شؤون دولية

باكستان بين مهادنة الهند والتفرّغ لدرء أخطار الداخل!
إعداد: د. هيام كيروز

يواجه الحكم في باكستان حزمة من التحدّيات الأمنية، بالنسبة إلى الجيش ووكالات الاستخبارات ووزارة الداخلية،  أبرزها الهجمات الإرهابية التي أغرقت البلاد في دوّامة عنف خلال الأشهر العشرة الأخيرة من العام 2024. ووفق تقرير عرضته وزارة الداخلية أمام البرلمان، شهدت هذه الفترة وقوع 1566 عملية إرهابية، فيما أسفرت الحملات الأمنية المركّزة والدقيقة عن مقتل نحو 1340 إرهابيًّا. وسجّل إقليم خيبر Pakhtunkhwa المتاخم لأفغانستان (شمال شرق باكستان) أكبر عدد من المشكلات الأمنية، تبعه إقليم بلوشستان الذي يعجّ بالحركات الانفصالية الناشطة في تجارة الممنوعات.

 

اللافت في هذا السياق أنّ تصاعد الهجمات المسلّحة تزايد بشكلٍ ملحوظ منذ سيطرة حركة «طالبان» الأفغانية على الحكم في كابول في 21 آب 2021، إذ أصرّ قادتها على دعم حركة «طالبان» الباكستانية وإسنادها في معاقلها الأساسية. ورغم أنّ الجيش الباكستاني تمكّن من احتواء خطرها، فإنّه لم يستأصلها، نظرًا لانتشارها العنقودي في أرجاء الخريطة الوطنية كاملة.

 

درعٌ أمني في مواجهة التحدّيات

يقع المقر الرئيسي لجهاز الاستخبارات الباكستانية ISI-Inter Services Itelligence، في العاصمة إسلام آباد، تمّ تأسيس هذا الجهاز في العام 1948، أي بعد عامٍ واحد من استقلال البلاد عن التاج البريطاني. ووفق العديد من المراجع العالمية، تتبوّأ ISI موقعًا متقدّمًا بين الأجهزة العالمية لفاعلية أدائها في بلد تعداد سكانه نحو 242 مليون نسمة، ويتشكّل من فسيفساء إثنية وعرقية وقبلية. فهي تدير البرنامج النووي، وتؤمّن حمايته وسلامته بشكلٍ دقيق وصارم، لا سيما في مواجهة «إسرائيل» التي حاولت تخريبه مرارًا أو اغتيال علمائه وتقنيّيه، من دون أن تُفلح في ذلك. إلى ذلك، تشتبك الـ ISI يوميًا تقريبًا مع الجهاديين التكفيريين في منطقة القبائل، ووادي Swat ومنطقة بيشاور، حيث التغلغل الأصولي الذي زرع الفوضى والتهريب وتجارة المخدرات، كما شرّع أبواب المنطقة الممتدة على طول الحدود الأفغانية للخارجين عن القانون. ويستخدم الجيش الباكستاني والـ ISI، القبضة الحديدية في متاهة منطقة القبائل التي ازدادت عنفًا منذ عودة طالبان - أفغانستان إلى الحكم في كابول، في 21 آب 2021.

 

