رحلة في الإنسان

المدنيون في أثناء الحروب كيف نؤهل وعيهم الحضاري؟
إعداد: غريس فرح

من البديهي القول إن التهيئة العسكرية لمواجهة مخاطر الحروب، تحضّر العسكريين لتحمّل الصدمات، وتعلّمهم طرق الحماية الذاتية. لكن هذا الواقع لا ينطبق على المدنيين الذين يعيش معظمهم حالة الحرب بدون تدريب مسبق.
وقد يجدون أنفسهم في قلب المواجهة، وسلاحهم الخوف، والألم، وردّات الفعل الغرائزية الخاطئة.
لمواجهة هذه المشكلة، هل يكفي الاعتماد على القوانين الدولية، والإرشادات المحلية، وحملات الإغاثة، أم من الأفضل تكثيف التوعية المسبقة عبر التحذير من الإنفعالات الغرائزية في لحظات الخطر، ونشر المعلومات المتعلّقة بخلفياتها، بهدف ضبطها، وتنمية قواعد الوعي والحماية الذاتية.
الإختصاصيون النفسيون في مجال الكوارث يرتأون الحل الثاني. لهذا السبب، ونتيجة تزايد الصدامات العالمية وعمليات الإرهاب، جرت أبحاث بالغة الدقة تناولت السلوكيات البشرية التي يولّدها الخوف، الأمر الذي ألقى الضوء على بعض مسبّباتها، وسهّل الى حدٍ ما، وضع برامج علمية للإنقاذ.
ما هي هذه السلوكيات، وأين تكمن جذورها؟


سلوكيات بدافع الخوف
بغض النظر عن المذابح التي تُرتكب بحق المواطنين العزل في أثناء الحروب، فإن الكثير من الضحايا يقضون بسبب ردّات فعلهم غير الواعية التي يسبّبها الخوف، ومنها التدافع الذي قد يؤدي الى الإختناق والموت، والهروب عندما لا يكون مخططاً له، إضافة الى «التجمّد»، أو الشلل الذي يصيب الحركة والتفكير، ويفقد أصحابه مقدرة إنقاذ النفس. ولا ينسى الباحثون التهوّر الذي يلجأ اليه البعض حين يلقون بأنفسهم في المياه بقصد الهروب من الخطر، الأمر الذي يؤدي الى غرقهم. وهنا يجدر بالإشارة أن الغوص في المياه بدافع الخوف يتسبّب كما تشير الدلائل كافة، بغرق أمهر السباحين.

 

ما هي أسباب هذه السلوكيات؟
حسب ما أوردته الدراسات، فإن الدماغ البشري يلجأ في أوقات الشدة الى الذاكرة البدائية، ويستلهم منها التحرّكات التي أسهمت في بقاء الأجناس عبر العصور. والسؤال المطروح: لماذا يحصل ذلك؟
الأبحاث المشار اليها، أكدت على أن الدماغ البشري، يحتاج في الأحوال العادية، الى ثوانٍ معدودة لالتقاط إشارة أو معلومة من الخارج، والتفاعل معها بالطرق العقلانية المناسبة. لكن الصدمات، وخصوصاً خلال الكوارث والحروب، تتسبّب بانخفاض التواصل بين الخلايا العصبية، الأمر الذي يبطئ وصول المعلومات ويعرقل بالتالي عملية تحليلها والتجاوب الواعي مع معطياتها. وعلى هذا الأساس يلجأ الدماغ الى الذاكرة البدائية، ويعطي الأوامر بالتصرّف وفق مستوى الإدراك البشري خلال مراحل التطور. ولهذا السبب تظهر الى العلن رواسب الإنفعالات غير الإرادية الخاطئة، وغير المنسجمة مع معطيات الأمر الواقع.
بالإشارة الى الذاكرة البدائية، يلفت الباحثون الى رواسب بالغة الأهمية، ويدعون الى تعميمها لدرء مخاطرها ومنها: ابتلاع المياه تحت وطأة الخوف، والتحصّن بالشلل عندما تدعو الحاجة الى الهروب.

