- En
- Fr
- عربي
النمط الإستراتيجي الأميركي في إدارة الأزمات الدولية
1- تعريفات الأزمة:
تُعرّف الأزمة بأنها حدّ يبلغه التناحر الدولي يؤدي إلى تعطيل سير النظام أو يحول دون تأديته لوظيفته أو لإحدى وظائفه. لهذا السبب تُحدد طبيعة الأزمة وفقاً لطبيعة النظام([1]). اما الأزمة من الناحية الإصطلاحية فهي نقطة تحوّل مصيرية في مجرى حدث ما, تتميز بتحسين ملحوظ أو بتأخر حاد, وترتبط بتجاذبات قديمة لا بد ان تزول لتحلّ محلها ارتباطات جديدة, وتورث تغيرات كمية ونوعية في هذا الحدث([2]).
الأزمة كمصطلح قديم ترجع أصوله التاريخية الى الطب الاغريقي “نقطة تحول” بمعنى انها لحظة قرار حاسمة في حياة المريض وهي تُطلق للدلالة على حدوث تغيير جوهري ومفاجئ في جسم الانسان. في القرن السادس عشر شاع استخدام هذا المصطلح في المعاجم الطبية, وتم اقتباسه في القرن السابع عشر للدلالة على ارتفاع درجة التوتر في العلاقات بين الدولة والكنيسة. وبحلول القرن التاسع عشر تواتر استخدامها للدلالة على ظهور مشكلات خطيرة أو لحظات تحوّل فاصلة في تطور العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وقد تحدث كارل ماركس في كتاباته عن “الحتمية التاريخية” وعن أزمات الإفراط في الانتاج, وتفاقم كل من هذه الأزمات عن سابقاتها. وفي العام 1937 عرّفت دائرة معارف العلوم الاجتماعية الأزمة بأنها “حدوث خلل خطير ومفاجئ في العلاقة بين العرض والطلب في السلع والخدمات ورؤوس الأموال”([3]).
ولقد استعمل المصطلح بعد ذلك في مختلف فروع العلوم الانسانية وبات يعني “مجموعة الظروف والأحداث المفاجئة التي تنطوي على تهديد واضح للوضع الراهن المستقر في طبيعة الاشياء([4]), وهي النقطة الحرجة, واللحظة الحاسمة التي يتحدد عندها مصير تطور ما, إما الى الأفضل, أو الى الأسوأ (مثل الحياة أو الموت, الحرب أو السلم) لإيجاد حل لمشكلة ما أو انفجارها. كما عرّف (ألستار بوخان- Alastair Buchan) الأزمة في كتابه “إدارة الأزمات” بأنها تحدّ ظاهر أو رد فعل بين طرفين أو عدة اطراف, حاول كل منهم تحويل مجرى الأحداث لصالحه.
ويعرّفها (أوران يونغ - ORAN YONG) في كتابه الوسطاء Intermediaries بأنها أحداث سريعة تؤدي الى زيادة عدم الإستقرار في النظام القائم الى درجة غير عادية تزيد من احتمال استخدام العنف. أما (كورال بل Coral Bill) فإنها تعرّفها في كتابها (إتفاقيات الأزمة
A study in diplomatic Management, the Conventions of Crisis) بأنها ارتفاع الصراعات الى مستوى يهدد بتغيير طبيعة العلاقات الدولية أو بين الدول([5]).
وللأزمة الدولية مفاهيم متعددة منها: “إنها سلسلة التفاعلات المتبادلة بين حكومات دولتين أو أكثر ذات سيادة في صراع حاد هو دون مستوى الحرب الفعلية, ولكنه في الوقت نفسه ينذر باحتمال وقوع الحرب. ويشير (روبرت نورث Robert North) إلى ان الأزمة الدولية هي عبارة عن تصعيد جاد للفعل ورد الفعل, أي هي عملية انشقاق تحدث تغييرات في مستوى الفعالية بين الدول, وتؤدي الى إذكاء درجة التهديد والإكراه. ويشير نورث الى أن الأزمات غالباً ما تسبق الحروب, ولكن لا تؤدي كلها الى الحروب إذ تسوّى سلمياً أو تجمّد أو تهدأ, على أنه يمكن دراستها على اعتبارها اشتراك دولتين أو أكثر في المواجهة نفسها([6]).
كما يعرّفها (جون سبانير John Spanir) بأنها “موقف تطالب فيه دولة ما بتغيير الوضع القائم, وهو الأمر الذي تقاومه دول اخرى, مما يخلق درجة عالية من احتمال اندلاع الحرب([7]).
