- En
- Fr
- عربي
نحن وأولادنا
حلّت ذكرى الاستقلال في لبنان هذا العام، ووطننا رازحٌ تحت عبء أزمات خانقة وضعت اللبنانيين أمام تحديات يومية جمّة. وعلى الرغم من الأهمية التاريخية لهذه الذكرى، فإنّ الاحتفال بها يُعدّ تحدّيًا. فمن الصعب تذكير اللبنانيين بالانتصارات التاريخية لأجدادهم فيما هم يكافحون من أجل تأمين لقمة العيش. ومن شبه المستحيل إقناع الشباب بالبقاء في الوطن والعمل على إنمائه فيما هم عاجزون عن تأمين وظيفة تليق بتعب سنوات من الدراسة والجدّ. ومع ذلك، يمكن أن يكون هذا اليوم فرصة لأن نقف كلبنانيين في مواجهة مع الضمير ونطرح الأسئلة الآتية: ما الذي نفعله كأهلٍ ومربّين ومجتمع من أجل تعزيز روح المواطنة لدى شباب اليوم وغرس المبادئ والقيم الوطنية في نفوسهم؟ هل نسعى بما فيه الكفاية لتعزيز انتمائهم الوطني ودفعهم إلى التمسك بهويتهم اللبنانية، حتى إذا قرروا المغادرة بحثًا عن المستقبل الذي يحلمون به، يبقى لدينا بعض الأمل بأنهم سيعودون يومًا ما إلى أرض الوطن؟!
مما لا شك فيه أنّ الأزمات المختلفة التي يشهدها لبنان خلّفت مشاعر سلبية وخوفًا من المستقبل. فتدهور الخدمات الأساسية خصوصًا في مجال الصحة والأدوية أدى إلى زعزعة الأمان الاجتماعي، في حين أنّ الانهيار المالي تسبب بانعدام الثقة في النظام الاقتصادي. أما الوضع السياسي فزاد النفور والتباعد، وقد ساهمت هذه العوامل مشتركة في خلق شعورٍ بالغضب والاستياء بين المواطنين، وشكلت تحديًا للتماسك الاجتماعي والانتماء الوطني. في هذا الإطار، يؤكد خبراء في علم الاجتماع أنّ مشاعر الغضب واليأس والخذلان طبيعية حين يرتبط الوطن بالمعاناة والانهيار. لكنهم يوضحون في الوقت نفسه، أنّ الأزمات غالبًا ما تكون سببًا لاتحاد أبناء المجتمع الواحد حول أهدافٍ موحدة ومصالح مشتركة، ما يؤدي إلى تعزيز الانتماء الوطني في ظل هوية موحدة. ويشدد هؤلاء على أهمية الانتماء الوطني كأداةٍ لتوحيد المواطنين وتعزيز التماسك الاجتماعي بغض النظر عن الاختلافات الطائفية أو الحزبية. كما أنّه الدافع الأساسي للحفاظ على الهوية الثقافية إذ يحفّز أبناء المجتمع الواحد على الاهتمام بالتراث الثقافي والتاريخ الوطني والتقاليد الوطنية وتمريرها إلى الأجيال الصاعدة. إلى ذلك، فالانتماء الوطني يقود إلى بناء المواطن الصالح الذي يسهم بفاعلية في تطوير المجتمع والمحافظة على قيمه ومبادئه.
دور الأهل
من أهم التحديات التي تواجه العائلات اللبنانية في الوقت الحاضر، العمل على بناء المواطن الصالح. فالشرط الأول للمواطنة توفير بيئة مناسبة لنمو الأجيال، يشعر فيها المرء بالأمان والحماية. وعلى الرغم من غياب الشرط المذكور، فإنّ الخبراء ينصحون الأهل باعتماد بعض الخطوات التي تسهم في تنمية روح المواطنة لدى شباب اليوم، من بينها تشجيع انخراطهم في العمل التطوّعي، خصوصًا في الجمعيات الإنسانية والاجتماعية حيث يشعرون بأهمية دورهم كأفراد في دعم المحتاجين من أبناء وطنهم. كما يمكن تحميلهم مسؤوليات بيئية ضمن محيطهم، كمثل مشاركة أبناء الحي الواحد في تنظيف شارعهم، وتشجيعهم على غرس الشتول في جوانب الطرقات بالتنسيق مع البلديات. ويمكن للأهل حين تسمح الظروف، مرافقة أولادهم في رحلات ثقافية تشمل المناطق الأثرية والقرى النموذجية للتعرف إلى تاريخهم العريق. ومن المفيد أن ترافق هذه الرحلات أحاديث حول تاريخ الوطن الذي بذل أجدادنا دماءهم في سبيل استقلاله ووحدته، ما ينمّي شعورهم بالفخر ويعزز ارتباطهم بأرضهم وجذورهم. من المهم أيضًا أن يتحاور الأهل مع جيل الشباب بطريقة إيجابية حول الأزمة التي يمرّ بها لبنان، ويمكنهم إظهار بعض الجوانب الإيجابية لها، ومن ضمنها أنّها أفسحت المجال لاستنباط فرص بديلة قد تعود بالمنفعة العامة على المدى البعيد، مثل الازدهار الذي شهده قطاعا الصناعة والزراعة إثر الأزمة الاقتصادية.
