- En
- Fr
- عربي
سياحة في الوطن
تقع على خط أثري يمتد من فلسطين الى الناقورة
إنها السجود أمام تمثال الإله كما تقول إحدى تفسيرات اسمها, وعلى أرضها مقام قديم لنبيّ يرجح أنه والد السيدة العذراء, ما يعني أن السيد المسيح باركها بمروره فيها...
القليلة ليست “قليلة” بل هي كثيرة وكبيرة بشعبها المثقف والمضياف, وبسهولها المنبسطة التي تحمل هدايا الطبيعة من ليمون وموز “ولا أطيب”, وبآثارها الضاربة في القِدم.
الى أقصى الجنوب توجهنا, لنزور بلدة وادعة, عريقة, معطاء, تنشر نور المعرفة من حولها, وتحوّل همجية القذائف الى كشف عن كنوز أرضها الغنية...
موقعها وآثارها
تقع بلدة القليلة الى الجنوب من مدينة صور على بعد نحو ثمانية كيلومترات, يحدها من الغرب البحر, ومن الجنوب بلدة الحنيه ومزرعة العزية وتلة البق والصالحاني, ومن الشرق بيادر زبقين وجبال البطم, ومن الشمال المعليّة.
وتتربّع بلدة القليلة على هضبة ترتفع عن سطح البحر نحو 45 متراً, وإن تكن أطرافها قد امتدت حالياً الى وادي المعلية شمالاً, والى منطقة عمران شرقاً التي ترتفع عن سطح البحر 85 متراً, والى الصحارى وعزية الفوقا جنوباً وحتى الطريق الدولية غرباً.
تشـهد آثار كثـيرة على أهمية موقـع البلدة في القديم, فقـد كانت حتى وقـت قريب, مليئـة بالبقـايا الأثـرية المعـمارية المنتـشرة في غير مـكان: أعمـدة من الغرانيت والرخام, وتيجان ذات أحجام كبيرة, وأرضيات من الفسيفساء احتوت زخارف بنائية متناسقة, وأشكالاً تشبه الصليب البيزنطي, محاطـاً بأغـصان نبات الخشـخاش. كما عثر على مدفن مقبب يقوم على ركائز وسطية, ويتقدمه مدخل مدرّج.
كانت القليلة منذ القدم ممراً للأنبياء ومقراً للأولياء, ما أكسبها مكانة مرموقة في التاريخ؛ فقد أقام فيها عمران والد السيدة مريم العذراء, ولا يزال قبره موجوداً في المحلة التي تسمى عمران, والتي يرجح أن السيدة العذراء ولدت فيها.
ويقول الخبير الأثري المهندس جعفر فضل الله: تعرّضت بلدة القليلة للقصف أثناء عدوان نيسان سنة 1996, وأدت إحدى القذائف الى الكشف عن معلم أثري هام بالقرب من مقام النبي عمران عاينته المديرية العامة للآثار, التي كشفت عن إنشاءات تعود الى الحقبة البيزنطية, ومعالم أثرية أخرى عبارة عن فسيفساء وأعمدة رخامية ضخمة.
مقام النبي عمران
في بلدة القليلة مزرعة تعرف باسم مزرعة عمران. وفي الإتفاقية التي عقدت بين ملكة صور آرام اراريت او أوغاريت, وبين حاكم مصر آنذاك ورد ذكر المنطقة باسم “دير عمران”.
وليس ثمة من شك إطلاقاً في تسمية منطقة “عمران” نسبة الى صاحب المقام الموجود فيها, فالتاريخ لم يذكر لنا إلا رجلين معروفين بهذا الإسم هما: عمران والد النبي موسى, وعمران والد السيدة العذراء (كما ورد إسمه في القرآن). وفي نظرة الى المقام الموجود حالياً والى مجموع الدلائل الموجودة والتي اكتشفت حديثاً وتظهر فيها آثار مسيحية, لا يرقى الى الشك أن هذا المقام هو مقام والد السيدة مريم العذراء.