ويرى عزت عبد الواحد ان هناك اعتبارات يجب مراعاتها في التعريف بالأزمة الدولية في أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية كما يلي:
أ- عالمية نطاق الأزمة, بمعنى امتداد آثارها لتشمل العديد من البلدان فلا تقتصر على أطرافها المباشرين, بل تطول مصالح العديد من الأطراف غير المباشرة.
ب- ان تنطوي الأزمة على آثار حالية وأخرى مستقبلية قابلة للظهور في الزمن المقبل.
وفقاً لذلك فإن الأزمة هي “موقف مفاجئ تتجه فيه العلاقات بين طرفين أو أكثر نحو المواجهة بشكل تصعيدي نتيجة لتعارض قائم بينها في المصالح والأهداف, او نتيجة لإقدام أحد الأطراف على القيام بتحدي عمل يعدّه الطرف الآخر المدافع, يمثل تهديداً لمصالحه وقيمه الحيوية, مما يستلزم تحركاً مضاداً وسريعاً للحفاظ على تلك المصالح, مستخدماً في ذلك مختلف وسائل الضغط وبمستوياتها المختلفة, سواء أكانت سياسية أو اقتصادية أو حتى عسكرية([8])”.
أما الأدوات المنهجية لتناول الأزمة فهي تختلف باختلاف المذاهب الفكرية في علم اجتماع السياسة الدولية. ويقع أول خط فصل منهجي حول مسألة رسم أنموذج نظري معمم للأزمات الدولية.فوفقاً (لريمون أرون Raymond Aron) مثلاً يتعذّر على عالم السياسة إيجاد قوانين عامة يخضع لها السلوك السياسي لأطراف الأزمة الدولية, لأن حقل النظام الدولي بالغ التعقيد لا يمكن إرجاعه الى عامل أساسي واحد. فالمحددات الأساسية تختلف باختلاف الدول الداخلة في هذا النظام, ومنها ما يتحدّد أساساً بالدوافع الاقتصادية, ومنها ما يولي البعد الايديولوجي او الثقافي اهمية تعلو على الأبعاد الاقتصادية. وطبعاً لا يمتنع أرون عن تصنيف العوامل المؤثرة في قوة الدولة وفي قرارها, لكنه يمتنع عن تقديم أنموذج مسبق, وبمعزل عن الدراسة العينية للوقائع.
في ضوء ما تقدم من تعريفات يكون النظام الدولي, إذاً, محكوماً علمياً بتفسيرات متعددة تجعل القوانين العامة ضرورية وقاسماً مشتركاً بين التعريفات. وهذا منطلق منهجي لمنح النظام الدولي طبيعة دولية عامة وموحدة, ولو أن تبياناً يفرِّق بين الانظمة الدولية المختلفة ويزيد في تحويل خلافاتها الى أزمات. هكذا تبدو الدول في النظام الدولي وحدات مماثلة لا تختلف باختلاف أنظمتها (داخلياً) بل باختلاف مواقعها في هذا النظام([9]).
2- مفهوم إدارة الأزمة:
جاءت إدارة الأزمات مسألة قائمة بحد ذاتها منذ القدم. وكانت مظهراً من مظاهر التعامل الانساني مع المواقف الطارئة او الحرجة التي واجهها الانسان بعد ان جوبه بتحدي الطبيعة أو غيره من البشر. ولم تكن تعرف آنئذٍ بطبيعة الحال بإسم إدارة الأزمات وإنما عرفت تسميات اخرى مثل الحنكة الديبلوماسية, أو براعة القيادة, أو حسن الإدارة... الخ. وكانت هذه الممارسة هي المحك الحقيقي لقدرة الانسان على مواجهة الأزمات والتعامل مع المواقف الحرجة بما تفجره من طاقات إبداعه, وتستفزّ قدراته على الابتكار, هذه القدرات التي جعل منها (تشارلز رووتر Charles Rooter) في كتابه “فن الديبلوماسية” الأصل في نشأة الديبلوماسية([10]).
فالمفهوم البسيط لإدارة الشيء, هو التعامل معه للوصول الى أفضل النتائج الممكنة, بما يحقق مصالح القائم بالادارة. ومن هنا فإن إدارة الأزمة تعني “التعامل مع عناصر موقف الأزمة باستخدام مزيج من أدوات المساومة الضاغطة والتوفيقية بما يحقق أهداف الدولة ويحافظ على مصالحها الوطنية. وهي أيضا عبارة عن “محاولة لتطبيق مجموعة من الإجراءات والقواعد والأسس المبتكرة, تتجاوز الاشكال التنظيمية المألوفة وأساليب الإدارة الروتينية المتعارف عليها, وذلك بهدف السيطرة على الأزمة والتحكّم فيها وتوجيهها وفقاً لمصلحة الدولة([11]).