أولويات القيادة العسكرية

لا شك في أنّ حارس الأمن القومي وناظم الإيقاع السياسي في باكستان هو الجيش، اللاعب الأكبر والأكثر فعالية في البلاد. ومنذ 24 تشرين الثاني 2022، بات له قائد جديد هو الجنرال عاصم منير، وقد خَلفَ الجنرال قمر باجوا الذي شغل المنصب لولايتين كاملتين. وازن باجو في العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية والصين، وشارك في جلاء الجنود الأميركيين من أفغانستان، في آب 2021، ما ضاعف علاقات الثقة بين روالبندي والبنتاغون. كذلك، حاذر التصعيد مع الهند، العدو التقليدي لباكستان بسبب المعضلة الكشميرية. يسير الجنرال منير على خطى سلفه، وقد أقسم على اجتثاث الجهاديين التكفيريين، وعلى مهادنة نيودلهي وتحفيز الاقتصاد، لكنّ العقدة التي تعترض مساره تتمثّل في التباعد مع حكّام كابول الطالبانيين، والمفارقة أنّ إسلام آباد كانت داعمة لحركة الملّا عمر الطالبانية الأفغانية، إبان الوجود الأميركي في أفغانستان وإقامة نظام موالٍ له في كابول. لكنّ اجتياح كابول وإقامة حكم الإمارة الإسلامية دفعا بالتناقضات التاريخية إلى الظهور بين البلدين الجارين، فنقل الطالبانيون البندقية من كتف إلى أخرى.

 

خطر الحركات الجهادية

اللافت أنّه منذ تسلّم الجنرال عاصم منير قيادة الجيش، ازدادت العمليات الإرهابية في باكستان، مهدّدةً الأمن الوطني والقومي. وتصدّرت حركة طالبان الباكستانية (TTP) بقيادة نور والي محسود هذا المشهد، وانضمت إليها قاعدة خراسان الإسلامية (EI-K) ومتمرّدو جيش تحرير بلوشستان (ALB)، الإقليم المعروف باضطراباته الأمنية ونزعاته الانفصالية. وقد شهد في الفترة الأخيرة هجمات على مشاريع لوجستية وتنموية صينية، في إطار الكوريدور الاقتصادي الصيني - الباكستاني (CPEC)، وهو أحد مكوّنات مشروع «الحزام والطريق» الهادف إلى ربط الصين بالعالم عبر استثمار مليارات الدولارات في البنى التحتية على طول طريق الحرير الذي يربطها بالقارة العجوز. وفي أكثر من هجوم دموي قُتل مهندسون صينيون كانوا يعملون في ضواحي مدينة كويتا، عاصمة الإقليم الفقير، ما أثار غضب بكين التي هدّدت سلطات إسلام آباد بوقف مدّها بالقروض، علمًا أنّ الصين والمملكة العربية السعودية هما من أوثق حلفاء باكستان الاستراتيجيين ومصدر دعم مالي وسياسي واقتصادي. ولولا هذا الدعم السخي، لما تمكّنت الصناعات العسكرية الباكستانية من تسيير عجلة الإنتاج بالقدر الذي تراهن عليه القيادات العليا.

 

حليف الأمس عدو اليوم

السؤال المحموم الذي يطرحه أكثر من مراقب، يتعلّق بانقلاب حركة طالبان الأفغانية على «العرّاب» الباكستاني بعد استعادتها السلطة في كابول، في 15 آب 2021، وبالأسباب الجيو - سياسية التي أدت إلى القطيعة بين حليفَي الأمس القريب والبعيد...

منذ سيطرة الحركة الإسلامية الأصولية للمرة الأولى على العاصمة كابول في 27 أيلول 1996، وإعلانها قيام «الإمارة الإسلامية» في أفغانستان، وإلى أن أطاح الأميركيون بها في أعقاب هجمات 11 أيلول، كان الطالبانيون الأفغان تحت الجناح الباكستاني. وقد اضطرت إسلام آباد إلى تأدية دورٍ مزدوج مع الوكالات الاستخبارية الأميركية، ولم تفلح الضغوط التي مارستها واشنطن لدفع الجيش والاستخبارات الباكستانية للتخلّي عن طالبان، بل كانت الأراضي الباكستانية ملاذًا وملجأً لقادة الحركة، حتى أنّ زعيمها الملّا عمر أقام في كويتا تحت حماية جهاز الاستخبارات الباكستاني (ISI) حتى وفاته في العام 2013. وعلى الرغم من التكلفة الباهظة التي تكبّدتها إسلام آباد من جراء الانخراط إلى جانب كابول، فقد تمسّكت بهذا الدور، لمعرفتها أنّ المغارة الأفغانية بكل تقاطعاتها السوريالية، هي العمق الاستراتيجي لباكستان في مواجهتها الدائمة للهند. وكان الرئيس الأسبق لباكستان، الجنرال برويز مشرّف، أول من اعتبر أفغانستان عمقًا استراتيجيًا لبلاده، أو حديقة خلفية لها. وقد انعكست هذه المعادلة، عمليًا وواقعيًا، يوم وصلت المواجهة بين إسلام آباد ونيودلهي إلى الحافة النووية، في كارغيل، في العام 1999، فخطّطت القيادة العسكرية الباكستانية يومئذٍ، لإرسال أسراب من مقاتلاتها إلى المطارات الأفغانية لتجنب الغارات الجوية الهندية الأولى. واستمر شهر العسل حتى العام 2021، يوم تحوّل إلى طلاق مُبين بالعشرة.

