قصة قصيرة

الكيمياء الجديدة
إعداد: العميد الركن المتقاعد إميل منذر

إنه اليوم الأخير الذي كان الناس يظنّونه بعيدًا.
في هذا اليوم أرسل الله إلى الأرض رياحًا ماحقة أهلكت كلّ نفس حيّة. وللوقت جمع رئيس الملائكة الخَلْق كلّهم في رحاب السماء بنفخة بوق، وأوحى إليهم بأحكام سيّد الكون ثوابًا وعقابًا، كلٌّ بحسب ما جنت يداه من أفعال خير وشرّ. أما الله فكان في هذه الأثناء داخل «محترفه» وبين يديه حفنة من تراب الجنّة ينظر إليها من غير أن يرفع بصره عنها. كان يفكّر في كيمياء جديدة يصنع بها إنسانًا جديدًا لا يشبه النموذج الأوّل في شيء. النموذج الأوّل تبيّن فيه عيوب كثيرة ونواقص جمّة لم يستطع الأنبياء والمرسَلون، على مدى آلاف السنين، إصلاحها.
لكن سرعان ما ساد الضجيج. وارتفعت من هنا وهناك أصوات تحتجّ وتستنكر. وكان أعلاها صوت امرأة محدودبة الظهر، قبيحة الوجه. قالت: لقد ظلمني الله بهذا الحكم القاسي. أنا لا أستحقّ نار الجحيم.
- بل تستحقّينه لأن قلبك لم يعرف غير الحسد. قال رئيس الملائكة.
- لكنني لم أخطئ إلى أحد، ولم أؤذِ نملة.
- أما قيل لك إنّ الخطيئة تكون في الفكر كما في القول والعمل!؟
- لقد خلقني الله قبيحة الوجه رديئة الشكل. وخلق آخرين على أجمل صورة وأبهى هيئة. أين عدالته في ما فعل، أين؟!! صرخت المرأة بأعلى صوتها؛ فارتفعت من حولها أصوات كثيرة تؤيّدها وتنتصر لها.
- لقد جعل العليّ لك عينين مبصرتين، وأذنين سامعتين، وعقلًا مفكّرًا، فيما الكثيرون من خلقه عُمْيٌ وصُمٌّ وخُطْل.
- بسبب بشاعتي عَنَسْتُ في بيت والديّ. فيا ليتهما لم يلداني، ولم أفتح عينيّ على هذه الحياة التي لم يكن لي حظّ فيها. هكذا قالت وبكت؛ فبكى معها خلق كثير.
وكان بعد ذلك أن نَتَأ من بين الجمع طفلٌ بدا في الربيع العاشر من العمر. واستقرّ في الصفّ الأماميّ. ورفع نحو رئيس الملائكة عينين بريئتين: «وأنا متُّ بداء عضال قبل أن أذوق لحلاوة الدنيا طعمًا، وأنال من سعادتها نصيبًا، فيما عرفتُ شيوخًا قد عمّروا حتى سئموا. فما الحكمة من هذا!!».
- رأى الله في قلبك بزرة شرّ مذ ولدتك أمّك؛ فرفعك إليه باكرًا قبل أن تشبّ وتنمو البزرة في قلبك؛ فتأتي أعمالًا شرّيرة يكون فيها هلاك نفسك.
وإذ تراجع الطفل خافضًا بصره راضيًا بقضاء الله فيه، تقدّم رجل في العقد السابع من العمر دافعًا الناس بمنكبيه، ورفع الصوت محتجًّا: لماذا لم يعاملني الله معاملة الصبيّ، فتركني أكبُرُ والشرّ في داخلي يكبر، حتى أصبحتُ سارقًا، وماجنًا، وقاتلًا!!... إن كان الله أبانا جميعًا، فكيف يفرّق بين أبنائه، ويميّز واحدًا من آخر!!
وفيما سادت الوشوشات والهمهمات، وقف رئيس الملائكة حائرًا، ينظر بصمت إلى وجه الرجل الذي تعلوه نَدَبة عريضة، وتتوسّطه عينان غاضبتان.
ولمّا لم يهتدِ إلى جواب، التفت الملاك جانبًا، وقال: «وأنت؟ ألك اعتراض أيضًا على حكم الله؟» مشيرًا بيده إلى رجل ما انفكّ يشرئبّ برأسه بين الرؤوس، ويلوّح بيديه صارخًا بصوت كاد يُخرسه البَحَح.
- أجل، إني أعترض على إحصائي بين الأثَمة. أنا لا أستحقّ هذا العقاب.