 

لماذا يبتلع الخائف الماء؟
إذا ما أخذنا بالاعتبار تاريخ التطور البشري، نجد أن الحياة على اليابسة، وما تخلّلها من ظروف التنقّل والهجرة والتعايش مع المخاطر، شكّلت أساس نشوء سلوكيات التكيّف الفطرية، والتي سبق وأشرنا اليها. وهي سلوكيات تتحكّم بها، بحسب الباحثين، تغيرات بيولوجية وظيفية، الهدف منها مواجهة مصادر الخطر. ومنها على سبيل المثال، تضخّم العضلات لتسريع الهروب، وتزايد دقات القلب، ووتيرة التنفس، وفتح الفم للإستزادة من الأوكسجين. وعلى هذا، فإن السابح الخائف الذي يتعطّل، أو يتباطأ التواصل المعرفي بين خلايا دماغه، لا بد وأن يستعيد السلوكيات البدائية التي سبق وتطوّرت على اليابسة، ومن أهمها فتح الفم للإستزادة من الأوكسيجين، وخصوصاً لدى الشعور بالإختناق. وبهذا يعرّض نفسه للغرق، في وقت كان بإمكانه تطبيق تقنيات السباحة المكتسبة لإنقاذ نفسه.

 

متى يتسبّب الخوف بالشلل؟
من المعروف أن السلوكيات الفطرية التي يفرزها الخوف تتمثّل عموماً بالهروب أو بالصراخ والبكاء وسواها من الوسائل المتّبعة لإنقاذ النفس، أو طلب النجدة. وهي بمجملها إنفعالات تعكس التغيّرات الوظيفية التي سبق وأشرنا اليها، والناجمة عن تدفّق هرمون الأدرينالين المفاجئ في الدم.
لكن... كيف يفسّر الباحثون ظاهرة الشلل أو التجمّد في لحظات الشدة؟
خلال مرحلة السبعينيات من القرن الماضي، وعندما كان البروفيسور الأميركي دانييل جونسون يجري بحثاً حول الإنفعالات والسلوكيات الفردية خلال الأحداث الطارئة، لاحظ أن معظم ردّات الفعل المسجّلة كانت بدائية الى حدٍ بعيد. وعندما علم عبر الاستقصاءات الجارية أن معظم الذين يقضون في الأبنية المحترقة، كانوا يصابون بالشلل والعجز عن الحركة والصراخ، حاول قدر المستطاع تفسير هذا الأمر بأشكال مختلفة.
في البداية وضع الملامة على توقّف النبض العصبي. لكنه، بعد الغوص في هذا الموضوع، تبيّن لديه أن ردّة فعل «التجمّد» هي سلوك بدائي يشبه سلوك بعض الحيوانات الصغيرة التي تحتمي بظاهرة «الموت». والمعروف أن الكثير من الكائنات الحية تحتمي غرائزياً من الخطر عبر التظاهر بالموت، وخصوصاً لدى مصادفتها حيوان كاسر. والسبب الفطري وراء هذا السلوك، هو أن معظم الحيوانات الكاسرة لا يهاجم الكائنات الميتة.
ومن هنا كان تبنّيه للنظرية القائلة بأن حالة الشلل التي تصيب الإنسان الخائف، قد تكون سلوكاً بدائياً تكيفياً راسخاً في الذاكرة الفطرية. وربما تكون الأحداث الطارئة محركاً لإحيائه.

 

كيف نواجه هذه السلوكيات؟
حسب ما أوردته مجلة العلوم الأميركية من خلال دراسة تناولت الأحداث الطارئة وانعكاساتها على المدنيين، فإن صعوبة التأقلم مع بشاعة الحدث، وخصوصاً في أثناء الحروب وعمليات الإرهاب أصبح يحتّم في الوقت الحاضر، تسليط الضوء على الانفعالات القسرية التي أتينا على ذكرها كافة، ومن ثمّ ضبطها على إيقاعات البرمجة الواعية للعقل الحضاري المتطور. ولتحقيق ذلك، يوصى بالتأهيل الجماعي من خلال برامج إرشادية خاصة، تدعو الى الإلتزام بتوصيات أهمها:
• التعرّف على جذور ردّات الفعل الفطرية، وترسيخ سلبياتها في الذاكرة، الأمر الذي قد يساعد في تجنّبها عند الحاجة.
• القيام بتمارين ذهنية يومية خاصة، الهدف منها تقوية التفكير المنطقي السليم.
• التدرّب على التروّي في اتخاذ القرارات، وخصوصاً في حالات الطوارئ.
• الحرص على إحياء التواصل الجماعي. فالتواصل مع الغير، يغلّب الفكر العقلاني على السلوك الغرائزي.
• التزام توصيات القوى الأمنية المعنية تأمين الحماية وسبل الإجلاء عن المواقع الخطرة.
ويوصي الباحثون بضرورة تعميم مراكز التأهيل السلوكي، وخصوصاً في الدول المعرّضة لمخاطر الحروب، والإرهاب والكوارث الطبيعية.