 

كابول تتنكّر لاحتضان إسلام آباد

كشفت نشرة Intelligence Online الاستخبارية الفرنسية، أنّه في 22 شباط 2023، وصل وزير الدفاع الباكستاني خواجه محمد آصف ومدير وكالة ISI (وكان يومها الجنرال نديم أنجم)، إلى كابول، حيث استقبلهما نائب رئيس الوزراء الملّا عبد الغني برادار. وطلب المسؤولان الباكستانيان إقفال الحدود التي يلامس طولها 2440 كلم، لأنّها تعجّ بالمعابر غير الشرعية التي يسلكها قطّاع الطرق وبارونات المخدّرات والمهرّبون وخوارج السلاح. كما أصرّا على اعتقال قادة طالبان - باكستان الذين أقاموا لهم قواعد خلفية في الأراضي الأفغانية، وطالبا بتعزيز التعاون الأمني والاستخباري بين الجانبين. وكانت الصدمة كبيرة، عندما تبلّغا أنّ القرار ليس في يد «حمائم كابول»، بل بيد «صقور قندهار» الذين يرفضون قطع العلاقة مع طالبان - باكستان، خصوصًا أنّ الحركتين تنتميان إلى إثنية البشتون، وهم الغالبية في المنطقة الحدودية الأفغانية – الباكستانية، فضلًا عن التماهي الإيديولوجي بينهما.

منذ تلك الزيارة الصادمة، تفاقمت الهجمات الإرهابية ضد وحدات الجيش والشرطة وحرس الحدود، مضرّجة بالدم إقليم بلوشستان الانفصالي ومنطقة خيبر – باختونخوا المتمرّدة، وقد عِيلَ صبر قائد الجيش الجنرال عاصم منير، فطالب كابول بحسم موقفها، مخيّرًا إياها بين التعاون مع إسلام آباد أو التحالف مع حركة طالبان – باكستان، وقرّر اجتثاثها بالقوة الصارمة للحيلولة دون «طلبنة» مناطق واسعة من بلاده. وانصب التركيز الأمني على «منطقة القبائل» وهي البؤرة الأكثر اشتعالًا على الحدود الباكستانية.

