شهادة حياة

بعد ربع قرن من ذلك اليوم المشؤوم
إعداد: باسكال معوض بو مارون

 زوجة المقدم الشهيد ملحم أسعد أنا فخورة ومرتاحة الضمير

سيدة مناضلة استحقت لقب زوجة شهيد، لأنها مثله ضحّت بنفسها من أجل عائلتها ووطنها.
رسالة الشهادة أكملتها السيدة ماري أسعد زوجة المقدم الشهيد ملحم أسعد التي حدثتنا عن تجربتها بعد استشهاد زوجها، موجّهة رسالة الى نساء أخريات استشهد أزواجهن.

 

الرب موجود دائماً
بدأت السيدة أسعد حكايتها بالقول: «في السادس من أيلول من العام 1983، استشهد زوجي المقدم ملحم أسعد في حرب الجبل وكانت الفاجعة كبيرة. كنا نسكن في بيروت، وفي صباح ذلك اليوم المشؤوم، وقفت أودعه ككل صباح مع أولادي، أوصانا قائلاً: «إنتبهوا. إذا صار قصف إنزلوا على الملجأ». لكن القدر اصطاده هو، ورحنا ننتظر عبثاً «خشّة مفاتيحو بالباب».
كانت المصيبة كبيرة خصوصاً وأني فقدت والد زوجي وشقيقه في فترة لا تتعدّى الثلاثة أشهر. وشعرت يومها بأنها نهاية العالم حيث لا أمل ولا رجاء... ففي غمضة عين أصبحت المسؤولة الوحيدة عن 5 أولاد تراوح أعمارهم بين 18 و8 سنوات، بعد أن كنت أعيش مدلّلة من قِبل الجميع.
لكن الرب موجود دائماً لمساعدتنا، صلّيت كثيراً وطلبت أن يبقيني واقفة على رجليّ لأكمّل رسالة زوجي التي بدأّها عندما قرر تأسيس عائلة في هذا الوطن.

 

كما أرادنا أن نكون وتضيف قائلة:
بعد امتصاصي للصدمة ركّزت اهتمامي على مصلحة أولادي وجعل حياتهم اليومية طبيعية على قدر الإمكان، جمعتهم وأخبرتهم: إنني وإياكم خسرنا خسارة لا تعوّض، إنما التحسّر لا ينفع في شيء، بل الأفضل أن نسير قدماً ونكون عائلة متّحدة نحب بعضنا البعض، و«أنا قدامكن» مستعدة لفعل أي شيء تطلبونه، وللتضحية بكل شيء من أجلكم. فالمهم أن نتّحد أمام هذا الحدث ونساعد بعضنا البعض لنكمل مسيرة والدكم، ونكون كما أرادنا أن نكون».
كان تجاوب الأولاد كبيراً، حيث توزّعت المهام المنزلية والخارجية بينهم، وكان لكل منهم مهمة تناسب شخصيته وميوله، وكان اهتمام الجميع منصباً على صغير العائلة لتعويضه حنان والده الذي كان متعلقاً به جداً، أحطناه بالرعاية والحب.
 

• ما الذي واجهته خلال تلك الفترة خصوصاً وأنك كنت في مرحلة حزن؟
- لقد أمّنت لأولادي جواً مريحاً، وكنت أستقبلهم ببسمة وأعاملهم بحنان وحب كبيرين، لكني كنت أخفي عنهم دموعي التي كنت أذرفها لوحدي على وسادتي.
في أحيان كثيرة مررت بظروف قاهرة، عائلية أو إقتصادية وأخرى عامة ومتعلقة بمصير الوطن، من الحروب الى التهجير والخوف الذي عشناه معاً متكاتفين متضامنين يجمعنا والد استشهد لأجل وطنه، وقدّم حياته دفاعاً عن بقائه.