وتأكيداً لذلك, جاء على لسان الأب مخايل عبّود: “إن مريم بنت عمران (العذراء) هي من بلدة القليلة الواقعة جنوب صور, وما يزال قبر والدها عمران قائماً حتى اليوم, وهو يسمى “مزار النبي عمران” وجميع أهالي المنطقة يعرفونه”.
ويعود المقام الموجود حالياً الى الحقبة العثمانية, ويتضمن بقايا معمارية تعود الى فترات أخرى, وهو مكوّن من غرفتين, وقسم تمّ بناؤه حديثاً ويضم غرفتين للصلاة وحمامات ومشارب وأمكنة للوضوء؛ أما القسم القديم فعبارة عن غرفتين, الأولى تضم قبر النبي عمران, طولها ثمانية أمتار وعرضها سبعة, ويتكون سقفها من أربعة عقود.
في الجهة الغربية للغرفة يوجد رف عريض توضع عليه الفوانيس والسبحات والشموع, وفي الجهة الجنوبية منها محراب للصلاة. وعلى العقود الأربعة بنيت قبة بارتفاع ثلاثة أمتار. وللغرفة شباك صغير من الجهة الغربية, ولها باب واحد من الجهة الشمالية, هو مدخلها الوحيد, وارتفاعها زهاء متر ونصف المتر.
أما الضريح الذي يقع في الجهة الجنوبية خلف المحراب, فعبارة عن هيكل خشبي في داخله قبر من الرخام, ويحوطهما سور من الحديد المشبك.
الغرفة الثانية المجاورة صغيرة الحجم, وفي حائطها الجنوبي محراب صغير وتسمى غرفة أم النبي, والتي لا يزال رفاتها موجوداً في مدفن في حائط الغرفة.
يعلو مدخل المقام تاجان رخاميان, وهذا دليل على وجود هياكل من الحجم الكبير. وعلى المدخل فوق الباب الرئيسي حجران رخاميان مستطيلان لا وجود لمثيلهما إلا على مداخل الكنائس, تحتهما حجر مستطيل كانت فيه لوحة تبيّن تاريخ المقام, وقد سرقت هذه اللوحة أيام الإنتداب الفرنسي.
أم العواميد
في بلدة القليلة تقع أم العواميد والتي تغطي أطلالها مرتفعاً صخرياً مطلاً على السهل الساحلي الممتد من رأس الأبيض شمالاً الى رأس الناقورة جنوباً. والجدير ذكره أن القليلة تقع على خط أثري ممتد من فلسطين باتجاه الناقورة, وهو يمر بمحلة أم العواميد وقبور الرصاص الواقعة غربي البلدة, مروراً بمنطقة عمران, ووصولاً الى بلدة حناويه ثم قانا باتجاه بلدة الخرايب, وفي جميع هذه المواقع ظهرت معالم أثرية هامة جداً. وهذه الطريق كانت ممراً للقوافل عبر التاريخ, ومن المرجح أن يكون السيد المسيح عند توجهه من فلسطين الى لبنان قد مرّ بها ومكث في منزل والد السيدة العذراء في محلة عمران.
وتحيط بمنطقة أم العواميد من جهتي الجنوب والشرق, مرتفعات جبلية تحوّل الطريق الساحلي الى ممر ضيّق, وتسهم في تكوين حدود منطقة صور الطبيعية, التي تنغلق عند رأس الناقورة بحيث يحميها البحر من جهة والجبال المقابلة في الجهة الأخرى.
ولكن على الرغم من الإشارة الواردة في نصّ مصري من أيام رعمسيس الثاني, الى ممر جبلي يمكن تحديده في جوار أم العواميد, وعلى الرغم من الإعتقاد بأن ثمة حصناً من عهد الأمبراطورية المصرية قد شيّد في هذه المنطقة, فإن أياً من الآثار المكتشفة فيها لا يتخطى القرن الخامس ق. م. باستثناء شفرتي منجل مسنن من العصر الحجري الحديث وبعض الكسر الفخارية من أواخر القرن الثامن.
