- En
- Fr
- عربي
وجهة نظر
يتطلّع زعماء العالم إلى المستقبل، يحاولون استقراء طالعه، ويسعون دائمًا إلى ما يمكّنهم من الوصول إليه بما يتطابق مع مقتضيات مصالحهم. فالدول الكبرى لا تقف عند إشارة الزمن الحمراء، بل تخوض سباقًا مستميتًا مع الوقت لالتقاط الفرص المؤاتية، واغتنام المناسبات المتاحة، طمعًا في التسلّق إلى قمم التفوّق والغلبة.
ومن قمّة ألاسكا الأميركية – الروسية، إلى قمّة شنغهاي للتعاون، تكتمل عناصر المبارزة: خطابان مختلفان، متوازيان، يتنافسان في «حديقة المصالح الهادفة».
الرئيس الأميركي دونالد ترامب يتّهم الثلاثي الصيني – الروسي – الكوري الشمالي، بالتآمر على الولايات المتحدة، ليلقى ردًّا قاسيًا، فحواه «أن لا وقت للمزاح، ولا للغرق في الأوهام. الظرف مصيري، ومحكوم بالتعاطي بأعلى مدارك الجديّة. ولا أحد يتآمر».
يريد الرئيس ترامب «أميركا أولًا»، وبهيمنة متحررة من كوابح النظام العالمي، والمواثيق والأعراف الدولية. فيما يريد الرئيس الصيني شي جين بينغ «تأسيس نظام أمني واقتصادي عالمي جديد، يمثل تحديًا مباشرًا للولايات المتحدة».
قمّتان بارزتان، تتنافسان نحو شموخ أعلى في فضاء الهيمنة، لكن مع تمايز في الأسلوب، ووسائل الإقناع، وكأنّ المساحة الفاصلة ما بينهما مجرد ملعب مؤهل للأشواط الحاسمة، المصيرية، وللركلات المرجّحة من جانب كلّ طرف، في مرمى الطرف الآخر.
قمة ألاسكا
لأنّ البركان الأوكراني ينشر غبارًا كثيفًا على الاقتصاد الأميركي، الأوروبي، والغربي، عُقدت قمة في أصقاع باردة لعلها تبرّد الرؤوس الحامية، وتطلق العنان للمساعي التوافقية الخيّرة.
«قمة ألاسكا 2025»، كانت اجتماعًا بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب، والروسي فلاديمير بوتين. عُقدت في 15 آب الماضي، في قاعدة إلمندورف – ريتشاردسون المشتركة في أنكوريج، ألاسكا.
كان الموضوع الرئيسي للنقاش هو الحرب الروسية – الأوكرانية المستمرة، والتي يريد الرئيس ترامب إنهاءها. وكانت هذه المرة الأولى التي يُدعى فيها بوتين إلى دولة غربية منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية في العام 2022. وفي حين يواجه الرئيس الروسي مذكرة اعتقال صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب مزعومة، كانت القمة أول زيارة رئاسية روسية للولايات المتحدة في منشأة عسكرية أميركية. وكان هذا أول لقاء بين الرئيس ترامب وبوتين منذ إعادة انتخاب الأول في العام 2024، والأول بينهما كرئيسين في السلطة منذ لقائهما الأخير في العام 2019، في أوساكا – اليابان. كما كانت هذه المرة الأولى التي يزور فيها بوتين الولايات المتحدة منذ العام 2015، حين حضر الدورة السبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة في مدينة نيويورك. وكان هذا أيضًا أول اجتماع تستضيفه الولايات المتحدة بين رئيسي روسيا وأميركا منذ العام 2007 عندما التقى بوتين مع جورج دبليو بوش في ولاية مين.
الأسباب الموجبة
في شباط 2022، بدأ بوتين الحرب ضد أوكرانيا، ما أدى إلى بدء أعنف حرب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. وخلال الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2024، خاض المرشح الرئاسي آنذاك دونالد ترامب حملته بوعد بإنهاء الحرب في أول يوم له كرئيس للولايات المتحدة.
وفي 12 شباط، أجرى مكالمة هاتفية مفاجئة مع بوتين أدت إلى مفاوضات بين موسكو وواشنطن لأول مرة منذ بدء الحرب. وفي وقت لاحق من ذلك الشهر بدأ وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو الاجتماع مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في المملكة العربية السعودية، وهي دولة محايدة سبق لها أن استضافت بوتين. وعلى مدار الأشهر التالية واصل الرئيس ترامب التواصل مع بوتين من خلال المكالمات الهاتفية، ومنشورات «تروث سوشيل».
كان من المقرر أن يُجري الرئيسان، الروسي بوتين والأوكراني فولوديمير زيلينسكي، مفاوضات مباشرة في اسطنبول في 15 أيار الماضي. وأشار الرئيس ترامب إلى أنّه سيكون حاضرًا أيضًا، إلّا أنّ بوتين لم يحضر، وصرّح الرئيس ترامب بأنّه يعتقد أن السبب الوحيد لعدم حضور بوتين هو غيابه، وأنّ محادثات السلام لا يمكن أن تُعقد إلّا بلقاء بينه وبين بوتين.
في 28 أيار، صرّح الرئيس ترامب بأنّه سيعرف خلال أسبوعين ما إذا كان بوتين جادًا بشأن إنهاء الحرب أم أنّه «يستدرجنا فحسب». لكن في المقابل، ازدادت في أيار وحزيران وتموز الهجمات الروسية بالصواريخ والغارات المسيّرة على أوكرانيا بشكلٍ كبير. وأدلى الرئيس ترامب في 23 تموز قائلًا: «أعود إلى المنزل، وأقول للسيدة الأولى، تحدثت إلى فلاديمير اليوم، وأجرينا محادثات رائعة». فتقول:«حقًا؟ ثمة مدينة أوكرانية أخرى قصفت للتو؟!». وبعد أن انتقد الرئيس ترامب بوتين على موقع «تروث سوشيل»، وصف الكرملين منشوراته بأنّها «مؤثّرة».