- لا تستحقّه!! ألم تسرق يومًا صندوق أحد المصارف وفيه مال الأيتام والأرامل والمعوزين؟!
- وكان فيه أيضًا أموال القَتَلة والمتحكّمين برقاب العباد من تجّار جَشِعين ومسؤولين كانوا دائمًا فوق القوانين.
- بِئْسَ العدالة التي تردع الشرّ بالشرّ. فكما يستحيل أن تنبت سنبلة القمح من بزرة الزؤان، فإنّ الخير لا يمكن أن يخرج من رحم الشرّ.
- سرقتُ لأن أولادي جاعوا وعَرِيوا، فيما أولاد الناس يأكلون بملاعق من ذهب، ويتسربلون بطَيالِسَة الحرير والأرجوان. ولما رأيت أن الله قد أعطى الناس حظوظًا ولم يعطني، ورزقهم ولم يرزقني، سلكتُ دروب الشرّ والرذيلة، وكان الله يرى ويعرف لأنّه قيل لنا: لا تسقط شعرة من رؤوسكم إلا بعلمه. فلماذا لم يكفّ يدي ويسدّ دربي! أليس هو القادر على كلّ شيء!
- لقد أعطاك الله عقلًا، وأراك الخير والشرّ، وتركك ليعرف أيّ الطريقَين تسلك.
- كان يجرّبني إذًا!
- ألم تجرّب أنت خالقَك أيضًا!
- هذا أغرب كلام سمعته. قال الرجل، ثم استدار، وصاح: أسمعتم أيها المغفّلون! إلهكم يحتاج إلى أن يجرّبكم لأنه لا يستطيع التفريق بين أخياركم وأشراركم قبل أن يُدخلكم في التجربة.
وفيما حارَ ذو الجناحين الأبيضين جوابًا، مضى الرجل وهو يهمهم، ويضرب الهواء بقبضتي يديه.
عندئذٍ برزت من بين الحشود عجوز ماتت في السبعين من عمرها، وتقدّمت ببطء وصمت. ثم رفعت إلى ملاك الربّ رأسًا خالطَ سوادَ شعره الطويل بياضٌ، لكنّ وجهها المستدير ما زال يحتفظ ببشرة زهرية وقسمات ناعمة، ما يدلّ على أنها كانت في صباها ربّة من ربّات الحِجال والجمال.
- أرى أن لديك ما تقولينه يا جدّتي. قال رجل الله.
- وأنا أيضًا لا أستحقّ عقوبتي القاسية.
- بل تستحقّين أقسى منها.
- إسمع إذًا هذه الحكاية.
جيء يومًا بعصفورة صغيرة من عشّها قبل أن تختبر الطيران، وزُجّ بها في قفص جميل إلى جانب عصفور راحت تقاسمه طعامه وشرابه وتسمع صداحه. لكنها لم تستطع أن تحبّه. قلبها الصغير أحبّ عصفورًا بمثل سنّها، جميل الريش مثلها، حطّ يومًا على غصن شجرة قريبة؛ فوقعت أسيرة هواه من أوّل نظرة وأوّل تغريدة. كذلك هام العصفور الطليق بها عندما رقصت قبالته ضاربةً قضبان القفص بجناحيها، وجاوبته بصفيرها الحزين. وبعد محاولات عديدة استطاعت العصفورة أن تنسلّ بجسمها النحيل من بين القضبان، وتطير باتّجاه شجرة حبيبها، وتحطّ على أحد أغصانها. حينئذٍ خفق قلب الحبيب خوفًا عليها: «لا تقتربي يا صغيرتي. فأنا لست حرًّا كما تظنّين. قدماي عالقتان بهذا الفخّ اللعين». قال العصفور وهو ينظر إلى القضيب المغلّف بالدِبْق الأخضر تحت قدميه الصغيرتين. لكنّ العصفورة قفزت وحطّت على القضيب إلى جانب حبيبها تحتفّ به، وتغنّي مثله، وتنتظر الموت بفرح معه.
- حكاية جميلة أيتها الجدّة، ولكن...
- أنا هي تلك العصفورة التي زوّجها أبواها قبل أن يكسو الزَغَب جناحيها. أنا هي تلك المرأة التي عرفت أنْ لا سعادة في الأرض إلا برفقة الحبّ. وهذا الحبّ لم أجده داخل جدران بيتي.
- لقد دنّستِ سرير زوجك يا امرأة.
- مع حبيبي.
- هذه خطيئة.
- طلبتُ من الله بصدق أن يبعدني عنها.
- لكنّك لم تساعديه.
- حاولت. حاولت. لكنني ما استطعت لأنني مخلوقة ضعيفة.