بيد أن المدينة عرفت, على ما يبدو, إزدهاراً كبيراً في القرنين الثالث والثاني ق. م, عندما أصبحت مركزاً دينياً ريفياً ارتبط بمدينة صور وخضع لبطالسة مصر في البداية, ولسلوقيي سوريا منذ أوائل القرن الثـاني ق. م. ومـن ثم في العـهد البـيزنطي.
أجرى ارنست رينان في موقع أم العواميد أولى الحفريات أواسط القرن التاسع عشر, ولم تستأنف أعمال التنقيب إلاّ مع موريس دينان ما بين عامي 1943 و1945. والآثار المكتشفة تمثلت بأنقاض معبدين ومجموعة أبنية هي في معظمها من العصر الهلنستي, إضافة الى العديد من الأعمال النحتية واللقى الأخرى.
في غربي الموقع وجد معبد عشتروت الذي يتألف من بهو خارجي تحيط به قاعة أعمدة وأروقة وغرف جانبية, ويتوسطه هيكل Cella)), والكل يقوم على منصة أو قاعدة عالية, هي بمثابة أكروبول صغير اصطناعي يطلّ على البحر, ويحيط به سور خارجي أو حرم مقدس. أما المعبد الشرقي المجاور, فيشبه الأول في بنيته وفي مخططه العام: هيكل وسط بهو خارجي تحيط به أروقة وغرف جانبية, ويقوم على منصة طبيعية.
ومن الآثار المكتشفة بين أنقاض أم العواميد, مجموعة من التماثيل والأنصاب, التي إكتشف بعضها خلال أعمال تنقيب عشوائية ونقل الى الأسواق التجارية المحلية والعالمية؛ ولعل أهمها النصب المحفوظ في متحف كوبنهاغن والذي يمثل شخصية دينية اسمها بعل يتن, ونصب ممـاثل يحـمل اسـم بعـل شمار في المتحـف الوطني في بيروت, ونصب ثالث يمثـل كاهناً, في متـحف الـلوفر في باريس.
قد يكون من الملـفت للانتباه أن آثار أم العواميد تجمع بين مؤثرات مختلفة: يونانيـة (طـراز البنـاء وأعمـدته الدورية), ومصريـة (الكورنيـش المصري في أعلى الجدران الخارجية), وربمـا هنالك تأثيـر حثي. ومع ذلك, فإن المجموعة البنائية تخضع, من حيث ترابط أعضائها وطريقة توزيعها, لمفاهيم خاصة بمنطقة الشرق الأدنى القديم: فالهيـكل المبـني وسـط بهو خارجي محاط بالأروقة والغرف الجانبية المتباينة الوظـائف (عبادة, سكـن...), إنما يذكـرنا بنمـط العمارة لدى الشعوب السامية وبخاصة في البلاد الكنعانية الفينيقية.
شؤون وشجون
مـع رئيـس بلدية القلـيلة الدكتور محـمود أبو خليل كان لنا لقاء حول شؤون وشجـون القليلة وبلديتـها فقال: عندما استلـمنا البلدية كان صندوقها خالياً, وكان مركـزها غرفـة صغيـرة تابعة لحسينية البلدة, إلا أننا وبمساعدة الأهالي أنجزنا بوقت قصير مبنىً بلدياً بطابـقين, وقررنا أن يكون الطابق الأول منه مكتبة عامة للبلدة, لكن نظـراً للظروف تم تحـويل هذا الطابق الى مخفر للأمن الداخلي.