3- إنعكاسات “الحرب الباردة” على إدارة الأزمات الدولية
استناداً لمضمون إدارة الأزمات والتي تعني الجهود المشتركة لمنع تفاقم الأزمات الدولية, أو التدخل لوضعها تحت سيطرة القوانين الدولية, اختار المجتمع الدولي المتمثل بالأمم المتحدة الخيارات التالية في إدارة الأزمات الدولية:
- منع الأزمات الدولية.
- حلّ الأزمات الدولية.
- قمع الأزمات الدولية([12]).
وهذه الطرق الثلاث نصّ عليها ميثاق الامم المتحدة, وتُشكّل في مجموعها نظاماً متكاملاً لإدارة الأزمات الدولية ومن بينها:
أ- النظام الاصلي وفقاً للتطور الوارد في الميثاق وهي:
1- مجموعة من القواعد والمبادئ العامة التي يتعيّن على الدول احترامها والسير على هديها وفي أولها التعهّد بعدم استخدام القوة أو التهديد بها فعلاً كأسلوب لحلّ المشكلات الدولية, وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والخارجية للدول, وتسوية النزاعات بالطرق السلمية.
2- مجموعة من الآليات انشأها الميثاق لمساعدة الدول على تسوية النزاعات في ما بينها بالطرق السلمية. فقد نصّت الفقرة الاولى من المادة (33) من الميثاق على انه “يجب على اطراف اي نزاع, من شأن استمراره ان يعرّض حفظ السلم والأمن الدوليين للخطر, أن يلتمسوا حلّه بادئ ذي بدء بطريق المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية, او أن يلجأوا الى الوكالات والتنظيمات الإقليمية او غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها اختيارها”([13]).
إذن نستطيع أن نستنتج بأن هناك أربع طرائق مختلفة لتسوية النزاعات ودياً وهي: الطرق الديبلوماسية, الطرق السياسية, الطرق التحكيمية, والطرق القضائية.
3- تفويض مجلس الأمن بالتدخل, باسم المجتمع الدولي كله, في حالات وقوع عدوان او تهديد للسلم أو الإخلال به سواء لقمع العدوان أو لردعهأاو للعودة بالوضع الى سابق ما كان عليه قبل اندلاع الأزمة. وحرص الميثاق على تزويد مجلس الامن الدولي بالسلطات والصلاحيات كلها التي تمكّنه من التعامل مع كل الأزمات بفاعلية.
وبسبب من “الحرب الباردة” التي سادت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي, والتي انعكست على دور الأمم المتحدة في إدارة الأزمات الدولية, وخصوصاً على التصوّر الأصلي الوارد في ميثاق الأمم المتحدة حول نظام الأمن الجماعي, فشلت معظم الأزمات الدولية إبان تلك الفترة في إيجاد الحلول والتسويات لها ضمن إطار الأمم المتحدة, وذلك لغياب أو لعدم إيجاد
بعض أدوات وآليات إدارة الأزمات الدولية ومنها:
1- عدم استكمال بناء ادوات النظام وآلياته نفسها, وتمثلت أهم مظاهر هذا النقص في:
أ- عدم دخول المادة (43) من الميثاق حيّز التنفيذ. علماً أن المادة المذكورة تنص في الفقرة الأولى منها على أن يتعهّد جميع أعضاء “الأمم المتحدة” في سبيل المساهمة في حفظ السلم والامن الدوليين, أن يضعوا تحت تصرّف مجلس الامن, بناء على طلبه وطبقاً لاتفاق أو إتفاقات خاصة, ما يلزم من القوات المسلحة والمساعدات والتسهيلات الضرورية لحفظ السلم والأمن الدولي ومن ذلك حق المرور.
ب- تجميد لجنة أركان حرب التي أصبحت بلا وظيفة. وقد نصّت المادة 47 من الميثاق في الفقرة الأولى على أنها “تشكل لجنة من أركان الحرب تكون مهمتها ان تسدي المشورة والمعونة الى مجلس الأمن وتعاونه في جميع المسائل المتصلة بما يلزمه من حاجات حربية لحفظ السلم والأمن الدولي ولاستخدام القوات الموضوعة تحت تصرفه وقيادتها”.
ووفقاً للمادة 47 (الفقرة الثانية), تتألف لجنة أركان الحرب من رؤساء أركان حرب الاعضاء الدائمين في مجلس الأمن أو من يقوم مقامهم. وتكون مسؤولة بإشراف مجلس الأمن عن التوجيه الإستراتيجي لأية قوات مسلحة موضوعة تحت تصرف المجلس([14]).
