أمس واليوم

اللباس العسكري

ودوره في تحقيق الانضباط وبناء المعنويات

يُعد الزي العسكري دليلًا على الانضباط، كما أنه يوحي بالالتزام والطاعة، ويعزز مشاعر الوحدة والترابط، والمودة والتضامن، بين الأفراد الذين يرتدونه، فضلًا عن كونه بمثابة هوية للجيش.

 

التلازم بين الجيوش واللباس الموحّد

كان الاهتمام بالهندام واللباس العسكري على الدوام مطلبًا مهمًا لدى جميع الجيوش نظرًا إلى ما يوحي به من احترام وهيبة، وما يبعثه في نفوس الأعداء من رهبة، فضلًا عن أنه يعد من المقومات الحيوية التي تدل على قوة الجيش وفاعليته، من خلال ما يبثه من شعور بالفخر والزهو.
يعود تاريخ اللباس العسكري الموحّد إلى بداية تشكل الجيوش قبل نحو خمسة آلاف سنة، حيث كان المحاربون يرتدون الدروع الجلدية والحديدية. وتُظهر الرسومات والمنحوتات العائدة إلى حضارات الرومان والإغريق والفرس وبلاد ما بين النهرين ومصر، وجود أنواع مختلفة من تلك الدروع، كما تبرز تلك الرسومات والمنحوتات أرتالًا من الجنود يرتدون لباسًا موحّدا.
ثمة إجراءات خاصة في معظم الدول تتعلق بسياسة استخدام الزي العسكري الموحّد، ويمكن بمقتضى القوانين الجنائية معاقبة الجنود في حال ارتداء زي عسكري معين بصورة غير مشروعة، وعادة ما تنص اللوائح العسكرية على شكل الأزياء والشارات وكيفية ارتدائها.
تشتق كلمة «يونيفورم»/Uniform باللغة الإنكليزية، من كلمتي «أونا»/Una (واحد)، و«فورما»/Forma (شكل)، وترجمتها الحرفية الزي الموحّد. ويعني ذلك بشكل عام زيًا مصنوعًا من قماش معين وبتصميم أو لون أو علامات معينة تنص عليها لوائح و/أو تقاليد تنطبق على جميع أفراد أي وحدة عسكرية.
يقصد من ارتداء الزي العسكري الموحّد الدلالة على الانتماء إلى القوات المسلحة لدولة ما. وقد تختلف الأزياء المعتمدة في قطع الجيش الواحد تبعًا لاختصاصها، فيكون لون زي القوات البرية مثلًا مختلفًا عن لون زي القوات البحرية أو الجوية. أما التصميم فغالبًا ما يكون متماثلًا. وتستخدم الشارات أو العلامات للتمييز بين القطع وفق اختصاصاتها وأسلحتها.
في أيّ حال، يعكس الزي الموحّد النظام والانضباط، ويحثّ على الطاعة من خلال مختلف العلامات، بما في ذلك الشارات التي تدل على الرتب، وتعزز الهيكلية الهرمية، كما أنّه يحثّ أيضًا على الاحترام والرهبة، ويرمز إلى القوة والسلطة.

 

أولى علامات الزي الموحّد
ثمة أدلة مبكرة على استخدام الأزياء العسكرية منذ ما يربو على خمسة آلاف عام مضت، ولا سيما في الحضارات ذات الطابع العسكري وفي بلاد ما بين النهرين.
وتعتبر روما أم الجيوش الحديثة، لكن بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، اختفت الصور الأولية للزي العسكري الموحّد في أوروبا بنسبة كبيرة، إلى أن عادت مع عودة قوات الدولة إلى الظهور من جديد في القرن السادس عشر.
ويفسر غياب الزي إلى حد كبير، الأهمية التي علّقت على الرايات والأعلام التي كانت تشكل وحدها نقاط التلاقي بين الجندي ورفاقه في السلاح، وبالتالي تميّز بين العدو والصديق.

