- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
جريمة ممنهجة في ظل غياب المحاسبة الدولية
مضى على إنشاء كيان الاحتلال الإسرائيلي نحو سبعة وسبعين عامًا. وتبعًا لمخططات إحلال المستوطنين اليهود مكان أهل الأرض الفلسطينيين، برز العامل الديموغرافي باعتباره ركيزةً أساسيةً في الصراع العربي الإسرائيلي، وفي الحروب الكبرى والصغرى التي وقعت منذ العام 1948 وحتى اليوم. وقد انشغلت عقول زعماء الحركة الصهيونية دومًا بالسؤال: كيف يمكن دفع الفلسطينيين، الذين كان وعيهم الوطني ينمو ويتعزز بسرعة بفعل التوترات والصدامات الناجمة عن انتزاع أرضهم، إلى مغادرة وطنهم ”طواعية“؟
في الواقع، لم يكن القادة الصهاينة يقصدون بعبارة «الهجرة الطوعية» منح الأفراد حرية الاختيار، بل كانوا يشيرون إلى النتيجة الحتمية لمجموعة من الإجراءات القهرية التي لا تترك أمام الفلسطينيين أي خيار سوى الهجرة. وقد أولت المؤسسات الإسرائيلية والصهيونية اهتمامًا بالغًا بهذا النوع من الصراع، باعتباره هاجسًا وجوديًا يوميًا، تحت شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وهو الشعار الذي صاغه إسرائيل زانغويل، أحد المنظمين الأوائل للحركة الصهيونية في بريطانيا، والذي قال: «علينا إقناعهم بلطفٍ بالهجرة. ففي نهاية المطاف، لديهم كل جزيرة العرب بمساحتها التي تبلغ مليون ميل مربع. لا يوجد لدى العرب سبب خاص للتعلق بهذه الكيلومترات القليلة. إنّهم مجبولون على طيّ خيامهم والرحيل بصمتٍ، فدعهم يمتثلون لذلك الآن». اتضح هذا التوجّه أيضًا من خلال الدراسات الأكاديمية الكثيرة التي أُجريت في هذا الصدد مثل دراسات الباحث الإسرائيلي أرنون سوفر بشأن الكثرة والقلة السكانية، وكذلك ما تم وضعه من توصيات في مؤتمرات إسرائيلية استراتيجية، كمؤتمرات هرتسيليا، وما صدر عن عدّة مراكز أبحاث مثل مركز أبحاث الأمن القومي. وقد اعتمدت قيادات الحركة الصهيونية في فلسطين المحتلة، على ركيزتين أساسيتين، لفرض خريطة ديموغرافية قهرية تضمن تفوقًا عدديًّا ساحقًا لليهود على حساب الفلسطينيين.
تمثلت الركيزة الأولى بارتكاب المجازر والتطهير العرقي لطرد غالبية الفلسطينيين على غرار ما ارتكبته العصابات الإرهابية مثل «الهاغاناه» و«إتسل» (إرغون)، ما أدى إلى تهجير 850 ألف فلسطيني في العام 1948، أي نحو 61% من إجمالي عدد الفلسطينيين آنذاك، الذي كان يُقدّر بمليون وأربعمئة ألف. وقد انتمى هؤلاء اللاجئون إلى 531 مدينة وقرية دُمّرت بالكامل. لكن بفعل النمو الطبيعي، الذي يقدّر بنحو 3% سنويًّا، بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المشرّدين في العام الجاري نحو ستة ملايين ونصف المليون، يستحوذ الأردن على 41% منهم، يليه قطاع غزة (22%)، فالضفة الغربية (16%)، ثم سوريا ولبنان (10.5%). كما يوجد بضعة آلاف منهم، في كل من مصر والعراق والمنافي البعيدة.
وتجلّت الركيزة الثانية لفرض الديموغرافيا اليهودية باستجلاب 650 ألف يهودي مهاجر حتى 15 أيار 1948 من مختلف بقاع الأرض وتوطينهم في المناطق الفلسطينية المحتلة؛ ليصبح عدد السكان اليهود في «إسرائيل» حتى العام الحالي، سبعة ملايين ومئة ألف يهودي، وهم يشكّلون المادة البشرية التي تمدّ الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية بمجرمي الحرب المطلوبين للعدالة الدولية أمثال نتنياهو وغالانت.