2- الإسراف في استخدام حق النقض (الفيتو):
والمعروف انه في الفترة الأولى من قيام الأمم المتحدة ولغاية عام 1965, قام الاتحاد السوفياتي باستخدام مسرف لحق النقض في مجلس الامن (101 مرة) وذلك لتعويض النقص الحاصل لسياسته في الجمعية العامة للأمم المتحدة, حيث كانت الأكثرية الساحقة من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة مؤيدة للولايات المتحدة ولسياستها, وبقيت تلك الحالة لغاية الستينات وبالتحديد فترة قيام الدول المستجدة في الاستقلال عقب الحروب التحررية ونيل الدول إن في آسيا أو أفريقيا إستقلالها, وبالتالي تغيّر ميزان الدول في الجمعية العامة, من دول تدور في فلك الولايات المتحدة الى دول تدور في فلك الاتحاد السوفياتي, وإثر ذلك, أصبحت الولايات المتحدة تسرف في استعمال حق النقض (الفيتو) في مجلس الامن الدولي والتي بلغت 46 مرة بين 1966 و1985 مقابل (صفر) بين 1946 و1965, للتعويض عن خسارتها في الجمعية العامة. وفي الجدول (1) نموذج لتطور استخدام حق النقض (الفيتو) خلال مرحلة الحرب الباردة للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي.
3- إحلال نظام مناطق النفوذ محل نظام الأمن الجماعي
بسبب استحالة الاتفاق عل تشكيل أداة عسكرية فعّالة توضع بتصرف مجلس الأمن, وبسبب تجميد عمل لجنة أركان الحرب, وبسبب الشلل الذي أصاب مجلس الأمن الدولي بسبب (الفيتو), كان من الطبيعي ان تفقد الدول ثقتها في نظام الأمن الجماعي, وكان أيضاً من البديهي ألاّ تطمئن الدول الى الترتيبات التي يتضمّنها, أو تعتبرها ضمانة كافية لتحقيق أمنها الوطني, ولذلك بدأت تبحث عن ترتيبات أخرى خارج نطاق منظمة الأمم المتحدة وإطارها, فوجدتها في الأحلاف السياسية والعسكرية, وأهمها حلف شمال الأطلسي (الناتو) وحلف وارسو اللذين عكسا أجواء الحرب الباردة وتثبيتها, (وفي حين ان حلف وارسو اختفى بغياب الحرب الباردة, ما زال حلف شمالي الاطلسي فاعلاً وقد زاد عدد اعضائه بانضمام دول كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي ومنضمّة الى حلف وارسو).
4- البحث عن نظام بديل أو الاتحاد من أجل السلام
البحث عن نظام بديل او الاتحاد من أجل السلام, وهو اعطاء دور للجمعية العامة للامم المتحدة, بسبب عجز مجلس الأمن الدولي عن القيام بدوره في حفظ السلم والامن الدولي وفقاً للميثاق وذلك بسبب الإستعمال المسرف لحق النقض. وقد كان هناك بالفعل دور كبير للجمعية العامة أثناء الحرب الكورية عام 1950, ودور مفقود في المجر عام 1956 ودور أفضل في عام 1956 في مصر أثناء العدوان الثلاثي عليها. ونقول الدور المفقود في المجر للأمم المتحدة بسبب عدم تصور ان توصي الدول الاعضاء بتقديم عون عسكري الى حكومة المجر بما يكفي لردع العدوان العسكري المتأتي من قبل حلف وارسو والاتحاد السوفياتي. ولذلك ظلت القرارات الصادرة عنها حبراً على ورق ومجرد نداءات لا وزن لها ولا تأثير على مسار الازمة.
أما بالنسبة للأزمة الثانية (العدوان الثلاثي على مصر) فلا شك أن موقف القوتين العظميين الرافض للعدوان الثلاثي على مصر, إضافة الى عوامل اخرى أدت الى فشل العدوان, وبالتالي فقد استطاعت الجمعية العامة للأمم المتحدة, ولأول مرة في تاريخها أن تشكّل قوات طوارىء دولية لمراقبة وقف اطلاق النار وانسحاب القوات المعتدية ثم التمركز بعد ذلك على الجانب المصري من الحدود مع فلسطين المحتلة (بموافقة مصر) للفصل بين القوات المصرية والاسرائيلية ومراقبة حرية الملاحة في خليج العقبة.
يبدو أمراً طبيعياً إذاً إختلاف دور الأمم المتحدة, في إدارة الأزمات الدولية في اثناء الحرب الباردة, ويمكن إدراج الازمات التي شكّلت تهديداً للسلم والأمن الدوليين خلال هذه المرحلة في أنماط متعددة:
1- الأزمات التي اندلعت داخل منطقة النفوذ المباشر لإحدى القوتين العظميين وأصبح هذا النوع من النزاع خارج إطار نطاق نفوذ قدرة الامم المتحدة على إدارته أو التأثير الفعّال على مساره وتحوّل الى ميدان محجوز للمعالجة داخل الأطر الإقليمية أو الدولية التي يهيمن عليها كلٌّ من حلف وارسو (المنظومة الاشتراكية) والإتحاد السوفياتي أو الدول التي تدور في فلكه السياسي وفي مدار نفوذه إن في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية, أو حلف الناتو ومنظمة الدول الاميركية (المنظمة الاقليمية), وكذلك الدول التي تدور في فلك الولايات المتحدة في معظم أرجاء المعمورة.