مع تطور الأحداث، ارتفعت وتيرة العمليات المسلحة في الأراضي الباكستانية، وكانت ذروتها الهجوم الدموي الذي استهدف مسجدًا في قلب مجمّع للشرطة في مدينة بيشاور القريبة من الحدود مع أفغانستان (كانون الثاني 2023)، وأسفر عن سقوط 101 من ضباط وعناصر الثكنة. شكّل هذا الهجوم نقطة تحوّل حاسمة في العلاقة بين إسلام آباد وكابول. ووسط تبادل الاتهامات والتلويح بالقطيعة والتصعيد الأمني، وصل وفد من علماء الدين الباكستانيّين إلى قندهار برئاسة الشخصية المرجعية الشيخ محمد تقي العثماني الذي يُطلق عليه في إسلام آباد لقب «شيخ الإسلام»، والتقى زعيم حركة طالبان الملّا هيبت الله اخوند زاده، طالبًا منه التدخّل لـ «كبح جماح المسلمين في باكستان» من خلال فتوى دينية تلزمهم بالهدنة. غير أنّ نزيل قندهار خذل الزائرين وأبلغهم بوضوح أنّ «طالبان أفغانستان لن تقف إلى جانب الدولة الباكستانية». ثمة من رأى في هذا الموقف عملًا انتقاميًا من قبل إسلاميّي كابول، الذين لم ينسوا كيف أنّ إسلام آباد وقفت ضدّهم بعد انضمامها إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب في أعقاب اعتداءات 11 أيلول 2001. كما أنّ الحكومة الباكستانية اعتقلت، في عهد الجنرال برويز مشرّف، العشرات من قيادات طالبان وسلّمتهم إلى الولايات المتحدة، ومن بينهم سفير طالبان في إسلام آباد، الملّا عبد السلام ضعيف، الذي ما زال يصف باكستان بـ «أشدّ أعداء أفغانستان». كذلك، قضى بعض عناصر طالبان في السجون الباكستانية، على غرار الملّا عبيد الله، القيادي المقرّب من مؤسّس الحركة الملّا عمر، والشيخ ياسر القيادي البارز في التنظيم، إضافةً إلى آخرين أدّوا أدوارًا محورية في مسيرة الشورى الطالبانية.

 

عمران خان والكريكيت السياسي

تدحرج الخلاف بين حليفَي الأمس، مثل كرة الثلج، وأدلى القيادي الطالباني مولوي محمد جنيد، بِدَلْوه في الصراع، كاشفًا أنّ نحو 1300 عنصر من الحركة، من مختلف المستويات القيادية، ما زالوا في عداد المفقودين، بعد أن اعتقلتهم أجهزة الاستخبارات الباكستانية. وأشار إلى أنّ منازل هؤلاء في باكستان خضعت للتفتيش، كما تم نقل أجزاء من وثائق سرّية كانت في الخزائن، يُرجَّح أنّ الأميركيين اطّلعوا عليها، ما فاقم حالة العداء المتبادل بين الجانبين، التي بدأت بصمت قبل أن تتحول إلى قطيعة معلنة.

كان لهذا الشدّ والجذب، تردّدات سياسية دراماتيكية في قلب الحكم في إسلام آباد، إذ تضامن رئيس الوزراء السابق عمران خان، (لاعب الكريكيت الدولي) مع طالبان الباكستانية، وضمنًا مع حليفتها طالبان الأفغانية.

إمعانًا في التخريب، أنزل خان أنصاره إلى الشوارع في المدن الكبرى، مثل إسلام آباد، روالبندي، لاهور، وكراتشي، وهي العاصمة الاقتصادية، المعروفة باكتظاظها، وحصلت إرباكات وصدامات مع الشرطة، ما اضطر الجيش لاعتقاله مع عدد من أنصاره خوفًا من اتّساع التيار المناصر للطالبانيين وتهديد الأمن القومي واستقرار البلاد، وزعزعة التحالف الصلب مع الصين والتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية.

 