 

انتشار استخدام الزي العسكري الموحّد
أدت التطورات التي طرأت على المعدات العسكرية في القرنين السادس عشر والسابع عشر إلى اختفاء الدروع والخوذات الثقيلة، وفي الوقت نفسه، أصبح ارتداء زي عسكري موحّد عنصرًا رئيسيًا للتمييز بين الوحدات. وعندما بدأ تأسيس الجيوش الدائمة الكبيرة عقب صلح وستفاليا، ازدادت حاجة الجيوش الأوروبية إلى ارتداء لباس مميز في ساحة المعركة.
وفي «نموذج الجيوش الجديد» الذي عمل به في انجلترا بعد العام 1640، أُلغيت العلامة المميزة لكل كتيبة، واستبدلت العلامات بزي موحّد اللون في البداية، ثم موحّد التفصيلة لاحقًا.
في نهاية القرن السابع عشر، لاقى مفهوم الزي العسكري الموحّد قبولًا كبيرًا لدى جميع الجيوش الأوروبية. وتطور الزي العسكري الموحّد أكثر فأكثر خلال حروب نابليون، وأصبحت الموضة والأناقة هما القاعدة، وأصبح الجندي أكثر استعراضًا وأقل راحة في ملبسه من ذي قبل. وميّزت بعض القوات الخاصة، مثل جنود الهوصار من أصل بولندي، نفسها بأناقة زيّها.
في القرن العشرين، ارتدت جميع الجيوش زيًا موحّدًا للخدمة العسكرية، وقد برز هذا الأمر بوجه خاص في الجيوش المشاركة في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وفي الوقت نفسه، انتشر أكثر فأكثر استخدام الزي الميداني.

 

الزي العسكري والروح المعنوية
يتميز العسكريون بملابسهم وطريقة حياتهم وتقاليدهم وعاداتهم وخصوصياتهم التي تطبعهم حتى بعد تقاعدهم، وقد تطبع ذريّتهم من بعدهم، وهذه الخصوصيات تبتعد قليلا أو كثيرًا، عن تلك السائدة في المجتمعات المدنية.
وتعتبر البزة الخاصة التي يرتديها العسكريون رمز انتمائهم إلى المجتمع العسكري.
إن قيمة الجيوش الحديثة لا تقاس فقط بعدد دباباتها ومدافعها والوحدات الكبرى التي يمكن أن تدفعها إلى ساحة القتال، إنما وبصورة خاصة، بالروح التي تسودها وبالتقاليد المغروسة في صفوفها، وبمعنوياتها، فهذه القيم المعنوية تفوق في أهميتها أهمية القوة المادية لنيران الأسلحة، وهي أكثر ديمومة وشمولية.

 

