تحقيق عسكري

اللواء السادس وفوج الحدود البرية الثاني
إعداد: أنطوان صعب، الرقيب سامر حميدو

بين شمس السهل ووعر الجبال... رجال لا يتوقفون كثيرًا عند المشقات


بين شمس السهل في البقاع ووعر الجبال في عرسال والهرمل، ينتشر رجال أتى بهم الواجب من نواحي بعيدة في الوطن: من عكار أو صور، من كسروان أو جبيل... لا فرق بين الواحد منهم أو الآخر، وحدها لهجاتهم المحلية تشي بالمنطقة التي أتوا منها. أمّا في ما خلا ذلك، فكلهم جنود الوطن المعتمرون قدسية رسالتهم، ومن تسيّر خطواته هذه الرسالة، لا يتوقف كثيرًا عند تفاصيل من نوع مشقة الطريق، أو قساوة الطبيعة وحدّة المناخ، ولا حتى عند الخطر الذي رفع الكثيرين من رفاقهم إلى مرتبة الشهادة.
اللواء السادس وفوج الحدود البرية الثاني، قطعتان من قطع الجيش المنتشرة في مناطق شهدت الكثير من التطورات والأحداث، التي تمنع «العين الساهرة» أصلًا من معرفة أي شكل من أشكال الاسترخاء أو الراحة، فما بالك بالنوم؟
«الجيش» توجهت إلى البقاع في جولة شملت قيادتي القطعتين. وهناك كانت لها لقاءات بضباط لا يكلّون من السهر مع رجالهم على توفير الأمن والطمأنينة لمواطنيهم، ولا يقصرون في مدّ يد العون لهم خلال الأوقات الصعبة. كما التقت رجالًا أشداء يفيضون عزمًا وحيوية، وحين يُسألون عن صعوبات يواجهونها، يتعجبون ويقولون: «نحن عسكر».

 

اللواء السادس
حين وصلنا إلى مقر قيادة اللواء السادس تولى أحد العسكريين مرافقتنا ليدلّنا إلى مكتب قائده العميد الركن خير فريجي. لهجته كانت كافية للدلالة على أنه من منطقة بعيدة جدًا. وحين سألناه هل تقيم في البقاع؟ أجاب بالنفي. وإذ أردفنا متعجبين: كم تستغرق الطريق من الوقت لتصل من بيتك إلى هنا؟ ابتسم بتواضع وقال: «عادي شو فيا...»، شعرنا بنوع من الإحراج نحن الذين نتذمر كل يوم من زحمة السير و«طول المسافة» بين مراكز عملنا وأماكن إقامتنا...

 

رفقة عمر...
في مكتب العميد الركن فريجي شعرنا بكثير من الألفة الممزوجة بالفخر والاعتزاز، وحين بدأنا الحديث اكتشفنا سبب هذا الشعور: اللواء السادس كان أول قطعة خدم فيها عقب تخرّجه من الكلية (المدرسة آنذاك) الحربية، ففي هذه القطعة كانت «معمودية الواجب» وأول دروب الخدمة، بما فيها من ذكريات وصعوبات وروابط...
يستعرض قائد اللواء السادس أبرز المحطات التي كلّف إيّاها هذا اللواء منذ تاريخ إنشائه العام 1983. ويتوقف بشكل خاص عند مشاركته الفعالة في الانتشار على الحدود الدولية مع فلسطين المحتلة بعد حرب تموز 2006، في مهمة انتشر خلالها الجيش اللبناني هناك للمرة الأولى بعد ثلاثين عامًا من غيابه عنها.
يومها كانت البلدات والقرى في غمرة الدمار الذي سبّبه العدوان الإسرائيلي، وكان لا بد من جهود جبارة لتخطّي الواقع الصعب، وقد وظّف اللواء إمكاناته إلى جانب قوات الأمم المتحدة العاملة في الجنوب لمساعدة المواطنين إنمائيًا واجتماعيًا وإنسانيًا.
اعتبارًا من 30/7/2010 انتقل اللواء إلى البقاع، فانتشر في البقاع الشمالي، من حدود بلدة بريتال وصولًا إلى الحدود مع سوريا، حصل تعديل في قطاعه اعتبارًا من 18 شباط 2013 حيث أصبحت مساحة انتشاره تشمل بعلبك وشمسطار وبريتال والفاكهة. وقد تولّى مهمة جديدة هي ضبط الحدود مع سوريا اعتبارًا من بلدة معربون جنوبًا وحتى عرسال شمالًا.
وحول الحدود الجغرافية لمسؤوليات قطاع اللواء، أوضح العميد الركن فريجي «أنها تبلغ حوالى 2400 كلم2، أي تقريبًا ربع مساحة لبنان، بعرض يراوح بين 15 و20 كلم، وطول يبلغ 60 كلم. أمّا طول الحدود مع سوريا والتي تسلّم مسؤوليتها اللواء، فهو 95 كلم تشمل: جرود رأس بعلبك، عرسال، نحلة، بعلبك، بريتال، حام، ومعربون».