وينصح الخبراء الأهل بأن يكونوا نموذجًا إيجابيًا لجيل الشباب، لأنه سيتبع حكمًا سلوكهم وقيمهم وأخلاقياتهم. فإذا كانوا دائمي السلبية والتذمّر في التعامل مع الأزمات، فمن المرجّح أن يتبع أبناؤهم نفس المسار. والعكس صحيح، فإن أظهروا قدرة على التحمل وإيمانًا بالغد وبمستقبل الوطن، فسوف يمدّون الأجيال الصاعدة بالطاقة الإيجابية اللازمة لتخطي الأزمات والإيمان بالوطن.
دور المدرسة
تؤدي المدرسة دورًا أساسيًا في التنشئة الوطنية، المهمة التي تزداد صعوبةً في يومنا هذا، خصوصًا وأنّ الأهالي، الطرف الشريك في العملية، يرون أنّ بناء المواطنة حاليًا بعيدًا عن واقعهم المعاش في ظل ما يحيط بهم من أزمات وتحديات يومية يستنفد طاقتهم الإيجابية بصورة مستمرة.
حول دور المدرسة والمعلمين في تعزيز الانتماء الوطني والهوية الوطنية، تقول رئيسة قسم مواد الاجتماعيّات في مدرسة برمّانا العالية BHS، ونائبة رئيس الهيئة اللبنانية للتاريخLAH ، السيدة جيهان يوسف فرنسيس: "نحن كمدرسين نعمل من خلال التربية المدنية على ترسيخ المفاهيم الأساسية والقيم الضرورية لبناء المجتمعات، وعلى تأهيل المتعلمين ليكونوا فاعلين في مجتمعاتهم. ونحن ندرك أنّ المسؤولية تقع على عاتق المدارس، والمجتمع، والأهل. فكيف نستطيع أن نهيئ المتعلمين ليكونوا قادة الغد؟ هل يجوز أن نرى أولادنا يعتبرون الرشوة شطارة وليست مخالفة للقانون؟ أو عدم التقيد بإشارات السير بطولة وليس جرمًا يعاقب عليه القانون؟ أو تأمين مستقبلهم خارج البلد لأنّه يعاني، هو أفضل الحلول؟".
وتضيف:" للتربية دور أساسي في بناء المواطن الإنسان، المواطن المسؤول، المبادر، الناشط، المرتبط بوطنه والمساهم في تطور المجتمع، والإنسان المفكر والناقد بما تحمله هذه الصفات من إيجابية. لكن للأسف الجميع مشغول بتأمين لقمة العيش ومتابعة الوضع السياسي والأمني بينما انحسر الاهتمام ببناء الإنسان المواطن. أمام هذا الواقع، ما الذي نستطيع فعله كتربويين؟ هل ننتظر أم نبادر؟"
وتشرح السيدة فرنسيس دور المعلمين من خلال تجربتها في التعليم، فتقول: "منذ أن بدأت مسيرتي التعليمية كمدرّسة لمواد الاجتماعيات منذ أكثر من ثمانية عشر سنة، تواجهني مع بداية كل عام دراسي وبخاصةٍ مع المتعلمين الذين يحضرون صفوفي للمرة الأولى تحديات جمّة، أبرزها عدم ثقتهم بما يدرسون، إذ يرونه بعيدًا كل البعد عن الواقع ولا يمتّ للحقيقة بصلة. فكيف أستطيع كمسؤولة عن مادة التربية جذبهم أو إقناعهم بأمرٍ يلمسون نقيضه يوميًا على الطريق، بين رفاقهم، وفي مجتمعهم. إنّ العملية ليست سهلة، ولكنها ليست بالمستحيلة".
وإذ توضح أنّ الأسلوب الذي يعتمده المدرّس خلال حصص التربية الوطنية له دور كبير في إيصال الرسالة، تشرح قائلةً: "لا أقدّم المادة للمتعلمين فيتلقونها ويعيدون تسميعها في الحصّة القادمة. ما نقوم به معًا في الحصص هو عرض لمسائل واقعية يمكن أن تعترضهم أو تعترض أحدًا من معارفهم أوأقاربهم، ثم الطلب منهم القيام بتحليلها واستنتاج العبر منها، ومن ثم بناء مواقفهم تجاهها. وخلال هذا المسار، يؤلف المتعلمون فرقًا، صغيرة أو كبيرة، وأحيانًا فرادى، فيكتسبون عدة مهارات تؤهّلهم ليكونوا مواطنين يَعون حقوقهم ويقومون بواجباتهم. لأنّه من خلال عمل الفريق، على كلّ فرد داخل المجموعة أن يعي دوره ويتحمّل مسؤوليّته، وأن يصغي إلى باقي أعضاء الفريق، كما عليه أن يحترم الآراء المتعدّدة، وأن يُجادل بطريقة علميّة. وفي كثير من الأحيان، يقوم المتعلمون لدى الانتهاء من موضوع محدّد بتحرّك اجتماعي - مدني، كأن يتوجّهوا برسالة إلى أحد المسؤولين في بلدتهم لإجراء تعديل معيّن موجب للحفاظ على السلامة العامّة. وهذا أفضل ربط بين ما يكتسبه المتعلم في صفه وما يواجهه في حياته اليومية، وما الموقف الذي عليه اتّخاذه كمواطن يعيش في هذا الإطار الجغرافي المحدّد".