تطوّر اللباس الموحّد في الجيش اللبناني
كما هو معروف نشأت النواة الأولى للجيش اللبناني ضمن فرقة الشرق الفرنسية التي أنشأت في العالم 1916 وضمت متطوعين لبنانيين وسوريين وأرمن.
وقد تضمنت تعليمات تنظيم هذه الفرقة فقرة عنوانها «لباس المتطوعين». فقد كان المتطوعون يزودون فورًا لباس الميدان العسكري الخاص بالقناصة الجزائريين في إفريقيا، الكاكي اللون والمشتمل على معطف وسترة، وسروال فضفاض من القماش، وكان هندام قناصة لبنان، أدنى نوعية من ذلك المعتمد في الوحدات الفرنسية.
وكان للمتطوعين لباس وحيد هو بزة العمل للقتال وللمأذونيات. أما المفارقة الأساسية فكانت في التمييز في غطاء الرأس بين العسكريين وفق انتمائهم الديني. فالمسيحيون يعتمرون خوذة وقلنوسة شرطة لونها كاكي، بينما اعتمد الطربوش للمسلمين.
في العام 1937، تم َّ إنشاء لفيف الخيالة اللبنانية، وكان هندام فرسان هذه الخيالة هو نفسه المعتمد في القوات الخاصة الملحقة بالقوات الفرنسية، ويتألف من أربع بزات: بزة الخروج، بزة العمل، بزة القتال، وبزة الإحتفال.
في ما بعد صدر نظام خدمة الجندرمة اللبنانية (1933) وهو أول نص رسمي لبناني ينظم في بعض مواده ضوابط اللباس العسكري، وقد تألف من 105 مواد وصدر بمرسوم يحمل الرقم 1977.
حول الزي من حيث الشكل، ورد في المادة 44 من المرسوم: «إن جمال هندام العسكريين واتقان حركاتهم، ومحافظة الجنود المنفردين على حسن السلوك وآدابه، وعلى احترامهم لرؤسائهم، صفات دالّة على تربيتهم العسكرية وعلى حسن طويتهم ومحافظتهم على النظام، وهو لازمة كل اللزوم لإقرار الطاعة وحفظها. وتنتهز فرصة بعض الظروف كاستعراض الجند في المركز أو تقليد الأوسمة أو الاحتفالات العسكرية، لإشراك أكبر عدد ممكن من جنود الجندرمة فيها وهم تحت السلاح».
وربطت المادة 47 الزي العسكري بالمعنويات، فورد فيها: «لما كانت قوة الجندرمة المعنوية هي قبل كل شيء ثمرة الاتحاد المطلق بين جميع الجنود الذين تتألف منهم، والثقة التامة التي يلزم أن يوليها بعضهم بعضًا، وجب على الجنود على اختلاف رتبهم أن يكونوا في جميع الظروف مثالًا لحسن الهندام والسلوك والتهذيب العسكري...».
وجاء في المادة 48: «يجب على كل ضابط عيّن في أحد المراكز أن يقدم نفسه في مركز البلوك لمعاون المفتش ولقائد البلوك. ويزور عند وصوله إلى مركزه وهو بالملابس المخصصة بوقت الخروج، قائد الموقع (إذا كان هنالك قائد موقع) والسلطات التي تمثل الحكومة...».
وفي المادة 50: «..ويجب أن تكون جميع ملابس الجنود متماثلة ونظامية وموضوع مراقبة قائد الالاي الدائمة». وتضيف إلى ذلك المادة 51: «يجب أن يكون الجنود على اختلاف رتبهم مرتدين ملابسهم الرسمية على الدوام في ما خلا الأحوال المعيّنة في المادة 29». وفي المادة 52: «لا يجوز للجنود أن يدخنوا بالغليون في الشارع، أو يضعوا أيديهم في جيوبهم، أو أن يقرأوا وهم سائرون في المدينة. ويجب أن تكون الملابس نظيفة ومزرورة على الدوام، ولباس الرأس مستقيمًا».
في 13/11/1945 صدر مرسوم بعنوان تحوير لباس الجيش اللبناني. شمل هذا المرسوم 7 مواد تناولت تفصيلات متعلقة باللباس العسكري الموحّد للجيش اللبناني. وقد ورد معه ملحق خاص بالمصطلحات العسكرية، يتضح منه أن اللباس كان مماثلًا للباس الجيش الفرنسي في حينه، وأن النصوص مقتبسة منه. ومما ورد فيه، أن المصطلحات العسكرية المدونة في المرسوم الجمهوري يقابلها بين هلالين النص الفرنسي. وهي كما يلي: اللون الاصهب: Cuir Fauve، الجلدة العاصبة: Jugulaire، طاسة القبعة: Calotte، شارة السلاح: Ecusson، لولب ذي رزة: Vis a ecrou، علاقة: Tenon، كتافة: Epaulette، كتافة ثابتة: Epaulette fixe، طوق القبعة: Col de la vareuse، كتافة نقالة: Epaulette mobile.
بعد ذلك صدرت عدة مراسيم وقوانين حول الألبسة العسكرية والشارات والرصائع المعتمدة في الجيش (1948، 1959، 1961، 1967، 1992، 1997، 1998) إضافة إلى كتاب الألبسة العسكرية (1973) وكتيّب الألبسة العسكرية (1998).
غير أنه لابد من الإشارة إلى تطور ملحوظ حصل في العام 1983 حين اعتمدت البزة المرقطة (النموذج الأميركي)، بدلًا من البزة الخضراء (النموذج الفرنسي).