والمعلوم أن قيام الأحلاف يخالف مبدأ الأمن الجماعي لأن الحلف يعني تقسيم العالم الى مناطق معينة ووضعها تحت الحماية الفردية ومنع أي تدخل خارجي في نطاق الحيّز الجغرافي له.
2- الأزمات التي كانت احدى القوتين العظميين طرفا مباشراً فيها (كالأزمة الأفغانية بالنسبة لتورط الإتحاد السوفياتي فيها) و(الأزمة الفيتنامية بالنسبة لتورط الولايات المتحدة فيها). وقد استحال على الأمم المتحدة طوال فترة الحرب الباردة إمكانية إيجاد تسوية للأزمتين ضمن أروقتها, أو ان تلعب فيها أي دور حاسم.
3- الأزمات الأخرى, أي تلك التي دار مسرحها الرئيسي خارج مناطق النفوذ المباشر لإحدى القوتين العظميين ولم يكن أيٌّ منهما طرفاً مباشراً فيها.
ويبدو أن هذا هو النمط الوحيد من أنماط الأزمات الدولية الذي سُمح للأمم المتحدة أن تلعب فيها أدواراً اختلفت أشكالها من أزمة الى أخرى (جهود وساطة, لجان توفيق, مساع حميدة, لجان تقصي حقائق, قوات طوارئ دولية) كما اختلفت فاعليتها من أزمة الى أخرى.
4- نماذج إدارة الأزمات في فترة الحرب الباردة:
أ- حالات قمع العدوان:
- نموذج قمع العدوان: الأزمة الكورية عام 1950.
- حالات فرض العقوبات الإلزامية ضد جنوب افريقيا وروسيا.
ب- عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلم والأمن الدولي:
- هيئة مراقبة الهدنة عام 1949: بدأت هذه العملية في أثناء الحرب العربية الإسرائيلية الاولى عام 1948.
- مجموعة المراقبة العسكرية بين الهند وباكستان عام 1948.
- قوات الطوارئ الدولية الأولى عام 1956 في مصر على أثر العدوان الثلاثي (الاسرائيلي البريطاني الفرنسي على مصر).
- عملية الأمم المتحدة في الكونغو عام 1960.
- قوات الطوارئ للأمم المتحدة في لبنان عام 1978.. وغيرها.
5- إدارة الأزمات الدولية بعد “الحرب الباردة”
بعد وصول ميخائيل غورباتشوف الى الحكم في الاتحاد السوفياتي عام 1986, بدأ يطرأ على النظام الدولي تغيّر ملحوظ كان له تأثيراته على الأمم المتحدة ([15]). وقد أخذ التأثير شكلاً محدداً وهو استخدام الأمم المتحدة غطاء للتسوية السلمية لعدد من الأزمات التي قرّرت الدولتان العظميان إخراجها من ساحة الصراع على النفوذ او الحرب الباردة بينهما. وأدى هذا الى تنشيط آليات الأمم المتحدة سواء في مجال البحث عن تسوية سلمية أو في مجال عمليات حفظ السلم. لكن الآليات الخاصة بالأمن الجماعي وردع العدوان لم تُختبر.
وفي خلال الفترة بين 1986 و1989 لم تجد الولايات المتحدة أي إحراج لها (بالرغم من محاولات الرئيس السوفياتي غورباتشوف إشاعة جوّ من الإسترخاء العالمي نتيجة لسياسة البريسترويكا (إعادة البناء) والغلاسنست (العلانية) التي انتهجها) في ان تعطي نفسها حق التدخل المنفرد والقيام بأي عمل عسكري حين ترى ذلك ملائماً, كما جرى في العام 1986 بالإغارة على ليبيا, وفي كانون الأول 1989 التدخل المسلح في بنما لإسقاط حكومة نورييغا والقبض عليه شخصياً لمحاكمته في الولايات المتحدة.