في 14 تموز، أعلن الرئيس ترامب أنّ الولايات المتحدة ستفرض المزيد من العقوبات على روسيا، ورسومًا جمركية بنسبة 100 بالمئة على الدول التي ما زالت تشتري النفط الروسي، إذا لم يوافق بوتين على إنهاء الحرب في غضون 50 يومًا. وفي 28 تموز أوضح الرئيس ترامب أنّ الموعد النهائي سيتم تقصيره إلى 10 أو 12 يومًا، مشيرًا إلى عدم إحراز تقدم في المفاوضات.
التقى المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف مع بوتين في 6 آب، وبعد الاجتماع صرّح الرئيس ترامب أنّ هناك «فرصة جيدة» لعقد اجتماع مع بوتين «قريبًا جدًا»، وبدلًا من فرض العقوبات مع انتهاء المهلة المحددة – (12 يومًا) – أعلن الرئيس ترامب بأنّه سيستضيف بوتين في ألاسكا، في 15 آب.
سبق ذلك تبادل التهديدات بين الطرفين، ففي 31 تموز نشر الرئيس الروسي السابق، ونائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديمتري ميدفيديف منشورًا على تيلغرام يُحذّر فيه الرئيس ترامب من تهديد «نظام اليد المميتة» في إشارة إلى آلية الإطلاق النووي. وفي أول آب أعلن الرئيس ترامب عن إرسال غواصتين نوويتين باتجاه روسيا ردًا على هذا التهديد.
في المقابل، أعلنت روسيا في 4 آب الماضي أنّها لم تعد تعتبر نفسها ملزمة «بمعاهدة القوة النووية متوسطة المدى للعام 1987»، والتي انسحبت منها الولايات المتحدة في العام 2019.
وفي اليوم التالي حلّقت طائرة «بوينغ دبليو – سي 135 كونستانت فينيكس» للكشف عن الأسلحة النووية بالقرب من جزيرة كولا. وقال محللون إنّ هذه الرحلة قد تشير إلى اختبار قادم لصاروخ «كروز 730 أم 9 بوروفيستك» النووي القادر على حمل رؤوس نووية، والذي تم اختباره سابقًا في منطقة أرخانجيلسك.
ترتيبات لوجستية
في 7 آب 2025، قال الرئيس ترامب إنّه ليس من الضروري أن يلتقي بوتين بفولوديمير زيلينسكي رئيس أوكرانيا.
وأضاف أنّ على الجانبين تقديم تنازلات.
وفي حين صرّح مصدر في الكرملين بأنّ روسيا قادرة على وقف الحرب إذا استعادت شرق أوكرانيا، أعلن الرئيس ترامب على موقع «تروث سوشيل» أنّه يخطط للقاء بوتين في ألاسكا، وأعلن مساعد الكرملين يوري أوشاكوف أنّ ألاسكا «منطقية تمامًا» كمكان.
ربما تم اختيار ألاسكا لموقعها بين العاصمتين، وعدم مشاركة الولايات المتحدة في نظام روما الأساسي الذي يُتيح تنفيذ مذكرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق بوتين، بالإضافة إلى أهمية المنطقة التاريخية، بما في ذلك الاستعمار الروسي السابق، والمجتمعات الأرثوذكسية الروسية الحديثة، والاستخدام العسكري في الحرب الباردة.
في 4 آب، أعلن يوري أوشاكوف، أنّ الوفد الروسي سيضمه إلى جانب وزير الخارجية سيرغي لافروف، ووزير الدفاع اندريه بيلوسوف، ووزير المالية أنطون سيلوانوف، والمبعوث الرئاسي الخاص للاستثمار الأجنبي والتعاون الاقتصادي، كيريل دميترييف.
قبل القمة اقترح بوتين أن تشمل المفاوضات معاهدة الأسلحة النووية مثل تجديد معاهدة «ستارت الجديدة» التي تنتهي في شباط 2026.
الاجتماع
بدأ اللقاء في حوالى الساعة 11.32 صباحًا بتوقيت ألاسكا، وسبقته إجراءات الوصول التي كانت حافلة بالدلالات، ليعقبه المؤتمر الصحفي للرئيسين.
بدأ بوتين المؤتمر الصحفي بالقول إنّ العلاقات الروسية – الأميركية قد تدهورت في السنوات الأخيرة، وإنّ عقد اجتماع بين البلدين كان أمرًا متأخرًا للغاية. وأشار بوتين إلى أنّ المفاوضات عقدت في أجواء من «الاحترام المتبادل والبنّاء».
وبدأ الرئيس ترامب تصريحاته قائلًا إنّه لطالما كانت تربطه علاقة رائعة بالرئيس بوتين، إلّا أنّ «خدعة روسيا» أعاقت هذه العلاقة. وفي ختام المؤتمر الصحفي لم يُـتّفق على وقف إطلاق النار. ولم يُجب أي من الرئيسين على أسئلة الصحافة.
ضم الوفد الأميركي إلى جانب الرئيس ترامب، وزير الخارجية ماركو روبيو، ووزير الخزانة سكوت بيسنت، ورئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، دان كين، ووزير التجارة هوارد لوتينك، ووزير الدفاع بيت هيغسيت، ومدير وكالة المخابرات المركزية جون راتكليف، والمبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف.
وضم الوفد الروسي إلى جانب الرئيس بوتين، وزير الخارجية سيرغي لافروف، ووزير الدفاع اندريه كليباتش، ووزير المالية أنطون سيلواتوف، ومساعد الرئيس الروسي للسياسة الخارجية يوري أوشاكوف، والمبعوث الرئاسي الخاص للاستثمار الأجنبي والتعاون الاقتصادي كيريل ديمترييف.
العرض الروسي
ذكرت وكالة «رويترز» أنّ العرض الروسي تضمن:
1– على الصعيد الإقليمي:
الانسحاب الأوكراني من منطقة دونيتسك (حوالى 6600 كيلومتر مربع).
تجميد خطوط المواجهة في منطقتي خيرسون وزابوريزهيا.
الانسحاب الروسي من منطقتي خاركيف وسومي (حوالى 400 كيلومتر مربع).