 

تابعن الرسالة والنضال
• منذ فترة وجيزة فجعت 168 عائلة بموت أحد أفرادها (أب، أخ، إبن)، ماذا تقول ماري الأسعد كزوجة شهيد لمثيلاتها اليوم؟
- أقول لهن: أنتن اليوم رازحات تحت مصيبة قد تظنن أنها النهاية، لكن تحلّين بالأمل لأن هذه أمنية أزواجكن الشهداء، وهذا ما أرادوكن أن تقمن به. إهتممن بأولادكن وأكمِلن الرسالة العائلية التي بدأتن بها. لا تيأسن، ولا تتقوقعنّ في الزاوية، فهذا وقت العمل والتحرّك للحفاظ على العائلة موحّدة ومتراصّة ولا ينقصها شيء.
كافحن وناضلن وتقوَين لأن الأم أساس البيت، وعلى أكتافها تنهض العائلة. وعليه ينبغي أن تكون أماً صلبة وقوية على قدر ما تتطلبه الظروف الصعبة التي تهزّ البيت في أحيان كثيرة.
وعن المرحلة الصعبة من تاريخنا أقول إن جراحنا تتبلسم عندما نرى أن وطننا بدأ يتعافى، وحين نعلم أن النضال لا يزال مستمراً ودماء شهدائنا لم تذهب سدى بل كل قطرة منها سقطت ليندمل جرح في خاصرة الوطن الذي يبقى المهم والأهم في حياة كل لبناني أصيل.

 

فخورة
• ما الذي حصدته من هذه التضحية؟
- بعد مرور 24 سنة على رحيل زوجي، اليوم أنا فخورة بأولادي الخمسة الذين كبروا وتعلّموا وتوظّفوا في مناصب هامة. فمن ميشال المهندس الى تريز المهندسة الزراعية الى غادة المتخصصة بالصحة العامة، مروراً بأسعد المتخصص بإدارة الأعمال وصولاً الى آخر العنقود عادل الطبيب المتخرّج والذي يعمل في ولاية نيويورك.
كما أفتخر بأحفادي التسعة الذين أتفاعل معهم دوماً عبر الانترنت والذين أنتظر حضورهم خلال موسم الصيف لأراهم، ولا أشبع منهم أبداً.
كرّست حياتي لعائلتي وقدّمت الغالي والنفيس لإسعادهم، وحصدت عائلة متماسكة متكاتفة على الرغم من أن الظروف الاقتصادية والأمنية أبعدت غالبيتهم عن الوطن، لكننا نبقى عائلة متضامنة منتشرة في أنحاء العالم.

 

لو كان النهار أطول
• اليوم وبعد أن «طار صغارك» كيف تملأين هذا الفراغ الذي أحدثوه برحيلهم؟
- أنا امرأة عملية وديناميكية جداً ولا أستطيع أن أجلس دقيقة واحدة من دون أن أقوم بعمل مفيد، فإضافة الى إتقاني الخياطة وصنع الملابس الصوفية، أتعلّم حالياً فن الفسيفساء لأنه يستهويني منذ مدة طويلة.
بعد أن اعتمد أولادي الأربعة الكبار على أنفسهم ولم يعودوا بحاجة اليّ، بقيت مع إبني الصغير الذي أهداني كتباً لدراسة اللغة الانكليزية. فانكببت على الدراسة وشعرت عند عودتي اليها بفخر كبير. بعدها رحت أهتم بدراسة علم الكومبيوتر، والرسم، ومن بعدها اللغة الاسبانية.
أما هوايتي وشغفي الأكبر فكتابة الشعر، وسيكون لي قريباً كتاب بعنوان «حقيبة السفر» وهو من وحي الحياة الواقعية.
 

• نعلم أنك ناشطة أيضاً في مجال الأعمال الخيرية والاجتماعية؟
- لقد انتسبت الى جمعيتين، الأولى خيرية والثانية اجتماعية تهتم بالمسنين عموماً بالمهملين منهم على وجه الخصوص. أحارب الوحدة بالعمل المتواصل، وأقول دائماً ليت النهار أطول بساعتين بعد كي أقوم بعمل مفيد آخر، لأن شعاري أن أنفع وأعطي وأجاهد على مدار الساعة.
 

• في النهاية بعد هذه المسيرة الطويلة ماذا تقول ماري الأسعد لماري الأسعد؟
- أقول لها: نامي مرتاحة الضمير لأنك عملت كل ما باستطاعتك عمله ولم تتأخري أو تتلكأي بشيء. إمشي مرفوعة الرأس لأنك حافظت على كل القيم وربيت أولادك جيداً، وأوصلتهم الى برّ الأمان.