ولادة قيصرية من رحم الهند

لم يكن موقف عمران خان من طالبان مفاجئًا للمتابعين. فقد سبق له، يوم سقوط كابول في يد حركة طالبان وتحوّل أفغانستان إلى «إدارة إسلامية»، أن أدلى بتصريحٍ أثار الحيرة والبلبلة في إسلام آباد، حين قال إنّ «الحركة قطعت أواصر العبودية، وأثبتت للعالم أنّها حرّة أبيّة...». وتأكد بعد ذلك أنّه على علاقة ودّ مع عديدٍ من قيادات طالبان الباكستانية، وفي طليعتها زعيمها نور والي مسعود. ومع تصاعد التوتر، خرج وزير الدفاع الباكستاني، خواجه آصف، عن صمته، ليعلن أمام البرلمان، في 31 كانون الثاني 2023، أنّ «طالبان - أفغانستان تساعد طالبان - باكستان في هجماتها داخل بلادنا. ولا بدّ من الاقتصاص منها وحشرها في الزاوية». أجّج هذا الموقف غضب زعيم تيار قندهار في الحركة الطالبانية الأفغانية الملّا هيبت الله اخوند زاده، فوصف دستور باكستان بأنّه غير إسلامي، وأنّ كل القوانين في المحاكم الباكستانية غير شرعية وغير إسلامية. ولا شك في أنّ العزف على هذا الوتر أمر خطير، لا تقبل المؤسسة الدينية والعسكرية في إسلام آباد بالتشكيك فيه خصوصًا وأنّ باكستان قامت تاريخيًا كدولة منفصلة عن الهند، لتكون كيانًا يجسد الهوية الإسلامية للمسلمين في شبه القارة الهندية، كما أوضح ذلك كتاب «ازدهار الإسلام في شبه القارة الهندية».

أمام تصاعد الخطاب المتطرّف، وتكاثر عدد الحركات والتيارات السلفية والجهادية والتكفيرية، وجدت المؤسسة العسكرية نفسها أمام ضرورة إعادة ترتيب البيت الداخلي، في اتجاه الحد من التعصّب المفرط، حتى ولو كان في نيودلهي حكم هندوسي متشدّد. وقد جاء موقف الشيخ الفقيه محمد تقي العثماني، القاضي في محكمة الشريعة الفيدرالية، ليؤكد هذا التوجّه، إذ وصف مقاتلي طالبان - باكستان بالخارجين عن القانون.

 

حماية المواقع النووية

تواجه المؤسسة العسكرية الباكستانية تحديات أمنية بالغة التعقيد، أبرزها خطر تسلّل إرهابيين تكفيريين، من  حركة طالبان الباكستانية، أو تنظيم داعش خراسان أو أي مجموعات أصولية أخرى، عبر ثقوب شبكة الحماية، إلى أحد المواقع النووية، سواء كانت مفاعلات ذرّية أو مصانع إنتاج الماء الثقيل أو قواعد الصواريخ الباليستية. حتى الآن، نجح الجيش الباكستاني في حماية البرنامج النووي من أعداء الداخل والخارج، وفي طليعتهم «إسرائيل» والهند.

منذ إجراء التجارب النووية في العام 1998، أدركت إسلام آباد ضرورة تعزيز الرقابة الأمنية، خصوصًا بعد أربعة تطورات محورية بين العامين 1998 و2003 وهي التجارب النووية الباكستانية (1998)، انقلاب الجيش واستيلاؤه على الحكم (1999)، الضغوط الأميركية لحماية الترسانة النووية بعد أحداث 11 أيلول 2001، وانكشاف نشاط شبكة خان التي سوّقت سرًّا صادرات نووية إلى دول مثل ليبيا وإيران. قادت هذه الأحداث إسلام آباد إلى إعادة تنظيم المجمّع النووي الباكستاني ومراقبته وحمايته، من خلال تشكيل قوة ردع عالية التدريب تستند إلى دفق استخباري تؤمنه ثلاثة أجهزة: ISI، Intelligence Bureau IB و Directorate of Military Intelligence DMI وهو جهاز القوات البرية. وبهذه الطريقة أبصرت النور سلطة القيادة الوطنية التي تُمسك بالمفاتيح النووية وتُشرف على سلامة البرنامج المشعّ، وذراعها العملانية «فرقة الخطط الاستراتيجية»، وهي وحدة عسكرية متخصصة قوامها عدة آلاف من العناصر المدرّبة، مسؤولة عن مراقبة المواقع النووية، وحماية المهندسين والتقنيين العاملين في البرنامج.