2– على الصعيد الدبلوماسي:
منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
الاعتراف بضم روسيا شبه جزيرة القرم (من غير الواضح ما إذا كان الاعتراف مطلوبًا أيضًا من الدول الأوروبية).
رفع العقوبات المفروضة على روسيا (من غير الواضح ما إذا كان ذلك مطلوبًا أيضًا من الدول الأوروبية).
3– المواضيع الأخرى:
الوضع الرسمي للّغة الروسية في بعض – أو كل – أوكرانيا.
حق الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في العمل بحريةٍ في أوكرانيا.
النتائج
وصف الرئيس بوتين محادثاته مع نظيره الأميركي بأنّها «جاءت في الوقت المناسب، وأنّها مفيدة للغاية».
وبحسب الكرملين، قال بوتين: «أود أن أشير على الفور إلى أنّ الزيارة كانت في الوقت المناسب، ومفيدة للغاية، ناقشنا جميع مجالات تعاوننا تقريبًا، لكن أولًا، وقبل كل شيء بالطبع تحدثنا عن إمكان حل الأزمة الأوكرانية على أساس عادل».
وأضاف : «إنّ المحادثات كانت صريحة وهادئة للغاية، مشيرًا إلى أنّ هذا يُقرّبنا من اتخاذ القرارات اللازمة، إلّا أنّ موسكو تحترم موقف الإدارة الأميركية التي ترى ضرورة إنهاء الأعمال العدائية في أقرب وقت».
سعى بوتين من خلال المباحثات المباشرة مع الرئيس ترامب، لتعزيز الآمال في عودة التعاون الروسي – الأميركي، ومعالجة الأسباب الجذرية للصراع الأوكراني، على الرغم من عدم ذكر أي خطوات محددة في هذا الاتجاه.
ويسود شبه إجماع في أوساط المراقبين الروس بأنّ محادثات ألاسكا أدت إلى إخراج الزعيم الروسي من عزلته الدبلوماسية عن الغرب، وتسببت بخشية القادة الأوكرانيين والأوروبيين من أن تمنحه القمة فرصة للتأثير على نظيره الأميركي.
ويؤكد وجهة النظر هذه، الخبير في الشؤون الاستراتيجية نيقولاي بوزين الذي يقول: إنّ اللقاء جرى على الرغم من المهلة التي منحها الرئيس الأميركي لروسيا لوقف العمليات العسكرية، وتهديده بفرض عقوبات اقتصادية جديدة عليها.
وأوضح بوزين أنّ الموعد النهائي انقضى من دون أي توقف في الحرب، بل اشتد القتال مع تقدم روسيا بهجومها الصيفي، من دون أن يتم فرض عقوبات اقتصادية عليها. فبدلًا من التعرّض للعقوبات، حصل الرئيس الروسي على قمة، وبالتالي فإنّ هذا يُعَدّ نصرًا لبوتين مهما كانت نتيجة القمة.
والنقطة الأخرى التي سجلها بوتين – وفق بوزين – هي عقد القمة من دون مشاركة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. وبرأيه فإنّ التوصل إلى اتفاق سلام بشأن أوكرانيا ليس الهدف الحقيقي لبوتين من القمة، بل ضمان دعم الرئيس ترامب للمقترحات الروسية بهذا الخصوص.
وهو يلفت إلى أنّ هذه القمة تسببت بإثارة الخلافات داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو هدف روسي دائم. كما أجّلت تهديد الرئيس ترامب بفرض عقوبات جديدة صارمة، وعززت الانهيار التام لمفهوم عزل موسكو.
ويخلص بوزين إلى استنتاج مفاده أنّ القمة وضعت الأساس لمزيد من المفاوضات بالتوازي مع دبلوماسية الرئيس ترامب المكوكية.
العلاقات الثنائية أوّلاً
رأى محلل الشؤون الدولية سيرغي بيرسانوف أنّ اللفتات الإيجابية، والصيغ الحذرة التي صيغت بها تصريحات الرئيس ترامب – بوتين لا تكشف كل ما جرى وراء الكواليس. ويوضح بيرسانوف أنّ النبرة العامة لهذا الاجتماع كانت إيجابية، وتشير إلى وجود رغبة في المضي قدمًا في مسار تنظيم وتطوير مجالات أخرى في العلاقات الروسية – الأميركية.
وحسب قوله، فقد حقق كلٌّ من الزعيمين جُلّ ما يمكن تحقيقه من هذا الاجتماع، إذ تمكنت روسيا من أن تظهر بأنّها لا تتراجع عن مواقفها، وفي الوقت ذاته أبدت تمسكها بالحوار مع الولايات المتحدة. في حين ثبّـتت واشنطن مسار التوجه نحو السلام الذي تريده، والتوقف عن إنفاق الأموال من دون تحقيق نتائج سياسية ملموسة وفق تعبيره. وختم بالتحذير من تبعات تُعثّر العملية الدبلوماسية بين موسكو وواشنطن، وقال إنّ مخاطر العقوبات ستزداد.
ماذا عن التسوية؟
تحولت قمة ألاسكا إلى منطلق جديد في الحرب الأوكرانية، على الرغم من أنّها أشعلت كثيرًا من السجالات حول شكل تنظيمها ومجرياتها. وسرعان ما اتضح أنّ المخاوف الغربية من إحراز بوتين انتصارًا في مواجهته المباشرة الأولى مع نظيره الأميركي، لم تكن الأمر الوحيد الذي يحدد مستقبل الحوار لوضع أسس التسوية المنتظرة في أوكرانيا، إذ برزت عناصر أكثر أهمية عكستها الحقيقة التي انطلق منها الكرملين وهو التمسك بشروطه رغم الضغوط الأميركية، والتلويح بعقوبات رادعة، وخصوصًا الفكرة المتعلقة بإدراك بوتين أنّ أولويات الرئيس ترامب وهو ينظم هذه القمة، لا تتوافق تمامًا مع أولويات أوروبا، وحاجات أوكرانيا.