وظلّ الوضع الدولي دون التدخل المباشر من الأمم المتحدة الى الثاني من آب 1990 حين أقدم العراق على غزو الكويت, فوجدنا الأمم المتحدة تتنكّب دوراً في هذه الأزمة يختلف جذرياً عن أدوارها التقليدية في إدارة الأزمات. ولكي تتضّح طبيعة هذا الدور تماماً يتعين أن نميّز بين 3 مراحل:
المرحلة الأولى: وهي الممتدة منذ بداية الغزو في 2/8/1990 وحتى قبيل صدور القرار بالانسحاب رقم 678 في 29/10/1990, وهي المرحلة التي لعب فيها مجلس الأمن الدولي دوراً بالغ الأهمية بدا فيه وكأنه يستعيد الدور المرسوم له في ميثاق الأمم المتحدة لفرض احترام الشرعية الدولية ومعاقبة الخارجين عليها.
المرحلة الثانية: وهي المرحلة الممتدة منذ صدور قرار التفويض لدول التحالف من أجل تحرير الكويت باستخدام القوة وحتى إعلان دول التحالف وقف إطلاق النار في 27/2/1991, وفي خلال هذه الفترة إنتقلت الإدارة الفعلية للأزمة الى الولايات المتحدة الأميركية.
المرحلة الثالثة: وهي المرحلة الممتدة منذ صدور القرار 687 في 3/4/1991 والخاص بتحديد شروط وقف إطلاق النار النهائي وحتى اليوم. وهي المرحلة التي استعاد فيها مجلس الأمن دوره شكلاً في إدارة الأزمة في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار, وفقده عملياً لأنها أصبحت تدار فعليا عبر الولايات المتحدة الاميركية.
نسوق هنا بعض ملاحظات على إدارة أزمة الخليج الثانية:
1- إجتمع مجلس الأمن الدولي مرتين على مستوى وزراء الخارجية: الأولى برئاسة وزير الخارجية الاميركي والثانية برئاسة وزير الخارجية السوفياتي, ولم يكن مجلس الأمن قد انعقد على هذا المستوى منذ إنشاء الأمم المتحدة عام 1945 وحتى بداية الأزمة عام 1990, سوى مرتين فقط.
2- إصدار مجلس الأمن خلال الفترة (2/8/1990 - 29/10/1990) والتي لا تتجاوز الأربعة أشهر 12 قراراً دولياً, وهذا يعدّ أكبر عدد لقرارات دولية بخصوص أزمة واحدة في تاريخ الأمم المتحدة.
3- جاءت جميع هذه القرارات الدولية الـ12 مستندة الى الفصل السابع من الميثاق([16]).
وقد أدى تعاظم القوة العسكرية الأميركية وخصوصاً في خلال وبعد إدارتها لحرب الخليج الثانية, وحيثيتها في الساحة الدولية, الى اعتبار السياسة الخارجية الأميركية بذاتها إطاراً لإدارة الأزمات الدولية. وعلى ذلك تحتل الولايات المتحدة المرتبة العسكرية الأولى في العالم بفارق شاسع عن المنافسين المحتملين (أوروبا, الصين, اليابان, روسيا) مما يمكّنها من القيام بدورها كإطار لإدارة الأزمات الدولية طبقاً لرؤية ومصالح الإدارة الأميركية. وكان بإمكان الولايات المتحدة ان تفعل ذلك من خلال الأمم المتحدة (أزمة الخليج الثانية, يوغوسلافيا, الصومال, أفغانستان, كوريا عام 1950) غير انها قد تفضل الاستقلال عنها في حال ما اذا كان ذلك أكثر ضماناً لتحقيق المصالح الأميركية. ولا يعني ذلك بالضرورة أن الولايات المتحدة مستعدة باستمرار للقيام بدور عسكري لحلّ الأزمات الدولية, غير أن المعني بالأساس هو أن الولايات المتحدة مستعدة باستمرار للحفاظ على مصالحها دون اللجوء الى الحل العسكري إلا في الحالات القصوى, وهي الحالات الخمس التي حددها (انتوني ليك Antony Lik) مستشار الأمن القومي في محاضرة له بجامعة هارفرد الأميركية في 25/10/1994:
1- الرد على هجوم مباشر على الولايات المتحدة ورعاياها في الداخل والخارج وكذلك على حلفائها.
2- الدفاع عن المصالح الإقتصادية الحيوية للولايات المتحدة.
3- الدفاع عن الديموقراطية.
4- منع انتشار الاسلحة النووية ومقاومة الارهاب.
5- إستخدام القوة العسكرية لأغراض إنسانية, وسيزداد احتمال استخدام القوة العسكرية الاميركية كلما اتسع نطاق المصلحة المعرضة للخطر.
وقد تُعدّ الحرب الأميركية على أفغانستان بعد 11 ايلول 2001 ضمن البند الأول, وكذلك حين ضربت اليابان ميناء بيرل هاربر, ودخلت الولايات المتحدة الحرب إثر ذلك.
