إقتصاد ومال

الوضع النقدي في لبنان
إعداد: تريز منصور

الحديث عن انهيار الاستقرار فيه الكثير من التهويل.. ولكن المعالجة الجدّية ضرورية

 

الأزمة الاقتصادية في لبنان واقع لا ينكره أحد. أما التهويل والتحذير من انفجار أزمة مالية، وبالتالي اهتزاز الاستقرار النقدي، فمسألة تقتضي التوقّف عندها، خصوصًا أنّ وسائل إعلام غربية نشرت في الأونة الأخيرة تقارير في هذا السياق مستندة إلى مؤشرات متّصلة بعجز المالية العامة وتدهور أسعار سندات اليوروبوندز في السوق الدولية.
فهل تشكّل الضغوط السياسية على لبنان في ظلّ التطورات الإقليمية والدولية العنصر الأساسي في إثارة المخاوف وتضخيم المخاطر؟ ثمّة مؤشر تفاؤلي لاستقرار الأسواق النقدية اللبنانية وفق الوزير السابق جورج قرم، وهو أنّ وكالات الائتمان الدولية لم تقم حتى الآن بإجراء أي تغيير في علامة لبنان الائتمانية. وبالتالي، فإن لبنان ما زال قادرًا على الصمود، رغم أنّ الأوضاع تقتضي التحرّك الجدّي والسريع باتجاه الحلول.


أرقام مطمئنة
ظهرت خلال الأسابيع المنصرمة خمسة تقارير في مجلات ووكالات أجنبية مثل «إيكونوميست» و«فاينانشيال تايمز» و«بلومبرغ» و«رويترز»، عزّزت مخاوف سائدة بين اللبنانيين بشأن حدوث أزمة مالية بعد تخلّي عدد من المستثمرين الأجانب عن سندات اليوروبوندز، ما يثير مخاوف من دخول لبنان دوامة التخلّف عن سداد الديون.
من جهته طمأن رئيس جمعية المصارف الدكتور مكرم صادر في النشرة الشهرية لجمعية المصارف أنّه «ليس في الأفق المنظور أي محظور قد يطرأ». ذلك أنّ موجودات مصرف لبنان بلغت في 15 أيلول الماضي 43،33 مليار دولار مقابل 43,0 مليارًا عند منتصف أيلول 2017. ومخزون الذهب لدى المركزي ما زال على حاله، أي 9،22 مليون أونصة بغضّ النظر عن تقلّبات أسعاره في الأسواق العالمية. وللفترة ذاتها، فإنّ محفظة السندات السيادية اللبنانية وغير اللبنانية لدى مصرف لبنان ظلّت متقاربة في حجمها، إذ بلغت 29،5 مليار دولار في أيلول 2018 يقابلها 28،7 مليارًا في أيلول 2017. ويتبيّن من خلال هذه الأرقام «أن بنية ميزانية البنك المركزي لم تسجّل أي تغيّر يذكر خلال سنة كاملة، من أيلول 2017 إلى أيلول 2018. ما يعني أنّ مرتكزات سعر صرف الليرة ووسائل البنك المركزي للاستمرار في سياسة الاستقرار النقدي ما زالت قائمة. فلماذا ينادي البعض بالويل والثبور وعظائم الأمور»؟

 