 

«الصعوبات كثيرة ولكن العزم أكبر»
في ما يتعلق بعمل اللواء وتنفيذ مهماته التي تزداد صعوبة بسبب التطورات في سوريا، يقول العميد الركن الفريجي «إن هذه المنطقة الجبلية وعرة وتضمّ عشرات الطرقات الترابية التي تستخدم للتهريب بالاتجاهين، ولذلك عمدنا إلى فتح طرقات جديدة، وإقامة حواجز ثابتة على الطرقات الرئيسة، وكمائن وحواجز ظرفية على الطرقات الفرعية التي نقفل أحيانًا البعض منها بالسواتر الترابية لأسباب أمنية بالإضافة إلى تسيير دوريات. وقد نال اللواء العديد من التنويهات والتهاني من قائد الجيش نظرًا الى الأعمال الباهرة التي قام بها».
يعلم الجميع أنه نظرًا إلى العوامل الجغرافية والطبيعية، من الصعب ضبط الحدود بالعديد المتوافر حاليًّا، فكيف يتصرف اللواء حيال هذا الأمر؟
يقول العميد الركن فريجي «إن تشعب المهمات ووعورة المنطقة يفرضان زيادة العديد لتحقيق الجهوزية الكاملة، لكننا نعمل بكل طاقاتنا كي لا يؤثر هذا الأمر على أدائنا». ولا ينكر أن ثمة صعوبات وأن «العسكر» يعملون في ظروف قاسية، لكن معنوياتهم مرتفعة، وهم يدركون حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم، كما يدركون أن القيادة تعمل لتلبية جميع حاجاتهم.
ويردف قائلًا: «من الصعوبات التي تواجهنا كثرة الأعطال التي تصيب آلياتنا بسبب وعورة الطرقات الجبلية مما يحتم مساعفتها باستمرار، خصوصًا أن مراكز الانتشار بعيدة عن بعضها. كما أن العسكريين يتكبدون مشقة الانتقال من مناطق سكنهم التي تفصلها عن مراكز خدمتهم مسافات طويلة وهم يعملون في ظل عوامل مناخية قاسية جدًا».

 

«العلاقة مع المدنيين جيّدة... ومشكلتنا مع الخارجين عن القانون»
عن العلاقة بين المدنيين والعسكريين، يقول العميد الركن الفريجي، «إنها قوية والناس تظهر احتضانًا واسعًا للعناصر، وبالمقابل فإننا نستوعب المواطنين كافةً، من دون تمييز سياسي أو طائفي أو مذهبي. أمّا مشاكلنا فهي فقط مع الخارجين على القانون والمتمرّدين عليه».
 

التوجيه والتدريب والتحصين
حول التدابير المتخذة حديثًا للحدّ من انعكاسات التطورات الجارية في سوريا على الأوضاع في المناطق الحدودية، يقول: «لدينا قوى منتشرة في جميع المراكز العسكرية التابعة لنا عند المسالك والطرقات ونقاط المراقبة، ونقيم حواجز ثابتة في العمق أي خلف المراكز الأمامية، وكمائن عند نقاط التسلّل المحتملة، مهمتها مراقبة جميع العابرين، وتفتيشهم عند الاشتباه بهم وتوقيفهم في حال ضبطت بحوزتهم أسلحة أو ذخائر أو متفجرات، وقد تم ضبط مســلّحين في أوقات مختلفــة. ولدينا كذلك تدابيــر اســتثنائيــة عنـد توافــر معلومــات اضافيــة للتّعامــل مع الحــدث المرتقب بنــاءً لهــذه المعطيــات، كمــا يجــب».
ويكشف العميد الركن الفريجي عن اجراءات اتخذت حديثًا، أهمها: استحداث مراكز جديدة، تكثيف عمليات التوجيه والتدريب والتحصين للدفاع عن القطاع بكل حزم ومسؤولية. وفي هذا الإطار قمنا بأكثر من مناورة إحداها كانت مع فوج المغاوير وقد استخدمت فيها جميع أنواع الأسلحة. كما قمنا بدورة تدريبية بعنوان «رد الفعل السّريع» حيث تدرّب العناصر بالتعاون مع الفوج المجوقل، على استخدام السلاح وتأمين الحماية المتبادلة في أثناء تنفيذ أي مهمة عسكرية (دهم، مطاردة، تصدّ للمسلّحين...)، وقد أعطت نتائج ممتازة، لجهة اكتساب العسكريين مزيدًا من الثقة بالنفس وتقنية عالية في استخدام السلاح ووسائل الكترونية متطوّرة لمراقبة الحدود». ويشير قائد اللواء الى «التعاون الوثيق بين اللواء وفرع المخابرات في منطقة البقاع والذي يؤتي ثماره على أكثر من صعيد».