ملابسات التهجير الطوعي
إنّ فكرة التهجير الطوعي من المناطق الفلسطينية التي احتلتها «إسرائيل» في العام 1967، ليست جديدة، بل طُرحت منذ ذلك الحين تحت مبدأ «أراضٍ محتلة أوسع وعدد سكان أقل». ومن أبرز تلك المحاولات مشروع العام 1955، الذي اقترحته «إسرائيل» بدعمٍ بريطاني وأميركي لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في شمال سيناء، لكنه واجه رفضًا مصريًا حازمًا بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر ومعارضة شديدة من القيادة الفلسطينية. كما حاولت حكومة ليفي أشكول منذ الستينيات تهجير سكان غزة طوعًا عبر تقديم حوافز مالية ومساعدات لوجستية. وقال أشكول في إحدى الجلسات المسجلة: «يجب أن يتم ذلك بهدوء، وبطريقة غير مباشرة، حتى لا نجذب انتباه العالم». أما وزير دفاعه آنذاك، موشيه ديان، فكان أكثر صراحة، إذ قال بلا مواربة: «يجب أن يبقى في قطاع غزة فقط ربع سكانه، والبقية ينبغي أن يُزالوا بأي طريقة ممكنة». ولم يكن ديان يتحدث عن تنظيم حياة السكان، بل عن استئصالهم وتقليص أعدادهم إلى الحد الأدنى وعن ترحيل الغالبية الساحقة بأي وسيلة كانت.
أما يغال ألون، أحد كبار الشخصيات السياسية في ذلك الوقت، فكان يرى أنّ الحل الأمثل يكمن في سيناء إذ قال: «يمكننا توطين جميع لاجئي غزة هناك، فالمساحة في سيناء تكفي لهم، ويجب أن نبدأ فورًا». كما برزت محاولات توطين الفلسطينيين في الأردن في الحقبة ذاتها، ما تسبّب بتصاعد التوتر بين الفصائل الفلسطينية والنظام الأردني، وانتهى الأمر بأحداث أيلول الأسود 1970. وطرحت الأمم المتحدة ودول غربية خططًا أخرى مثل برامج التوطين الدولي عبر «الأونروا»، التي دعت إلى توطين الفلسطينيين في دول مضيفة مقابل دعم مالي، لكنها قوبلت برفضٍ حاسم من قبل اللاجئين الفلسطينيين الذين تمسكوا بحقوقهم الوطنية لا سيما حق العودة وحق تقرير المصير، ومن جانب الدول العربية التي رفضت تحميلها مسؤولية حل القضية على حسابها نيابة عن «إسرائيل».
في المجال نفسه، تحدث البروفسور الإسرائيلي أور لافي عن الأساليب السرية التي استخدمتها «إسرائيل»، في محاولة تنفيذ خطة التهجير الطوعي هذه، وتمثلت بتشكيل لجان خاصة لتقديم مغريات لإقناع السكان بالمغادرة، وإجراء دراسات لفهم أفكارهم وتوجهاتهم. لكن الكاتب اعتبر هذه الأساليب غير عملية ووصفها بـ «جريمة حرب واضحة». وأكّد أنّ «ضم أجزاء فقط من قطاع غزة من دون سكانها الفلسطينيين من شأنه أن يؤدي إلى العواقب الدبلوماسية نفسها للضم الكامل، في حين لا يقدم أي فوائد استراتيجية حقيقية لـ«إسرائيل». مستخلصًا أنّ الإدارة التكنوقراطية المحلية، هي الخيار الأقل إشكالية من بين مجموعة الخيارات «غير الكاملة» التي تواجه «إسرائيل».
وكما فشلت المحاولات السابقة، تواجه «إسرائيل» اليوم تحديات مشابهة تعيق تنفيذ أي خطة تهجير طوعي، ما يجعلها تبحث عن خيارات أخرى، مثل فرض الحكم العسكري أو التهجير القسري التدريجي. وفي هذا السياق، أشار المدير التنفيذي لمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، تامير هايمان، إلى أنّ عودة أهالي شمالي القطاع إلى مناطقهم ومن ثم إجلاؤهم مرة أخرى، سيواجه رفضًا من المجتمع الدولي. ووصف هذا السيناريو بأنّه غير عملي في جميع أنحاء القطاع، وحتى ضم شمال غزة وإنشاء مستوطنات هناك، ستترتب عليه تكاليف تفوق الفوائد، سواء من حيث الاحتجاجات المحلية، أو العزلة الدولية، والمقاطعة. ثم خلص إلى القول: «يجب أن نسأل أنفسنا ما إذا كانت إعادة احتلال غزة تستحق العناء. يبدو أن الأمر ليس كذلك».