وكان تباين الأولويات في قمة ألاسكا الورقة الأقوى التي لعب عليها جيدًا الرئيس بوتين وهو يطرح رؤيته أمام الرئيس الأميركي ترامب وفريقه المقرب، ليس فقط في ما يتعلق بالتسوية المحتملة في أوكرانيا، بل حول آليات إعادة الثقة أيضًا، وفتح أبواب التعاون الواسع مع واشنطن في إطار صفقة كبرى، وأيضًا في إطار الحديث عن مسؤوليات مشتركة عن الأمن والسلم الدوليين.
عناصر القوة والضعف
لقد ذهب بوتين إلى ألاسكا وهو يدرك جيدًا عناصر قوته، ولا يتجاهل مناحي ضعفه. وهو يدرك أيضًا أنّ إدارة الرئيس ترامب لا تحمل في جعبتها – بخلاف الأوروبيين – هواجس تمنع موسكو من تحقيق انتصار. ثم أنّه (ترامب) لا يحمل أيضًا وزر اقتطاع نحو خُمس الأراضي الأوكرانية، وانتقالها إلى سيطرة الكرملين.
وانعكس هذا الفهم بشكلٍ مباشر في التحضيرات التي سبقت القمة سواء على صعيد فحص «السيناريوهات» المختلفة مع أركان فريق بوتين، وتحضير أفكاره بشكلٍ جيد، أو على الصعيد الميداني من خلال التصعيد القوي الذي سبق القمة بأسابيع، ومهد الطريق لفرض أمر واقع ميداني جديد لا يمكن تجاهله عند الحديث عن أي انسحابات أو تنازلات إقليمية محتملة.
أربعة مكونات لمصلحة بوتين
احتفلت روسيا على طريقتها بإحراز بوتين انتصارًا كبيرًا في ألاسكا، وعنونت الصحف الكبرى، وتعليقات مسؤولين بارزين الحدث بوصفه بداية النهاية للمشروع الغربي في أوكرانيا.
وأبرز ما ركّزت عليه فكرة تقويض أوهام عزلة روسيا، وفتح الأبواب أمام بوتين ليعود لاعبًا رئيسيًا في العالم في قضايا الحرب والسلام. وبعدما كان الرئيس ترامب قبل أسابيع قليلة قد قال إنّ على بوتين أن يضع جهده في تسوية النزاع في أوكرانيا قبل أن يتوسط لإنهاء الحرب الإسرائيلية – الإيرانية، ها هو يستقبله في قاعدة عسكرية أميركية على السجادة الحمراء ووسط تصفيق واستعراض ترحيبي مثير للطيران الحربي، ثم يجلس معه نحو 3 ساعات لمناقشة شؤون المنطقة والعالم.
وبعد هذا الحدث بيومين، استقبل الرئيس ترامب بعض القادة الأوروبيين مع الرئيس الأوكراني في البيت الأبيض ليعرض عليهم خريطة أوكرانيا، ومناطق النفوذ الجديدة. كان ذلك إقرارًا بأنّ التسوية المنشودة ستمر بتنازلات مؤلمة ليس فقط من الجانب الأوكراني، بل من جانب الأوروبيين أيضًا.
وتجلّى العنصر الثاني البارز في ما كُشف عنه من التفاهمات الخفية، إذ تراجع الرئيس ترامب عن فكرته التقليدية بضرورة التوصل لوقف النار في أوكرانيا، وبات يطرح على مسامع القادة الأوروبيين فكرة بوتين حول «السلام النهائي» الذي لا يُخفي فيه ضرورة إنهاء «الجذور الأصلية للنزاع»، منتقلًا بذلك مرة واحدة ليتبنى قناعة بوتين حول آليات التسوية المحتملة. وهذه نقطة جوهرية إذ لن يعود بمقدور الرئيس ترامب لاحقًا أن يقول بأنّه مستعد لفرض عقوبات على الكرملين لأنّ الأخير يواصل القتال.
ويتمثل العنصر الثالث في تبنّي الرئيس ترامب أيضًا وجهة النظر الروسية حول المخاوف من أن تلعب أوروبا وأوكرانيا دورًا سلبيًا لعرقلة السلام المنشود، وهو أمر عبّر عنه الرئيس الأميركي مباشرة بعد اللقاء في حديثه مع الصحافيين، وخلال اتصالاته مع قادة أوروبيين.
وتمثّل العنصر الرابع والأخير بالتعليقات الروسية في إطار إبراز «انتصار بوتين»، تمثل في بدء الحديث عن صفقات كبرى تم التوافق على ملامحها الأولى خلال اللقاء، بينها إشارات إلى استثمارات مشتركة في القطب الشمالي، وكلام عن تعاون في بناء السفن، وفق مصادر روسية قالت إنّ قطاع الأعمال الروسي يستعد لانفتاحة كبرى على السوق والاستثمارات الأميركية.
ولا يغيب الحديث هنا عن مشاريع استراتيجية في مناطق الشرق الأقصى، واستثمارات مشتركة في قطاع المعادن النادرة، وهذا أمر حيوي للغاية وينعكس مباشرة في آفاق التسوية في أوكرانيا، خصوصًا وأنّ بعض المصادر الروسية تكلمت عن وعود باستثمارات مشتركة في هذا القطاع، ليس فقط داخل أراضي روسيا التي يعترف بها العالم، بل أيضًا في الأقاليم الأوكرانية الواقعة تحت السيطرة الروسية التي ضمتها موسكو بشكلٍ آحادي.
تعهدات ترامب
وكان الرئيس ترامب قد قدّم ثلاثة تعهدات للقادة الأوروبيين في اجتماع عبر تقنية «الفيديو كونفرنس» سبق القمة، وهي: وقف القتال، والتحضير للقاء ثلاثي يجمعه مع بوتين والرئيس زيلينسكي، والضمانات الأمنية لاحقًا لأوكرانيا.
سقط التعهد الأول تلقائيًا بعدما غيّر الرئيس ترامب وجهة نظره، واقتنع بموقف بوتين حول مبدأ الهدنة. والتعهد الثاني حصل فيه الرئيس ترامب على مساحة صغيرة للمناورة، كون بوتين لم يعلن موقفًا محددًا بعد. واللافت هنا أنّ فريق الكرملين أعلن فور العودة إلى موسكو أنّ موضوع القمة الثلاثية لم يطرح خلال المفاوضات.