لبنان ما زال قادرًا على الصمود
يرى وزير المالية السابق والأستاذ الجامعي الدكتور جورج قرم في حديث لمجلة «الجيش» عن الواقع المالي والنقدي والاقتصادي في لبنان، أنّ اعتماد الاقتصاد اللبناني بشكل أساسي على قطاع المصارف والعقارات هو المسبّب لانكشافه. فثمّة طفرة بالإعمار وفائض من الشقق الفخمة التي ليست بمتناول معظم اللبنانيين، الأمر الذي أدّى إلى انكماش في السوق العقاري. كما أنّ إقبال المغتربين على شراء هذه الشقق قد انحسر، ما زاد الأمر سوءًا، على الرغم من الجهود التي بذلتها المؤســسة العامة للإسكان، وكذلك رغم تخصيص المجلس النيابي هذه المؤسسة بنحو 80 مليون دولار.
ويضيف قرم: ليست المرة الأولى التي يعاني خلالها لبنان أزمة عقارية وفائضًا في حجم الشقق. في العام 1998، كان هناك نحو 150 ألف شقة سكنية غير مُباعة، عندها تراجع معدّل النموّ بشكل كبير، ويمكننا مشاهدة الظاهرة نفسها في تركيا اليوم. فالفورات العقارية تؤدي حتمًا إلى أزمات اقتصادية انكماشية عندما تكون حاجة السوق مشبعة، لا سيّما أنّ البناء يحرّك قطاعات مختلفة في الاقتصاد. وبالتالي، علينا الانتظار عدّة سنوات ليتمّ بيع هذه الشقق الفخمة تدريجًا، وهذه دورة عقارية طبيعية.
في ما يتعلّق بواقع السوق المالي والنقدي في لبنان، يرى الدكتور قرم أن جزءًا من المشكلة النقدية والاقتصادية في لبنان اليوم يعود إلى القوى السياسية والطائفية في البلاد، فالتشنّجات السياسية لا تسهم بطبيعة الحال في الاستقرار النقدي، والشلل في الأداء السياسي يؤثّر سلبًا على الأوضاع الاقتصادية والنقدية في لبنان. ويلفت قرم إلى تأثير السياسة الخارجية في هذا المجال خصوصًا في ظلّ اشتداد الصراع في المنطقة والمخطّطات المطروحة، ووجود الأعداد الهائلة من النازحين السوريين في لبنان والضغوطات التي تمارس عليه.
وهو يضيف، لقد تمكّنا حتى الآن من إدارة الضغوطات الخارجية واستيعابها، والمطلوب اليوم من المسؤولين الكبار في لبنان التعاضد من أجل درء الأخطار. فممّا لا شكّ فيه أن هذه الأخطار تثير قلق اللبنانيين على مصير عملتهم. وهنا نتكلم خصوصًا عن الفئات المحدودة الدخل التي تتقاضى رواتبها بالليرة اللبنانية وتتعامل بها.
ويوضح الوزير قرم أنّ لبنان ما زال قادرًا على الصمود اقتصاديًا وماليًا ونقديًا، فوكالات الائتمان الدولية لم تقم حتى الآن بإجراء أي تغيير في علامة لبنان الائتمانية، معربًا عن اعتقاده أنّ لبنان يحتاج إلى إعادة ترتيب سير عمل الدولة ومعالجة الدين العام العملاق. وإذ يلفت إلى ضرورة التفكير بالسياسات النقدية السابقة، والقضاء على ازدواجية العملة في لبنان، وعدم إجراء هندسات مالية تزيد من ربحية القطاع المصرفي من دون أن تزيد إنتاجية الاقتصاد، يذكّر بأنّ سياسة رفع الفائدة على الليرة اللبنانية التي اعتمدت في التسعينيات (وصلت الفائدة على سندات الخزينة إلى نحو 40 في المئة في العام 1995) جعلت البعض يجنون أموالًا طائلة، لكنّها كانت ظاهرة مدمّرة للاقتصاد اللبناني.

 

أولويات
ماذا الذي يمكن أن يحققه مؤتمر سيدر في عملية إنقاذ الاقتصاد اللبناني؟
يجيب الدكتور قرم عن هذا السؤال قائلًا: لا يمكن لمؤتمر سيدر معالجة الثغرات التي يعانيها الاقتصاد اللبناني، بل قد يفاقمها من خلال زيادة المديونية.
ويضيف: على الدولة اللبنانية الاهتمام بأداء القطاع العام وتحسين نوعية الخدمات التي يقدّمها، ومعالجة قضايا رئيسة كالاستثمار في الطاقة البديلة، وبناء مصانع جديدة لإنتاج الكهرباء حتى لو كان القطاع الخاص قد قام بهذه المهمة، ومكافحة الفساد بشكلٍ إجمالي، والعمل على حلّ مشكلة النفايات وتأمين بيئة نظيفة، فاقتصادنا يعوّل على السياحة بشكلٍ أساسي. وبالتالي، لا بدّ من القيام بجهود جبارة في موضوع البيئة، فتشويه جبال لبنان نتيجة ازدياد عدد الكسارات، والتلوّث المسؤول عن زيادة الأمراض وبشكلٍ خاص الأمراض السرطانية، مع ما ينتج عنها من ارتفاع في كلفة الفاتورة الطبية والاستشفائية، وسواها من مشاكل البيئة، يجب أن تعالج بجديّةٍ وسرعة. يضاف إلى ذلك، أنّ كلفة المعيشة في لبنان غير معقولة، وقد تبدو أكثر ارتفاعًا من كلفة الحياة في أوروبا.
أخيرًا، يؤكد الدكتور قرم أنّه على الجميع تكثيف الجهود لمعالجة المشاكل الاقتصادية والمالية والنقدية في لبنان تفاديًا للأسوأ.