الإنتقال صعب ونشتاق إلى أكل البيت لكن «ما في مشكلة»
خلال جولتنا التقينا بعض عسكريي اللواء، في سريّة الهندسة التابعة للكتيبة 67، التقينا الملازم جو، ضابط مفعم بالحيوية، طبيعة عمله تقتضي منه التعامل مع الخطر والاحتكاك به يوميًّا، من خلال الكشف على الأجسام المشبوهة ونقلها إلى مكان آمن. لكن هذا ليس كل شيء، إذ أن عمليات الدهم وأعمال التفتيش وضبط الممنوعات هي من صلب يوميّاته. يختصر الملازم في كلامه ويقول: جوّ العمل جيّد، ولقد بات لدينا خبرات عديدة مما يسمح لنا بأداء مهمّتنا كما ينبغي.
الرقيب ميشال من الكتيبة نفسها، لا يستمتع كثيرًا بـ«الطعام في الثكنة»، فهو يشتاق إلى «أكل البيت»، لكنه لا يجد مشكلة في شيء، ويشكر قائد اللواء على اهتمامه بالعسكريين ومتابعته جميع شؤونهم.
من جهته، يخبرنا المعاون أول أحمد (الكتيبة 62) أنّه يخدم في عرسال، منزله في عكّار، لا يخفي أنّ «التنقل صعب، لكن روح الأخوة بين الرفـاق، وعزمنا على تحمّل مسؤولياتنا يسهلان الأمور، أكثر من ذلك، الصعوبات تزيدنا التحامًا»، يقول.
أمّا الرقيب أول نياف الذي التقيناه في حي الشراونة (الكتيبة 61) فيعتبر أن الوضع جيد خصوصًـا أنه يخدم في اللواء منذ سنوات، وهو يقيم في منطقة قريبة، وبيته قريب من مركز عمله، لكن وإن لم يكن الأمر كذلك، «ما في مشكلة فنحن عسكر».

 

لهم الخلود
خلال مســيرته قدّم اللــواء الســادس 105 شــهداء ســقطوا في ســاحة الشــرف إلى 22 آخرين كــانوا شــهداء الواجــب. ومن بين شــهداء اللــواء اثنــان ســقطا خلال حرب تموز 2006، وثلاثة اســتشــهدوا في وادي حميــد – عرســال في أيار من العــام الحــالي.


فوج الحدود البرية الثاني: من مراقبة الحدود إلى فوج قتالي بامتياز
أنشئ فوج الحدود البرية الثاني في 1/7/2009، وتتمركز قيادته في رأس بعلبك بينما تنتشــر وحداته على الحدود الشــرقية من وادي فيسان حتى جرود عرســال.
لا تقتصر مهماته على عملية مراقبة الحدود وضبطها بل تتعداها إلى مهمات أخرى.
وفق قائده العميد علي مراد تمكّن فوج الحدود البرية الثاني، بالرغم من تواضع قدراته من تخطي التحديات والعقبات خصوصًا تلك التي برزت خلال الأزمة الإقليمية الأخيرة.

 

ضبطنا كميات كبيرة من الأسلحة
لدى سؤالنا العميد مراد عن المهمات التي يتولّاها الفوج حاليًا قال:
«مهمتنا مراقبة الحدود الشمالية - الشرقية ومنـع أعمال التهريب، ولكن خلال الأزمة السورية أصبـحنا قــوة مقاتلة للدفاع عن الحدود واستطــعنا ضبــط كميات كبيرة من الأسلحة المهربة وأوقفنا عددًا من الأشخــاص المطلوبــين وسلّمناهـم إلى السلطـات المختصة».
 

وأضاف قائلًا:
«نحن نعمل دائمًا وبجهد متواصل، على تخطي جميع الصعوبات، ولكن بسبب طبيعة عملنا وطبيعـة المنطقـة التي ننـتشـر فيها نعـاني بعض المشـاكل اللوجستية والعملانية، أولًا لدينا استهلاك كبير للآليات، بسبب صعوبة طبيعة الأرض. من ناحية ثانية لدينا نقص في بعض التجهيزات الحديثة للمراقبة ونحن نعمل حاليًا على تأمين جميع الاحتياجات اللازمة وقد قطعنا شوطًا كبيرًا في ذلك بفضل جهود القيادة وتقديمها كل العون لنا من أجل تحقيق أفضل النتائج».
أما عن بقعة انتشار الفوج، فقال، «إنها من سهل الفاكهة على الحدود مع سوريا إلى وادي فعرا، ومساقط المياه على الحدود السورية وامتدادًا إلى منطقة الروعة ووادي فيسان، ومشاريع القاع. وقد كانت جرود عرسال في بداية الأزمة في نطاقنا».