أمّا التعهد الثالث، فبدا أنّ بوتين سار فيه خطوة لملاقاة الرئيس ترامب عندما أعلن أنّه يؤيد فكرة الرئيس الأميركي حول الضمانات من دون أن يحدد طبيعة الضمانات المقترحة، والأطراف المنخرطة فيها، ومستوى الانخراط. وهذا أمر مهم للغاية لأنّ موسكو تعارض بشكلٍ قوي ضمانات قد تؤدي إلى نشر قوات أوروبية في أوكرانيا، أو تمنح الأوروبيين عمومًا صلاحيات على خطوط التماس، أو في إطار إعادة تسليح الجيش الأوكراني.
ورغم أنّ الرئيس ترامب أعلن أنّه سوف يشاور الحلفاء في حلف شمال الأطلسي، والاتحاد الأوروبي، والجانب الأوكراني، فقد بدا أنّ هذه المشاورات حملت طابع الإبلاغ وتقديم طلبات محددة للجانب الأوكراني بمعنى أنّها لم تكن مشاورات تهدف إلى تنسيق المواقف، وتبنّي خطوات مشتركة لفرض السلام المنشود، أو مواجهة الرؤية الروسية للسلام.
احتمالات ممكنة
تشير النقاشات التي جرت مع الجانب الأوروبي، في حضور زيلينسكي، إلى أنّ الإدارة الأميركية تنطلق من أنّ قمة ألاسكا وفّرت فرصة ثمينة لإيجاد تسوية رغم أنّها قد لا تلبّي كل تطلعات الأطراف الغربية، إذ إنّ هذه المرة الأولى منذ اندلاع الحرب، وتحولها إلى مواجهة شاملة بين روسيا والغرب التي تنطلق فيها حوارات تفصيلية حول شكل التسوية المحتملة من خرائط النفوذ، وتقاسم الأراضي، إلى مضمون الضمانات التي يمكن أن تقدم إلى أوكرانيا، إلى آليات بناء فكرة الأمن الشامل في أوروبا بما يضمن مصالح كل الأطراف.
ولم يكن مثل هذا التطور ممكنًا قبل القمة الروسية – الأميركية، ولكن هذا لا يعني أيضًا أنّ الفرصة الثمينة التي توافرت لا تواجه صعوبات بالغة، وقنابل قابلة للانفجار في كل لحظة.
ونجح الرئيس الأميركي من جانبه في تحويل النقاش حول التسوية المنشودة من فكرة «ردع معنوي» لبوتين وفق المفهوم الغربي، ومحاولة إلحاق هزيمة به تحول دون تكرار شن هجمات على أوكرانيا، أو على بلدان الجوار الأخرى لروسيا، إلى مناقشة تفصيلية تقرّ بالأمر الواقع الجديد، وتبحث في ترتيبات مستقبلية مقبولة بالحد الأدنى من الأطراف.
ويبدو النقاش الدائر حول مبدأ «تبادل الأراضي» غامضًا في جوهره لأنّه يفترض تنازلات متبادلة بين أوكرانيا وروسيا، في حين أنّ الواقع الميداني يميل بشدةٍ لمصلحة موسكو التي تسيطر عمليًا على خُمس أراضي أوكرانيا، ويتمدد جيشها في مناطق تتجاوز خطوط التماس والأقاليم التي جرى ضمها رسميًا بشكلٍ آحادي.
وتطلب موسكو التي تعلن أنّها لن تتراجع أبدًا عن مبدأ حماية «الأراضي الروسية الجديدة»، شرطًا أساسيًا للتسوية، وهو انسحاب الجيش الأوكراني من المناطق التي ما زالت خاضعة لسيطرته في إقليم الدونباس، لا تمانع – كما اتضح في ألاسكا – وضع آلية «تبادل» فريدة من نوعها تقوم على تكريس واقع التقدم الميداني وتتجلى في انسحابات روسية من عدة مناطق أوكرانية بينها سومي وخاركيف… مقابل سيطرتها المطلقة على الدونباس، وشبه جزيرة القرم، ومنطقتي زاباروجيا، وخيرسون.
لقد قوبل اقتراح بوتين في ألاسكا بتجميد القتال في بعض المناطق على خطوط التماس لتسهيل فكرة التبادل هذه بارتياحٍ كبير من جانب الرئيس ترامب، وعُدّ ذلك تنازلًا روسيًا مهمًا. لكن هذه الفكرة محفوفة بالمخاطر لأنّها لا تحظى حتى الآن بقبولٍ من جانب كييف والعواصم الأوروبية، وهي حتى لو مارست واشنطن ضغوطًا لإنجاحها تمهد لسلام هش قابل للانفجار، وفق خبراء كييف.
الضمانات الممنوحة لأوكرانيا
النقطة المهمة المطروحة حاليًا قيد التداول، تتعلق بطبيعة الضمانات الممنوحة لأوكرانيا.
لقد عارض الكرملين بشدةٍ أي دور للحلف الأطلسي (الناتو) في أوكرانيا رغم تراجع الغرب عمومًا عن فكرة ضم أوكرانيا إلى الحلف، إذ إنّه يناقش حاليًا أفكارًا تقوم على تبنّي خيار مشابه للضمانات التي يمنحها البند الخامس من ميثاق الحلف، ويحظى هذا الموضوع بمعارضةٍ شديدة من جانب بوتين. ومع تلميح الرئيس ترامب إلى أنّ الحلف لن يلعب دورًا في الضمانات المستقبلية لكييف، لكن إشارته إلى رغبة بلدان أوروبية في نشر قوات سلام في ما تبقّى من أراضي أوكرانيا لا تحظى أيضًا بقبول روسي بسبب مخاوف روسيا من منح صلاحيات لقوات غربية على مقربة من خطوط التماس، هذا فضلًا عن أنّ هذه الفكرة قد يجري تطويرها لدعم إعادة تأهيل الجيش الأوكراني، الأمر المرفوض روسيًا بشكلٍ قطعي.
إذًا، ما زالت التفاصيل تشكّل عائقًا مهمًا أمام إحراز تقدم ملموس وسريع.