 

ستاتيكو في كشمير

العبء الثاني الذي يثقل كاهل المؤسسة العسكرية الباكستانية، هو إرث الصراع العسكري مع الهند حول كشمير الجبلية والذي كان السبب المباشر لحروب 1947 – 1948، و1965، وللنزاع المحدود في إقليم كارغيل العام 1999. ولطالما ردّد الرئيس الراحل برويز مشرف أنّ كشمير تجري في دم كل باكستاني، لكنّه كان في العام 2005 وراء الانعطافة التاريخية حول هذه المنطقة المتنازع عليها. إذ خرج عن الخط التقليدي الرسمي حول تطبيق جميع قرارات الأمم المتحدة الداعية إلى إجراء استفتاء لتقرير مصيرها وضمّها إلى أحد طرفي النزاع، وطالب بحوارٍ مباشر مع الهند يُفضي إلى نزع السلاح وإطلاق إدارة مشتركة من هنود وكشميريين وباكستانيين. وانطلقت هذه المبادرة من اعتقاد مشرف بأنّ استقلال الولاية غير مقبول لدى الطرفين المتصارعين. ولهذا السبب، همّشت الاستخبارات العسكرية الباكستانية ISI جبهة جامو – كشمير المطالبة بالاستقلال، مدركة تردّد المجتمع الدولي وتحفّظاته في دعم باكستان ضد الهند. وفي المقابل، تبنّت الهند موقفًا متصلّبًا، إذ أصدر برلمان نيودلهي في العام 1994 قرارًا يطالب بانسحاب باكستان من الجزء الذي تسيطر عليه منذ العام 1947، مؤكدًا أنّ كشمير «هندية بالكامل». غير أنّ الضغط الأميركي على نيودلهي خفّف كثيرًا من تصلّب الموقف الهندي. وفي شباط 2004، أعلنت إسلام آباد وقفًا لإطلاق النار على طول الجبهة، وقلّصت التوغلات الجهادية وراء الخطوط الهندية، وأطلقت «حوار الشجعان» مع حكومة نيودلهي. توّج هذا المسار الرئيس آصف علي زرداري (زوج بنازير بوتو) عندما أعلن في 5 تشرين الأول 2008 أنّ الهند لم تشكل يومًا تهديدًا لباكستان، لكن اليد الممدودة لم تلقَ النتيجة المرجوّة، وبقيت الهند مصرّة على إضعاف باكستان.

 

عقيدة عسكرية جديدة

لم تبقَ التطورات السياسية والعسكرية في باكستان جامدة، بل فرضت المستجدات الإقليمية والدولية إعادة النظر في الأولويات. فالتحديات الداخلية في الهند، مثل قضايا البيئة، والتنمية، وتداعيات الانفجار الديمغرافي، دفعت حكومة الهندوسي المتصلّب، نارندرا مودي إلى الحفاظ على الستاتيكو القائم في كشمير، وتهميش قضيّتها إزاء مشكلات أكثر إلحاحًا. وأتى الانسحاب الأميركي من كابول وعودة طالبان إلى الحكم ليعيدا رسم التحالفات، فانقلب الإسلاميون على العرّاب الباكستاني وخطبوا ودّ التنظيمات البشتونية المناهضة لإسلام آباد، على غرار طالبان - باكستان التي تمارس العنف والإرهاب ضد الجيش والشرطة والمشاريع الصينية الحيوية في البلاد.

نتيجةً لهذا التحوّل، خرجت كشمير من قائمة أولويات إسلام آباد، وبات التهديد الحقيقي لأمن الدولة واقتصادها واستقرارها داخليًا، وليس كشميريًا. وقد تبلورت هذه المقاربة على يد الجنرال قمر جاويد باجوا، وهو أول من صاغ العقيدة الجديدة للعسكر الباكستاني التي تركز على أخطار الداخل، وتعكس إدراكًا متزايدًا لأهمية التوازن بين واشنطن وبكين، وهو ما ظهر من خلال دور باكستان في إجلاء الأميركيين من كابول في 30 آب 2021.

