاً فتريح حاملاتها الرّازحات النّائيات تحت الوزر والوزن، تتصبّبن عرقاً من همّها وعبئها، و"على شو؟ ما حدا بيستاهل!"، الى أن تيسّر الأمر ويبست الورقة، وبان الأمل بسقوطها، إلاّ أنها مع ذلك لم تسقط، وكادت المرأة تصاب باليأس قبل الأوان، إذ أن المسألة باتت لا تحتمل، ومن يعدّ العصيّ ليس كمن "يتمنّاها" على الجانب الآخر للأوراق اليابسة تلك، على الأقفية اللامعة شبه المكشوفة، المشتاقة للّفح والسّفح وانسكاب العطور. ولمّا لم تنفع المحاولات، الى الآن على الأقل، في إسقاط ورقة التّين رغم النجاح في تيبيسها، فقد انتقلت الورشة الى استدارة تلك الأقفية، التي تحمي الورقة من الخلف، والتي ظهرت بعد أن كشفها الكاشفون المنقبّون استدارتين اثنتين لا واحدة، أو، فلنقل ربوتين منخفضتين، وفي ذلك تناقض واضح بين انخفاض المستوى وارتفاع القيمة بعكس الربوتين اللّتين في الأمام الى الأعلى إذ أنّهما ترتفعان مستوى وقيمة، لذا كان اسمهما ربوتي اشتهاء... وصدقت التّسمية!
لقد كنت أشكو، في قرارة نفسي، من انكشاف البطن لخوفي عليه من لفحات البرد ومن لسعات الهجير، خصوصاً حين يرخي "بطنه" الى الأمام، ويطوف فوق حدود حزامه كلّما أنعم الله عليه بالدهون والشحوم - وهي كثيرة - الى أن رأيت العجب في سفح جبل الظهر، خصوصاً حين تفنّن المتفنّنون في تصميم منطقة تاريخية عازلة فوق ربوعه فخطّوا فيها خيطاً أفقياً ربطه في الوسط، خيطاً دقيقاً انحدر قليلاً ثم اختفى تحت القماش... واعلمْ، إن كنت قادراً على العلم، أين انتهى؟ مساحات لونية تكثر فيها المحاولات، لا بل نماذج فنية متنقّلة لا يهدأ لها حال، تقف مرة وتجلس أخرى، تميل يميناً وتميل يساراً، وتراهن على النتائج وتشدّ الأعصاب، وتتأنّى وتتمهلّ وتأخذ وقتها قبل أن تضطر في الختام الى التعرّي التامّ لولا عراقيل المصمّمين والخيّاطين الذين سينوحون، لو حصل ذلك، "نوح باكٍ في الدروب"، وسيرفعون جيوبهم فارغة، أما جيوب المرأة فستمتلئ آنذاك، لكنها ستكون معرّضة للسرقة والضيّاع، لأن المرأة تلك في عريّها ستترك ثوبها بعيداً معرّض الجيوب للسّلب والنّهب... إلاّ إذا جرحت جلدها، وخاطت فيها جيباً صغيراً يتّسع للقرش العزيز!