التهجير القسري
تتماشى سياسة التهجير الإسرائيلية مع العقيدة الصهيونية الأساسية الساعية إلى السيطرة على الأرض بالقوة. ولتسهيل التهجير القسري للفلسطينيين من قطاع غزة، عمد العدو الإسرائيلي إلى جعله غير صالح للعيش من خلال التدمير الممنهج للبنية التحتية، واستهداف المرافق الحيوية، وفرض حصار خانق أدى إلى نقص حاد في الغذاء والمياه والدواء، ما أسقط أي خيار آخر سوى الهجرة القسرية. وقد رأى العقيد والباحث في معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي عوفر غوترمان، «أنّ الضم والحكم العسكري في قطاع غزة، يُكلّف أكثر مما يفيد». وأفاد بأنّه على الرغم من دعم بعض الأحزاب داخل الائتلاف الإسرائيلي لفكرة الضم الجزئي أو الكلّي لقطاع غزة، فإنّ ذلك سيضر بمكانة «إسرائيل» في المجتمع الدولي، كما بالمشروع الصهيوني. فعلى الصعيد الدبلوماسي، قد يتوقف التطبيع السعودي - الإسرائيلي، والذي تشترط السعودية لحدوثه حل القضية الفلسطينية، وقد يتعرض الاستقرار الإقليمي للخطر بالإضافة إلى تهديد اتفاقيات السلام مع مصر والأردن. وعلى الصعيد الاجتماعي فإنّ منح الجنسية لأكثر من مليوني فلسطيني سيشكل تهديدًا وجوديًا للمشروع الصهيوني. وفي المحصلة يؤدي مشروع التهجير القسري إلى تداعيات سلبية أكثر من الفوائد. إذ على الرغم من وجود فرصة ذهبية اليوم، فإنّها لن تكون سهلة، لأنّ النظام الدولي والعلاقات الدبلوماسية يُشكلان عائقًا كبيرًا أمام الحكومة الإسرائيلية المتطرفة في تنفيذ مخططاتها. فالرفض الأردني والمصري، والضغوط السعودية المرتبطة باتفاق التطبيع، إضافة إلى الضغوط الدولية والمحلية، كلها عوامل تُعقّد أي محاولات إسرائيلية لتنفيذ خطة التهجير القسرية المنشودة. كما أنّ اقتراح الرئيس دونالد ترامب بإنشاء «ريفييرا الشرق الأوسط» في غزة يقضي على القضية الفلسطينية بأكملها ويمس الأمن القومي لدول الطوق مباشرة، ويدخل الشرق الأوسط مجددًا في حلقة من الغضب والرفض ويخلق هزات جيوسياسية لا تُحمد عقباها.
تطهير عرقي وجريمة إبادة
لم يتبدل شيء في العقيدة الصهيونية تجاه الفلسطينيين، سواء كانت الحكومات التي تتبناها يسارية أم يمينية. والفارق الوحيد أنّ من كانوا بالأمس يخططون للهجرة القسرية في الغرف المغلقة، باتوا اليوم يعلنونها على الملأ، بلا تردد، ولا قلق من تبعاتها السياسية أو الأخلاقية. كما أنّ غياب المحاسبة على الانتهاكات القانونية والإنسانية الخطيرة التي ارتكبتها «إسرائيل»، وما زالت ترتكبها بحق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، تتسبب في توالي الانتهاكات الجرمية منقطعة النظير لحقوق الإنسان. فخلال النزاع الحالي، عمد العدو الإسرائيلي إلى قطع الغذاء والماء والكهرباء، عن 2,2 مليون شخص يعيشون تحت الحصار منذ 17 عامًا، كما تم محو عائلات بأكملها من سجلات الأحوال المدنية، وتدمير أنظمة الصحة والتعليم، وتسوية مناطق بأكملها بالأرض. وبالتالي فإنّ عمليات التشريد والقتل الجماعي والتهجير المنظم والقسري للفلسطينيين من أراضٍ ومناطق عاشوا فيها وأجدادهم لأجيال، إنّما هو في الواقع سياسة «تطهير عرقي» ممنهجة، و«هولوكوست» قلّ نظيرها في التاريخ البشري بأسره.