 

القانون الدولي والمتغيرات الحديثة في اللباس العسكري
من المبادئ الأساسية في القانون الدولي الإنساني، وجوب التمييز بوضوح بين المقاتلين والسكان المدنيين، وهنا يؤدي الزي العسكري وظيفته في مراعاة هذا المبدأ. فدور هذا الزي لم يعد مقتصرًا على تمييز جيش عن آخر، بل تعداه إلى التمييز بين العسكريين والمدنيين. لكن ما سبق لا يعني أن الوظائف التقليدية للزي العسكري لم تعد موجودة. ففي الولايات المتحدة الأميركية مثلاً، تنص لائحة الجيش المعنونة: «مظهر الزي العسكري الموحّد واستخدامه»، على الآتي:
«يعد الجيش خدمة موحّدة يحكم فيها على الانضباط إلى حد ما بالطريقة التي يرتدي بها الجندي الزي الموحّد المفروض، بالإضافة إلى مظهره الفردي، وبالتالي، فإن ظهور الجنود كافة بشكل مهندم ومرتب يعد عاملًا أساسيًا بالنسبة للجيش ويساهم في بناء الإحساس بالفخر والحيوية...
إن أحد المقومات الحيوية لقوة الجيش وفعاليته العسكرية هو الإحساس بالفخر والانضباط الذاتي... ويجب أن يفخر الجنود بمظهرهم في جميع الأوقات، سواء بالزي أو بدونه، سواء كانوا في الخدمة أو خارجها».
إلى ذلك، أصبحت الجيوش في الوقت الراهن أكثر اهتمامًا باكتشاف أنواع جديدة من الزي لمنع رؤية مقاتليها في ظروف معينة ولتوفير مزيد من الحماية لهم، وما زالت الجهود تبذل لابتكار وقاء يكشف التهديدات ويحمي الجنود من القذائف والأسلحة الكيماوية والبيولوجية عن طريق استحداث مواد ونبائط دقيقة تدمج في نسيج قماش الزي.
 وتحدد عدة معايير عسكرية تنفيذية شكل الزي الموحد، منها مدى فعاليته ووظيفته ومرونته وإمكان رؤيته، بل وتكلفة موا ده. ويظل التمييز مهمًا في أثناء سير الحرب، ولكن المهم في ساحة القتال بشكل خاص هو القدرة على التمييز بين الأعداء والأصدقاء، وقد ساعدت التكنولوجيا الحديثة كثيرًا في هذا الصدد.

 

انضباط وطاعة
يعبّر الزي العسكري عن الانضباط والطاعة والتميّز، ويخلق نوعًا من الترابط، ويشيع روح المودة والزمالة والتضامن.
ومن أهم الملامح التي تميّز الشخص العسكري وتبدو ظاهرة للعيان، ارتداؤه للزي الموحّد المعروف عالميًا، والذي يعتبر أحد المقومات الحيوية لقوة الجيش وفعاليته، إذ إنه يدفع إلى الإحساس بالفخر للانتماء إلى مؤسسة منظمة تعمل بشكل فعال لحماية الآخرين ومنحهم الأمن والأمان.
وهو شكل من أشكال استعراض القوة، يرمز إلى السلطة والانضباط، كما أنه يساعد في خلق هوية تقوم على تماثل المظهر وتعزيز روح الانتماء للجماعة.


المراجع:
- طوني فانر، الزي العسكري الموحّد وقانون الحرب، المجلة الدولية للصليب الأحمر، نسخة الكترونية، الموقع: www.icrc.org/ar/international-review، تاريخ الدخول: 19-5- 2016.
- سامي ريحانا، المجتمعات العسكرية عبر التاريخ، دار الحداثة، بيروت.
- حسن رشيق، الهوية الناعمة والهوية الخشنة، مقال نشر في مجلة مركز الدراسات الدولية والتوثيق في برشلونة (اسبانيا) cidob في عددها 73-74 لسنة 2006، الموقع: http://insaniyat.revues.org، الدخول: 21- 5- 2016.
- سامي ريحانا، تاريخ الجيش اللبناني المعاصر (فرقة الشرق وقوات المشرق المساعدة 1916- 1926)، دار الفلسفة، بيروت، 1990، ص71.
- مديرية التوجيه في الجيش اللبناني، تاريخ الجيش اللبناني/ الجزء الأول(1920- 1945)، 2009، ص 157.

 

• تمّ إعداد هذا النص بالاستناد إلى بحث أعدّه ضباط من موقع مرجعيون وتمّ عرضه ضمن البحوث العسكرية المقرّرة للعام الحالـي.