يميّز هذه العقيدة عن سابقاتها، بُعدها الاقتصادي – التنموي، إذ أصبح الجيش لاعبًا رئيسيًا في رسم السياسات الاقتصادية. فالجنرال عاصم منير، على خطى الجنرال باجوا، لا يتردد في التواصل مع الصناديق الدولية للحصول على قروض، كما يعقد اجتماعات منتظمة مع رجال الأعمال، مقدمًا لهم حوافز، في حين يشجّع الصناعيين على تسديد الضرائب، في محاولة لدمج الاستراتيجية الأمنية مع التنمية الاقتصادية.

 

مدّ وجزر

شهدت العلاقات بين الاستخبارات الباكستانية ISI ونظيرتها الأميركية CIA حالات من المدّ والجزر، خصوصًا بعد هجمات 11 أيلول 2001، فقد اتّهمت واشنطن الباكستانيين بلعب دور مزدوج بينها وبين «قاعدة» بن لادن وجهاديين آخرين. بيد أنّ التعاون بين الوكالتين لم ينقطع أبدًا، على الرغم من مراحل اللاثقة والارتياب المتبادل، واستقر على معادلات ثابتة بعد الخروج الأميركي من المستنقع الأفغاني في 15 آب 2021. وبعد أقل من شهر، زار إسلام آباد مدير وكالة الـ CIA، وليام بيرنز، حيث التقى رئيس ISI آنذاك، الجنرال فايز حميد الذي كان عائدًا لتوّه من كابول في بداية القطيعة مع «الوكالة الإسلامية». وتردّد في دوائر الخبراء ورجال المخابرات في إسلام آباد وروالبندي، أنّ هذا اللقاء أعاد إحياء التعاون الاستخباري بين واشنطن وإسلام آباد.

جاء الدليل على هذا التفاعل في 31 تموز 2022، عندما استهدفت طائرة مسيّرة أميركية زعيم القاعدة أيمن الظواهري، في أثناء وجوده على شرفة منزله في حي شيربور الراقي في كابول، حيث يقيم مسؤولون بارزون في طالبان. ترددت حينها أنباء عن أنّ المسيّرة أقلعت من إحدى القواعد الأميركية السرية في باكستان أو على الأقل عبرت المجال الجوي الباكستاني بموافقة إسلام آباد.

ويُعيد هذا الاغتيال مشهدية القضاء على بن لادن، في 2 أيار 2011، في مدينة أبوت أباد، الواقعة شمال شرق باكستان. إذ لم يكن ذلك ممكنًا لولا التعاون الاستخباري واللوجستي الباكستاني مع القوات الخاصة الأميركية التي وجدت طريقًا سالكًا وآمنًا إلى بيت زعيم «القاعدة» الحصين. ووفق مصادر باكستانية في روالبندي، فإنّ الفضل في تثبيت التعاون العسكري والاستخباري بين واشنطن وإسلام آباد يعود إلى الجنرال قمر جاويد باجوا، القائد السابق للجيش الباكستاني، الذي تعهّد بمنع عودة أفغانستان كملاذٍ لحركات الإرهاب المحلية العابرة للحدود وكافأه الأميركيون بتجديد أسراب أف – 16 ومنح جيشه تكنولوجيا عسكرية متطورة.

أسهمت في صوغ الحالة الجديدة ثلاثة مكوّنات متكاملة، أولها عزل رئيس الوزراء السابق عمران خان، الذي كان يناهض التعاون مع واشنطن، وثانيها، تفاقم الهوّة بين إسلام آباد والإمارة الإسلامية في أفغانستان، وأخيرًا، اختيار الجيش لـ شهباز شريف كرئيس للوزراء، وهو من دعاة التعاون البعيد المدى مع الأميركيين.