هكذا قالت. ثم خفضت رأسها، وأضافت: نحن، بنو البشر، ضعفاء...بل ضعفاء جدًّا. وما أتمّت كلمتها الأخيرة حتى سالت دمعتان من عينيها، وانزلقتا بين تجاعيد وجهها.
أطلق الملاك زفرة طويلة، وإذا رجل ضخم الجثّة مفتول الساعدين يتقدّم، ويضرب الأرض بقدمه، ويصيح: وأنا أيضًا أعترض على الحكم بهلاك نفسي في نار الجحيم.
- أنت قاتل. والقاتل جزاؤه النار الخالدة. قال ملاك الربّ.
- أخذت بثأري ممّن قتل ولدي بغير جريرة.
- كان أولى بك أن تسامحه وتصفح عنه.
- أصفح عنه!!! ولمَ كان عليّ أن أفعل!!
- لأنه قيل لكم: اغفروا للناس زلاّتهم وإساءاتهم. وإن لم تفعلوا، فإن الله لن يغفر إساءاتكم وزلاّتكم.
- ها أنا لم أغفر لقاتل ولدي، ولا الله غفر لي. إذن يكون قد فعل فعلي وتصرّف تصرّفي. وهو الخالق القويّ، وأنا العبد الضعيف.
وفيما راح الرجل ينظر إلى الملاك نظرة ظفر، خفض ذو الجناحين رأسه، وسكت لأنه لم يحضره جواب.
وساد الصمت والذهول بعض الوقت قبل أن يبرز إلى المقدّمة راعٍ يأتزر بجلد شاة، ويقف مطأطئًا رأسه: «يا ليت الله قبِلَ يومذاك تقدمتي كما قبلَ تقدمة أخي».
- لم ترفعها إليه بقلب صافٍ كقلب أخيك.
- لأن الله رمى في قلبي الظلمة والغيرة وفي قلب أخي النور والمحبّة.
عندئذٍ اقترب هابيل، وعانق أخاه قايين بمودّة: «أتقول إني كاره لك حاقد عليك!؟ لا يا أخي. لقد سامحتك منذ زمن بعيد لأنني أحبّك».
وبقي الأخوان متعانقين حتى أخذ الجمع ينشقّون صفَّين مفسحين في المجال لرجل طويل اللحية كثّ الشعر، يتقدّم ببطء ساترًا عورته بورقة تين.
- آدم!! أهذا أنت! هتف رئيس الملائكة. لكنّ جدّ الخليقة لم يُجب إلا بهزّة رأس منحنٍ فوق صدر تُعَدّ عظامه.
- ما الأمر!
- نفسي حزينة جدًّا.
- علامَ يا آدم!
- لقد عشتُ في الجنّة أيّامًا سعيدة حتى ألقى الله عليّ سُباتًا عميقًا، ثم أخذ ضلعًا من ضلوعي، وصنع لي منه امرأة أغوتني، وجرّتني إلى الخطيئة، وجعلتني أبيع الجنّة، التي كانت تحت قدميّ، بتفّاحة واحدة. أترى تلك الخطيئة،التي دُفعتُ إليها دفعًا، تستحقّ كلّ هذا العقاب!!
وظلّ آدم ينظر إلى وجه الملاك منتظرًا الجواب، حتى سمع خلفه صوتًا هاتفًا يناديه؛ فاستدار ليبصر حوّاء بقدّها الجميل، وشعرها الطويل، وابتسامتها الساحرة. وإذ مدّت يدها إليه بتفّاحة، مدّ آدم يده طائعًا منصاعًا. لكنها استدارت ومضت من أمامه، فمضى حثيث الخطوة وراءها وهو عارف إلى أين تقوده.
وانقضى النهار كلّه وملاك الربّ يستمع إلى شكاوى الخَلق وظلاماتهم. ولما ملأ الحزن قلبه وأغرقت الدمعة عينه، دخل على الله، وأخبره بكلّ ما شهده وسمعه؛ فرفع الله إليه بصره، وقال بصوت ينضح حنانًا: قل لهم إني عفوت عنهم، فليدخلوا إلى فسيح جنّاتي كلّهم.
إذ ذاك رقص قلب الملاك فرحًا. وخرج إلى الحشود حاملًا البشرى السعيدة. أما الله فانحنى فوق حفنة التراب، وسقاها حنانَ قلبه دمعتين سقطتا من عينيه. ثم جبلها بالكثير الكثير من القناعة والطيبة والمحبّة والتسامح، لعلّ مخلوقه يكون هذه المرّة نظيفًا من الطمع والرياء والكراهية.