أوروبا.. وزيلينسكي
الأهم من هذا بالنسبة إلى موسكو، تكريس فكرة «أنّ أوروبا خرجت خاسرة» من هذه المواجهة إلى جانب حليفها فولوديمير زيلينسكي الذي بات مستقبله السياسي في مهب الريح مع الكلام عن ترتيبات جديدة تقود إلى انتخابات رئاسية ونيابية في أوكرانيا.
ووفق تعليق نشرته وكالة «نوفوستي» الرسمية، لم تعد أوروبا قادرة على طرح مبادرة مستقلة تتجاهل الجهود الأميركية، وباتت تتحرك فقط على هامش هذه الجهود، وتقوم بردود الفعل عليها.
وتقوم وجهة النظر الروسية الآن على الاستحقاق المقبل، على أن يبدأ بحوارٍ روسي – أوروبي ليس على شروط التسوية الأوكرانية، فهذه قد حسمت ملامحها الأولى في البيت الأبيض، لكن حول الترتيبات الأمنية الشاملة في القارة. وهو يشمل رفع القيود، والعقوبات، ومراعاة مصالح كل الأطراف، وتقديم ضمانات روسية لبلدان القارة بأنّ موسكو لا تنوي شن هجوم على أي بلد أوروبي في المستقبل.
قمة شنغهاي للتعاون
فيما كان العالم منهمكًا بتتبع نتائج قمة ألاسكا، خطفت الصين الأضواء، عندما نظمت قمة «منظمة شنغهاي للتعاون» -(إس سي أو)- بمشاركة قادة من نحو 20 دولة حول العالم. استمرت القمة ليومين، واختُتمت بعرضٍ عسكري ضخم في بكين بمناسبة الذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية.
الحضور
حضر القمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس وزراء الهند ناريندار مودي، والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون، والرئيس التركي رجب الطيب أردوغان، والرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، ورئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، إضافة إلى رئيس الوزراء الكمبودي هون مانيت، ورئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم، بمشاركة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، والأمين العام لرابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) كأو ليم هون، وغيرهم من قادة الدول.
واعتُبرت هذه القمة، في الصين، على أنّها الأهم منذ تأسيس منظمة شنغهاي في العام 2001، إذ انعقدت وسط أزمات دولية متشابكة، بدءًا من المواجهة التجارية بين الولايات المتحدة، وكل من الصين والهند، مرورًا بالحرب في أوكرانيا، والملف النووي الإيراني، والضربات العسكرية الإسرائيلية – الأميركية على طهران، وصولًا إلى حرب إسرائيل على غزة، وقضية تايوان، فضلًا عن قضايا دولية ملحّة أخرى، وفق منصة «مودرن دبلوماسي».
موقف الرئيس الصيني
في كلمته الافتتاحية قال الرئيس الصيني شي جين بينغ «إنّ منظمة شنغهاي للتعاون تمثل نموذجًا لعلاقات دولية جديدة. علينا الدفاع عن التعددية القطبية المتوازنة، والعولمة الاقتصادية الشاملة، وتعزيز نظام حوكمة عالمي أكثر عدلًا وإنصافًا».
وفي هجوم مبطَّن على حملة التعريفات الجمركية العالية التي يشنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، قال الرئيس الصيني: «إنّ ظلال عقلية الحرب الباردة، والتنمّر لم تتبدد مع تزايد التحديات الجديدة». وقال: «إنّ العالم دخل مرحلة جديدة من الاضطرابات مع وجود الحوكمة العالمية عند مفترق طرق جديد». داعيًا إلى «بذل جهود مشتركة لبناء إطار حوكمة دولية أكثر عدلًا وتوازنًا»، وفق شبكة «سي إن بي سي».
مواجهة الهيمنة
جسّدت قمة منظمة شنغهاي 2025 عرضًا رئيسيًا للتضامن بين دول الجنوب العالمي في مواجهة الهيمنة الأميركية – الغربية. ودعا الزعيم الصيني قادة المنظمة إلى لعب دور أكبر في حماية السلام والاستقرار الإقليمي والدولي ، مشددًا على أنّ بلاده «قوة عالمية مستقرة» ستقف إلى جانب العالم النامي. وحثّ الرئيس الصيني الدول الأعضاء على استثمار إمكانات سوقهم الضخم، كاشفًا عن طموحه «لتأسيس نظام أمني واقتصادي عالمي جديد يمثل تحديًا مباشرًا للولايات المتحدة».
وتأتي هذه التصريحات في ظل مساعي بكين لترسيخ مكانتها «قائدًا رئيسيًا للعالم النامي»، إذ ينظر إلى قمة «تيانجين» باعتبارها فرصة لتعزيز التضامن مع بلدان الجنوب العالمي، وفي الوقت عينه يعلّق المجتمع الدولي – لاسيما دول الجنوب – آمالًا عريضة على أن تلعب منظمة شنغهاي للتعاون دورًا محوريًا في تعزيز الأمن العالمي، والحوكمة الاقتصادية، في مواجهة السياسات والإملاءات الأميركية المهيمنة وفق منصة «مودرن دبلوماسي».
العلاقة بين الصين والهند
شهدت القمة لقاءً بين رئيس الوزراء الهندي ناريندار مودي والرئيس الصيني شي جين بينغ، وهو الأول على الأراضي الصينية منذ 7 سنوات، إذ تقاسما رؤية كونهما شريكين وليسا متنافسين. وتعهّد زعيما أكبر دولتين من حيث عدد السكان في العالم، اللتين تمثلان نحو 2.8 مليار نسمة، بتكثيف التعاون، والعمل على حل نزاعهما الحدودي المستمر منذ سنوات طويلة.
ويأتي التقارب في وقت تواجه فيه البلدان ضغوطًا من الرسوم الجمركية الأميركية المرتفعة.
ونقلت شبكة «سي إن بي سي» الأميركية عن نائبة الرئيس الأولى في معهد سياسات جمعية آسيا، ويندي كاتلر قولها: «استخدم مودي وشي كل الكلمات الدبلوماسية المتاحة للإشارة إلى التزام جديد مدفوع جزئيًا بالرسوم الجمركية الباهظة التي فرضها الرئيس ترامب على كليهما».