كما يُعدّ التدخل الأميركي في أزمة الخليج الثانية أنموذجاً لحالة التدخل العسكري المباشر طبقا للبند الثاني, ويُعدّ تدخّلها في هايتي أنموذجاً للبند الثالث, ويُعدّ تدخّلها في ليبيا عام 1986 أنموذجاً للبند الرابع في شقّه الثاني, كما يُعدّ تدخّلها في الصومال أنموذجاً للبند الخامس([17]).
ويُجمل (نصير عارودي) معايير استخدام الولايات المتحدة للقوة وتسويغ التدخلات العسكرية بعد الحرب الباردة في ثلاثة أنساق:
1- نسق المصالحة, وتمتدح الإدارة الأميركية دوماً التسويات التي شهدتها فترة ما بعد الحرب الباردة القائمة على التسامح بين الاثنيات والتعاون والتصالح العرقي في بعض المناطق وليس كلها (جنوب افريقيا).
2- نسق المواجهة, يتبيّن هذا النسق في العلاقات مع العراق وإيران وليبيا والسودان وكوبا وأفغانستان (أيام الطالبان) ويذكر مدير المخابرات الاميركية السابق (جيمس شليسنجر) في مقالة نشرتها مجلة (ناشيونال أنترست المصلحة الوطنية) في خريف 1997, ان الولايات المتحدة خلال إدارة الرئىس كلينتون الأولى فقط, فرضت عقوبات جديدة من طرف واحد أو هددت باتخاذ خطوات قانونية في هذا الاتجاه (60 مرة) وازاء 35 دولة يشكل سكانها نحو (40%) من مجموع سكان العالم.
3- نسق التعاون مع خصم مثال تطبيع واشنطن العلاقات مع الصين في مجال التجارة, والمثال الثاني هو كوريا الشمالية التي لا تريد الولايات المتحدة فتح معركة معها نظراً لاحتجاج واشنطن على برنامج تطوير الطاقة النووية([18]).
أما التسويات التي تمت لبعض الأزمات الدولية بعد فترة الحرب الباردة فيمكن التمييز بينها على الشكل التالي:
أولاً في جنوب إفريقيا أنجزت التسوية في ربيع عام 1994.
ثانياً بالنسبة لأزمة يوغوسلافيا تمّ التوقيع على اتفاق دايتون في 21/11/1995 خدمة لأميركا ومصالحها وذلك للأسباب التالية:
أ- إظهار أوروبا عاجزة عن تسوية مشكلاتها الداخلية وحاجتها الدائمة الى واشنطن.
ب- إظهار عجز الأمم المتحدة عن القيام بدورها في حفظ السلم والأمن الدوليين.
ج- تهيئة الأجواء الداخلية والخارجية لتحجيم الصرب وضرب يوغوسلافيا لاحقاً وإسقاط ميلوسيفيتش والوصول ولو سياسياً إلى تخوم نفوذ الإتحاد السوفياتي وتحدي السياسة الروسية التقليدية المؤيدة للصرب.
ثالثا: في ايرلندا تم الاتفاق على اتفاقية بلفاست في 10/4/1998.
رابعاً: في منطقة الشرق الأوسط جاء إتفاق أوسلو وما جرى في اثنائه وبعده من أزمات وإشكالات وحروب تأكيداً على الفشل الذريع الذي واجهته الديبلوماسية الأميركية([19]).
صحيح أن انتهاء الحرب الباردة خلق انفراجاً دولياً وانعكس آمالاً اقليمية واسعة لاستتباب الأمن والسلام والعدالة, لكن ذلك الإنفراج بات مؤقتاً والآمال تحولت مخاوف لعدة عوامل ابرزها:
1- إفتقاد الوزن السوفياتي أدى الى فقدان التوازن الدولي, كما أدى الى هيمنة أميركية واسعة, والى استفراد أميركي لقوى محلية واقليمية عديدة, والى تغليب المواصفات الاميركية لمفاهيم الشرعية والعدالة والديموقراطية وفرض الشروط الاميركية للتسويات والمصالحات الاقليمية.
2- غياب القوة السوفياتية القطبية وانفراط عقدها حرم السلام العالمي والاقليمي من عنصر الضبط النووي, وخلق امكانية التولد والانتشار النووي على ساحة أوسع مما كانت قبل.
3- إذا كانت الحرب الباردة قد ذهبت بتحالفاتها, إلا ان الكثير من آثارها النفسية والمعنوية ما زالت باقية بين الدول المتجاورة أو المتنافسة, مما أدى ويؤدي الى توتر جديد ونزاع متجدد وأزمات إقليمية جديدة مثلاً ما حصل ويحصل الآن بين الهند وباكستان, الصين وفيتنام, إيران وتركيا, مصر والسودان, الصومال وأثيوبيا, أرمينيا وأذربيجان.