وتؤكد السيدة فرنسيس أنّه من خلال هذا الأسلوب التفاعلي في التعليم، يكتسب المتعلمون إلى جانب مضامين المنهج سلّة من المهارات تشمل العمل ضمن فريق، تحمّل المسؤولية، التفكير العميق، تقبّل الآراء المختلفة، إيجاد الحلول، وممارسة الديمقراطية لدى اتخاذ القرارات ضمن المجموعة، حيث يمكنهم في ما بعد، توظيف هذه المهارات كمواطنين فاعلين في وطنهم وكأفراد صالحين في مجتمعهم. وتتابع مؤكدةً: أحيانًا ألمس النتيجة بعد تخرّج تلامذتي وانطلاقهم إلى المجتمع الأوسع، فكم هي كثيرة الفرص التي ألتقي فيها بمن كانوا في الأمس مراهقين يتذمّرون بين الحين والآخر من مواد الاجتماعيّات، فأجدهم اليوم أمامي يبادرونني بالتّحية الّتي يلحقونها مباشرةً بجملة " يا الله شو منتذكّرك كل يوم، كل شي كنّا نشتغله أو نشوفوا أو نناقشه بحصص التربية أو تخبرينا عنّه، عم نعيشه ونختبره بالجامعة أو بالشغل وخاصّة وقت بدنا نعمل معاملات رسميّة أو نتعاطى مع مؤسسات الدولة"... هنا أشعر بالرضى أنّ رسالتي الأساسيّة في بناء إنسان يتمتّع بالقيم الضّروريّة ليكون مواطنًا صالحًا، قد وصلت.
فلنبادر!
انطلاقًا من خبرتها تدعو فرنسيس زملاءها وزميلاتها في التعليم إلى المبادرة وعدم انتظار إقرار سياسات ما أو تعديلات في المنهج التعليمي، وإلى اعتماد الطرق التي تساهم في تعزيز غايات التعليم الكبرى. وهي تقول: نعم، سنتحمّل المسؤولية كل منّا في صفه لأنّ بناة الغد هم مسؤوليّتنا اليوم، بخاصّةٍ أنّنا نعيش في ظروف صعبة تُبعد هذا الجيل عن قيمه ومبادئه، والحجّة تكون دائمًا أننّا لا نستطيع تغيير شيء، فالقرار ليس بيدنا والأمور لا تتوقّف علينا وحدنا.
دورنا كتربويين هو:
- بناء الإنسان المفكّر، الذي لا يقبل الروايات أو القصص كما هي، بل يبحث ويحلل ويقارن، ثمّ يبني استنتاجاته.
- بناء الإنسان الباحث والمبادر. الباحث عن الثغرات والمشاكل التي تُعرقل تمتّعه بالحياة الكريمة وما توفّره له من حقوق منصوص عنها في القوانين، فيبادر إلى وضع الخطط وملء الثغرات، انطلاقًا من بيئته المدرسيّة الصغيرة وصولًا إلى المجتمع.
- بناء الإنسان المتعاون مع رفاقه وزملائه في الصف عبر النشاطات والمبادرات المجتمعيّة التي يقومون بها من أجل خدمة المجتمع.
- بناء الإنسان المنفتح على غيره. فيدرك أنّه لا يملك الحقيقة وحده ولا يعيش منعزلًا، بل هناك جماعة يجب عليه أن يقبل التعايش معها من خلال الاستماع والإصغاء، فكما يقوم بعمل مجموعات داخل صفّه في المدرسة، فهو سيقوم بذلك في المجتمع، وكما عليه الاعتماد على التواصل الإيجابي خلال عمله مع رفاقه، كذلك عليه أن يفعل مع أبناء مجتمعه، فيتجنّب النّزاعات والخلافات.
إنّ التربية على المواطنة ليست عمليّة حسابيّة، بل هي مسار يبدأه الأهل وتكمله المدرسة، هي واقع مُعاش في المدرسة وخارجها. مسؤوليّتنا كمربّين تكمن في بناء أجيال تنشأ على حبّ الوطن واحترامه والسعي لتطويره. تربية تسعى لتغيير واقع نشهده في أيامنا هذه. هدفنا المساهمة في ذلك، من خلال تنمية المهارات الأساسيّة والقدرات والقيم التي تعزز التماسك الاجتماعي واحترام الآخر وتقبّل الاختلاف والتعاون والتكافل. فلنبادر!