وشهدت القمة اجتماع شي ومودي وبوتين وهم يمسكون بأيدي بعضهم، ويتشاركون الضحكات الظريفة في الوقت الذي اتهمت فيه الولايات المتحدة الصين والهند بتأجيج حرب موسكو على أوكرانيا.
أبرز نتائج قمة شنغهاي
وفق وزارة الخارجية الصينية، فقد خرجت القمة بعدد من النتائج والاتفاقيات بين الدول الأعضاء، ومن أهمها:
- وضع خطة شاملة لتطوير منظمة شنغهاي للتعاون للسنوات العشر القادمة، لترسيخ التعاون والمنفعة المتبادلة، وبناء عالم متعدد الأقطاب.
- إعلان موقف داعم للنظام التجاري متعدد الأطراف بقيادة منظمة التجارة العالمية، والدعوة إلى إلغاء الإجراءات الآحادية التي تنتهك قواعدها.
- اتخاذ قرار سياسي بإنشاء بنك تنمية تابع للمنظمة لتعزيز البنية التحتية، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، في المنطقة الأوراسية.
- إطلاق 6 منصات تعاون علمية في مجالات الطاقة، والصناعة الخضراء، والاقتصاد الرقمي، ومراكز الابتكار العلمي، والتعليم العالي، والتعليم المهني والتقني.
- اعتماد 6 خطط عمل للتنمية عالية الجودة، تشمل الطاقة المستدامة، والصناعة الخضراء، والاقتصاد الرقمي، والذكاء الاصطناعي، والابتكار العلمي، والتعاون الاقتصادي والتجاري.
- اتفاقية بناء الثقة في المجال العسكري على الحدود (شنغهاي 1996).
- اتفاقية التخفيض المتبادل للقوات المسلحة في المناطق الحدودية (موسكو 1997).
وساهمت هاتان الاتفاقيتان في تعزيز الثقة المتبادلة في المجال العسكري، وترسيخ شراكة حقيقية بين دول المنطقة.
ومع انضمام أوزبكستان في العام 2001، أُعيدت تسمية المجموعة إلى «منظمة شنغهاي للتعاون». وركزت المنظمة في بداياتها على مواجهة التحديات الأمنية المشتركة في آسيا الوسطى، وعلى رأسها الإرهاب، ومكافحة الحركات الانفصالية والتطرف.
وفي حزيران 2002، وُقع ميثاق المنظمة خلال قمة سانت بطرسبورغ لرؤساء الدول، ودخل حيز التنفيذ يوم 19 أيلول 2003 ليصبح الوثيقة التأسيسية التي تحدد أهداف المنظمة ومبادئها وهياكلها ومجالات نشاطها.
توسعت مهمات المنظمة لاحقًا. ففي العام 2006 أعلنت خططًا لمكافحة الإتجار الدولي بالمخدرات باعتباره مصدر تمويل الإرهاب. وفي 2008 شاركت بفعاليةٍ في جهود تطبيع الوضع في أفغانستان.
وعززت المنظمة تعاونها الاقتصادي، إذ وقّع رؤساء الدول الأعضاء برنامج التعاون التجاري والاقتصادي متعدد الأطراف لمدة 20 عامًا بهدف إنشاء منطقة تجارة حرة بين الدول الأعضاء، مع العمل على تهيئة بيئة استثمارية وتجارية أكثر ملاءمة.
وشهدت المنظمة توسعًا مهمًا في عضويتها، ففي العام 2017 – خلال قمة أستانا – حصلت الهند وباكستان على العضوية الكاملة. وفي العام 2023، وخلال قمة نيودلهي، انضمت إيران كعضوٍ كامل.
الأهمية الاقتصادية
تُعد منظمة شنغهاي للتعاون اليوم أكبر منظمة إقليمية من حيث المساحة الجغرافية، وعدد السكان، وتتمتع بسوقٍ واسعة، وموارد متنوعة، وإمكانات نمو واعدة. وتمثل أراضي الدول الأعضاء مجتمعة، حوالى 27 بالمئة من مساحة اليابسة في العالم، وأكثر من 60 بالمئة من مساحة أوراسيا، ويتجاوز مجموع سكان دول المنظمة 42.8 بالمئة من سكان العالم، أي 3.4 مليارات نسمة من أصل 8 مليارات، وفق منصة «ذا دبلوماتيك انسايت».
وتنتج دول المنظمة 23.6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، و33.8 بالمئة منه بناءً على تعادل القوة الشرائية.
وتحتل الصين والهند على وجه الخصوص المرتبتين الثانية والسابعة عالميًا على صعيد الناتج المحلي الإجمالي الرسمي 18.75 تريليون دولار، و3.91 تريليونات دولار على التوالي. والأولى والثالثة من حيث الناتج المحلي الإجمالي المعادل للقوة الشرائية (38.15 تريليون دولار و16.19 تريليون دولار على التوالي). وتحقق دول المنظمة معدلات نمو اقتصادي مرتفعة بمتوسط 5.4 بالمئة في العام 2024، مقارنة بالمتوسط العالمي البالغ 3.3 بالمئة.
وتضم المنظمة اقتصاديات متباينة الأحجام، ذات مزايا تنافسية متفاوتة في السلع، ومستويات انفتاح سوقي متفاوتة، ويُظهر التبادل التجاري اختلالًا لمصلحة أكبر الاقتصادات، وفي مقدمتها الصين، وروسيا، والهند.
أهداف المنظمة
استنادًا إلى الموقع الرسمي للمنظمة، تتمثّل الأهداف الرئيسة في تعزيز الثقة المتبادلة، وعلاقات حسن الجوار بين الدول الأعضاء، وتطوير التعاون الفعال في مجالات السياسة، والتجارة، والاقتصاد، والعلوم، والتكنولوجيا، والثقافة، إضافة إلى التعليم، والطاقة، والنقل، والسياحة، وحماية البيئة، وغيرها من القطاعات الحيوية.