4- إن الإنحياز الأميركي لصالح إسرائيل في الصراع العربي الاسرائيلي, وعرقلة الولايات المتحدة لأعمال مجلس الامن الدولي بفعل (35 فيتو) منذ عام 1972 ولغاية 15/12/2001, وذلك من أجل ايجاد آلية لتسوية أزمة الشرق الأوسط وفقاً للقرارات الدولية ذات الصلة, كل ذلك أدى الى رفض عربي مطلق للسياسة الأميركية تجاه المنطقة خاصة بعد أن طبّق القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة بحذافيره ضد العراق في العام 1990 وما زال لغاية الآن يخضع لآثار ذلك التطبيق, في حين أن اسرائيل المتهمة بجرائم إبادة جماعية في لبنان (في صبرا وشاتيلا وقانا) وفي فلسطين المحتلة وفي مخيم جنين, تبقى خارج المساءلة القانونية الدولية, وخارج العقاب الدولي, بل خارج الشرعية الدولية.
نخلص الى القول بأنه إذا كانت الحرب الباردة أخذت معها عناصر التفجير في مشكلات عديدة, فتراجعت اخطار النزاعات العقائدية والصراعات السياسية والاقليمية المرتبطة بها, فإن أخطار النزاعات الداخلية والمحلية, أي ما يطلق عليها (بالنزاعات الدولية الجديدة في داخل الدول) قد تقدمت لتحتل مركزاً متقدماً مع استمرار أخطار النزاعات الحدودية التقليدية, فانطلقت من عقالها النزاعات القبلية والعشائرية والدينية والطائفية والمناطقية على نحو أوسع بكثير مما كان في زمن الحرب الباردة([20]).
المراجع باللغة الانكليزية:
1- Raymond Tanter & Richard H. Ulman, Theory and policy in international Relatin, New Jersy, 1972.
2 - Robert North, war, peace, survival, Global politics and conceptual synthesis, san fracisco.
3 - John spanir, Games Nations play: Analyzing international politics, New york, 4th edition, 1972.
[1] معلومات دولية, العدد 57, صيف 1998.
[2] عباس العماري, ادارة الازمات في عالم متغير, القاهرة 1993.
[3] امين هويدي, ادارة الازمات في ظل النظام العالمي المراوغ, مجلة السياسة الدولية, نيسان 1993.
[4] عزت عبد الواحد, ادارة الازمة في السياسة الخارجية المصرية, دراسة حالة ازمة الخليج الثانية, رسالة ماجستير غير منشورة, القاهرة 1994.
[5] كمال حمّاد, النزاعات الدولية, دراسة قانونية دولية في علم النزاعات, بيروت, 1998.
[6] حسن نافعة, الامم المتحدة في نصف قرن, دراسة في تطور التنظيم الدولي منذ 1945, عالم المعرفة, الكويت عدد 202, تشرين الاول عام 1995.
[7] نصير عارودي, معايير استخدام القوة وتبرير التدخلات العسكرية بعد الحرب الباردة, جريدة الشعب, القاهرة تاريخ 22 ايار 1998.
[8] فؤاد نهرا, مفهوم الازمة في النظام العالمي الجديد, معلومات دولية, العدد 57, 1998,ص6.
[9] هيثم ابو السعود, المجتمع وادارة الازمات, معلومات دولية, العدد 57, العدد 1998, ص16.
[10] عباس العماري, ادارة الازمات في عالم متغير, القاهرة, 1993 ص18.
[11] امين هويدي, ادارة الازمات في ظل النظام العالمي المراوغ, مجلة السياسة الدولية, نيسان 1933, ص537.
[12] كمال حماد, النزاعات الدولية: دراسة قانونية دولية في علم النزاعات, بيروت, 1998, صفحة 64.
[13] انظر نص ميثاق الامم المتحدة, الامم المتحدة, ونيويورك, ص24.
[14] المرجع المادة 47, ص31, 32.
[15] منذ وصول غورباتشوف الى الحكم عام 1986 ولغاية 1990 لم يستعمل الاتحاد السوفياتي حق النقض في مجلس الامن, على عكس الولايات المتحدة التي استعلمته في الفترة نفسها 23 مرة.
[16] د. حسن نافعة, الامم المتتحدة في نصف قرن, ص305.
[17] احمد المسلماني, ادارة الازمات في مرحلة ما بعد الحرب الباردة مقاربة نظرية, معلومات دولية, العدد 57, صيف 1998, ص34.
[18] نصير عارودي, معايير استخدام القوة وتبرير التدخلات العسكرية بعد الحرب الباردة, جريدة الشعب, القاهرة, 22/5/1998.
[19] علي فياض, التفاعل المتبادل بين الازمات الدولية و,الاقليمية والمحلية, معلومات دولية, العدد 57, صفحة 52.
[20] المرجع نفسه, ص59.