ومـع تأمين مركز يليق بالبلدية, التفتنا الى مشاكل البلدة وأولها مدخلها وطريقها الضيقين, فقمنا بتوسيعهما. وقد تحقق ذلك بفضـل جهود الأهالي الذين قدموا أراض من أملاكـهم الخاصة في سبيل تطوير وتحسين بلدتـهم, وبفضـل أموال قدمها البنك الدولي.
الى ذلك نواصل سعينا لشق طريق تربط بلدتنا ببلدتي الحنية وزبقين من الناحية الجنوبية, وأخرى من الناحية الشرقية تصلها بالشعيتية وجبال البطم.
أما مـن الناحية الإنمائية فقد قمنا, وبعد أن توسعت البلدة وكثرت بيوتها, ببناء خزان مياه ثان لتلبية حاجات السكان. كما ركزنـا أمـام كل وحـدة سكـنية عمـود إنارة.
وتهتم بلدية القليلة بالبيئة بشكل كبير, فقد قمنا منذ 3 سنوات وبمساعدة الجيش اللبناني بمشروع تشجير أطلقنا عليه اسم “لكل بيت شجرة”. حيث زرعنا شجرة أمام كل منزل, وكلّفنا أهل المنزل بالإهتمام بها. ورحّب الأهالي بالموضوع, والدليل أن كل الأشجار التي زرعت, نمت وكبرت بشكل ملفت.
وعن المشاريع المستقبلية للبلدية يقول الدكتور أبو خليل: إن حجر الأساس الذي سيتم وضعه لمدرسة رسمية على مستوى عال هو المشروع الأقرب حالياً, وهو سيكون على حساب مجلس الجنوب, ونحن نسعى ليكتمل وينعش المنطقة من الناحية التعليمية.
ومن أهدافنا تأمين الأموال اللازمة لإمداد البلدة بشبكة كاملة للصرف الصحي لأن الوضع يسوء شيئاً فشيئاً, والحاجة ملحّة لتنفيذ هكذا مشروع حيوي.
ويتابع الدكتور أبو خليل حديثه حول القليلة فيقول: بلدتنا مميزة جداً, وأول ما يميزها محافظتها على الطابع الزراعي بعد أن أصبح هذا الوضع نادراً في البلدات اللبنانية, وهي تشتهر بالحمضيات على أنواعها, والموز, وجميع أنواع الخضار والبقول.
وفي القليلة تتخذ كل القرارات بالإجماع والتراضي حيث تعيش القرية بانسجام وسلام, هما نتيجة مستوى ثقافي عال يتميز به الأهلون. ففي بلدتنا هنالك 55 مهندساً و35 طبيباً, و120 من حملة الإجازات, و10 من حمـلة شهـادات دكتوراه, و6 محامين, و6 ضباط. كل هـذه الميزات جعلت القليلة منارة للعـلم في محيطـها ومثـالاً للتوافـق والمحـبة يحتذى به.
القليلة وعائلاتها
تقارب مساحة أرض القليلة الـ12 كلم2, ويبلغ عدد منازلها 516 منزلاً, عدد سكانها نحو أربعة آلاف نسمة يتوزعون على العائلات التالية: أبو خليل, أمين, إسماعيل, بدوي, بياض, بشروش, تقي, جواد, حمادة حاج, حلوم, حمزة, خضر, درويش, دبوق, رمضان, رزق, سلمان, سالم, سويدان, سبليني, شمالي, شبلي, صغير, صبراوي, ظاهر, طفلال, عامـر, عرقلي, عبدالله, عيسى, عربيه, عقـيل, غريل عز الدين, فوعاني, فضل الله, فقيـه, فاخـوري, قبيسي, قاسم, قرعوني, قرى قطيش, كرشـت, كساب, مهدي, محسن, معتوق, نصرالله, هسي, هاشم, يوسف, يونس.
المرجع
كتاب “القليلة ممر الأنبياء ومقبرة الأولياء”, للدكتور وجيه أبو خليل.
تصوير : المجند شربل معوض