وتسعى المنظمة إلى بذل جهود مشتركة للحفاظ على السلام والأمن والاستقرار في المنطقة، والعمل باتجاه إقامة نظام سياسي واقتصادي دولي جديد يقوم على أسس الديمقراطية والعدالة والعقلانية.
تأسست منظمة شنغهاي للتعاون يوم 15 حزيران 2001 بمدينة شنغهاي الصينية من قبل كل من كازاخستان، والصين، وقرغيزستان، والاتحاد الروسي، وطاجكستان، وأوزبكستان. قبل ذلك، كانت جميع هذه الدول – باستثناء أوزبكستان – أعضاء في مجموعة شنغهاي الخماسيّة، وهي رابطة سياسية أُنشئت استنادًا إلى اتفاقيتين بارزتين:
آفاق المستقبل
نقلت وكالة «آسوشيتد برس» عن ديريك غروسمان أستاذ العلاقات الدولية بجامعة جنوب كاليفورنيا قوله: «إنّه حتى ولو كان نطاق وتأثير قمة منظمة شنغهاي للتعاون محدودًا في نهاية المطاف، فإنّ ثمة أمرًا واحدًا واضحًا، وهو أنّ الصين في حالة صعود دبلوماسي، والولايات المتحدة تدمّر نفسها».
ربما يلخص هذا القول واقع الحال أكثر من أي شيء آخر، فأحد الأهداف الرئيسية لمنظمة شنغهاي للتعاون هو محاربة الهيمنة الأميركية على الاقتصاد والأمن العالمي.
وتجتذب المنظمة أعضاءً جددًا لها من دول تعاني الهيمنة الغربية على مقدراتها، وهي تمثّل نموذجًا لعلاقات دولية جديدة تسعى للدفاع عن التعددية القطبية المتوازنة، والعولمة الاقتصادية الشاملة، وتعزيز نظام حوكمة عالمي أكثر عدلًا وإنصافًا، وفق تعبير الرئيس الصيني.
بناء نظام مالي مستقل
لتحقيق هذه الأهداف تسعى المنظمة إلى بناء نظام مالي مستقل، وقد تبنّت القمة تأسيس بنك تنمية لمنظمة شنغهاي، وستقدم الصين مساعدة مجانية بقيمة ملياري يوان (280 مليون دولار) للدول الأعضاء هذا العام، بالإضافة إلى 10 مليارات يوان أخرى من القروض لاتحاد بنوك «منظمة شنغهاي للتعاون»، وفق وكالة رويترز.
ويشجع قادة المنظمة تسوية التجارة بين دولهم باستخدام اليوان الصيني، والعملات المحليّة، وتوسيع مفهوم «الكترو- يوان» في تجارة الطاقة، الكهرباء، والطاقة المتجددة، ما يمكن أن يحدّ من هيمنة الدولار الأميركي في التجارة العالمية، وفق وكالة رويترز.
وتطمح المنظمة إلى لعب دور حيوي في رسم نظام عالمي متعدد الأقطاب دفاعًا عن التعددية، وتقديم نموذج بديل للهيمنة الغربية ضمن إطارمنظمة التجارة العالمية، والنظام العالمي القائم على الأمم المتحدة.
وقال الرئيس الصيني في القمة الأخيرة، إنّه يفتح الطريق أمام الدول الأعضاء في «منظمة شنغهاي للتعاون» لاستخدام «نظام بيدو» الصيني للأقمار الاصطناعية، وهو بديل لنظام تحديد المواقع العالمي (جي بي إس) الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة، وفق وكالة «آسوشيتد برس».
كذلك، أعرب الرئيس الروسي بوتين عن دعمه لمبادرة الرئيس الصيني قائلًا إنّه يعتقد أنّ «منظمة شنغهاي للتعاون يمكن أن تتولى الدور القيادي في الجهود الرامية إلى تشكيل نظام أكثر عدالةً ومساواةً للحكم في العالم».
قلق أميركي
عبّر الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن قلقه من قمة شنغهاي. ووصف روسيا والصين بأنّهما يتآمران مع كوريا الشمالية ضد الولايات المتحدة. ولم تختلف تصريحات قادة أوروبا كثيرًا عن الموقف الأميركي الذي يعتبر أنّ قمة شنغهاي تمثل تحديًا خطيرًا، وأنّها خطوة نحو تحالف مُناوئ للغرب.
وهناك ما يبرر غضب الرئيس ترامب الذي كان يراهن على اجتذاب الرئيس الروسي بوتين بعيدًا عن الصين التي يعتبرها العدو الأخطر على مكانة الولايات المتحدة. وقد وجد بوتين يوقّع على 20 اتفاقية تعاون جديدة مع الحليف الصيني من بينها تدشين خط غاز «قوة سيبيريا – 2»، وهو ما يحقق مزايا لكلا البلدين الكبيرين. روسيا ستجد سوقًا للغاز يعوّض توقف أوروبا عن استيراده ما يعزز اقتصادها، وكذلك ستحصل الصين على غاز أرخص بكثيرٍ، ما يجعل سلعها أكثر تنافسية. والأهم أنّه الأكثر أمانًا كونه خطًا مباشرًا بين الدولتين.
رقصة التنّين والفيل
كان لحضور رئيس الوزراء الهندي ناريندار مودي إلى الصين، ومشاركته في القمة بعد 7 سنوات من القطيعة، دلالة مهمة على أنّ الهند تفضّل التعاون مع الصين رغم الخلافات الحدودية بينهما، وعدم الرهان على الولايات المتحدة التي تفرض شروطًا تعرقل نمو الاقتصاد الهندي، من بينها وقف استيراد الهند لغاز ونفط روسيا الرخيصَين، ومنعها من استيراد الأسلحة الروسية. وكانت التصريحات المتبادلة بين الرئيس شي جين بينغ، ورئيس الوزراء ناريندار مودي عن «رقصة التنين الصيني مع الفيل الهندي» تعبيرًا واضحًا عن تعاونٍ متنامٍ بين أكبر دولتين في العالم، وتأكيدًا لتعميق التعاون من أجل عالم أكثر عدالة…