 

ثكنة عصرية
أنشأ الفوج ثكنة عصرية فيها جميع المستلزمات التي يحتاجها العسكريون، ويوضح العميد مراد «أن الثكنة تمتد على مساحة 20 ألف متر تقريبًا، وبفضل تشجيع قيادة الجيش استطعنا أن نحوّل قيادة الفوج إلى ثكنة كاملة مكتملة، فأصبح لدينا استقلالية ذاتية في الاحتياجات والخدمات، ونحن نعمل اليوم على بناء محطة عسكرية للمحروقات، وقد أسسنا غرفة عمليات بدعم من الجمعية الدانماركية.
كما تلقينا مساعدة من السلطات البريطانيـة قوامها آليات وأجهزة لاسلكية وأبراج مراقبة وأعتدة أخرى وسواها.
وحاليًا نعمل على بناء المطبخ الخاص بالفوج، وأنشأنا أربع قاعات تعليم ومختبرًا لتعليم اللغتين الإنكليزية والفرنسية، ولدينا مشغل للآليات يضاهي أهم المشاغل العسكرية الحديثة».

 

هيكلية الفوج وأداء عسكرييه
يتألف الفوج من 5 سرايا قتال وسرية للقيادة والخدمة، بالإضافة إلى سرية المشاغل التي أنشئت حديثًا.
ينوّه العميد مراد بأداء عسكرييه «بالرغم من كل الصعوبات والمشقات وطبيعة الأرض القاسية صيفًا وشتاء، وبالرغم من الاعتداءات التي تتعرض لها مراكزنا بين الحين والآخر، فإن العسكري يثابر ويكافح من أجل إنجاح مهمته، ليكون دومًا العين الساهرة على حدود الوطن».
أما ظروف الخدمة، فيعتبرها «جيدة بالإجمال، في الفترة الأخيرة كانت لدينا مهمات صعبة مما يتطلب نسبة جهوز معينة، لكن العسكري دائمًا مندفع ويتحلى بروح معنوية عالية في كل وقت وظرف.
 

كيف الحال؟
في جولتنا، التقينا الرائد اسامة آمر إحدى السرايا في الفوج، وعندما سألناه عن الخدمة وظروفها في هذه المنطقة النائية قال: «الفوج يشبه خلية نحل، العمل يتواصل ليلًا ونهارًا. ومعنويات العسكر عالية جدًا، والخدمة جيدة».
وعن العلاقة مع المدنيين قال الرائد: «تربطنا بالمجتمع المدني علاقات وثيقة تعززها النشاطات المشتركة بين الفوج والجمعيات الموجودة في المنطقة، لا سيما النشاطات الرياضية والاجتماعية والثقافية والتي تقرّب المسافات بيننا وتعزّز التفاعل بين الجيش والمواطنين».
المعاون أول جاد يعتبر أن مهمته كأي عسكري حماية حدود الوطن، و«الفوج الذي ننتمي إليه هو العين الساهرة على هذه الحدود والثكنة بيتي الثاني. وفي وقت السلم نركز على التدريب وتحسين أدائنا من خلال الدورات المكثفة، وفي وقت الأزمات نحن حاضرون لتلبية أوامر قائد الفوج أيًا كانت طبيعة المهمة».
الرقيب يوسف خدم في اللواء الخامس وشارك بمعركة نهر البارد ضد الإرهاب، يقول: «أنا  اليوم بفوج الحدود البري الثاني صرلي سنة، طبعًا في تعب، بس أنا اليوم هون عم أخدم وطني متل ما خدمتو في قطع أخرى».
 وعندما نسأل المجند علي: هل ترغب في الخدمة في غير قطعتك الحالية؟ يقول: «الجيش جيش والعسكري عسكري وين ما كان، ونحنا لما لبسنا هالبدلة صرنا كلنا لون واحد ودم واحد وحياتنا صارت ملك للوطن».
وقبل أن نودّع المركز، توجّهنا بسؤال إلى مجموعة من العسكريين حول المشاكل التي يواجهونها خلال الخدمة، فكان الرد واحدًا تقريبًا: صحيح أننا نخدم في مناطق بعيدة وصعبة وفي ظروف خطرة، لكن ثكنتنا مجهزة بكل ما يلزم وعلاقتنا ببعضنا قوية مما يجعلنا رجلًا واحدًا في مواجهة الصعوبات، ويضيف أحدهم: عندما ارتدينا هذه البزة كنا نعلم مسبقًا ماذا ينتظرنا، حمى الله لبنان وجيشه».