- En
- Fr
- عربي
بلى فلسفة
بيضة في القارة
قد لا يخلو إنسان من الرغبة في تبوء الوظائف العليا, حاكماً أميراً ملكاً عاهلاً... يميل إليه من يميل, ويسعى في خدمته من يسعى, ويقصد عدالته من يقصد, ويُخلص في خدمته من يُخلص...
منذ أيام استبدّ بي مثل هذه الرغبة, لازمني ونما في مخيلتي يقظاناً ساهراً, كما استمر في عيني نائماً حالماً, حتى بتّ أشعر بأنّ الضياع سيكون عنوناً لعمري إن مضى بي مواطناً بسيطاً, وريثاً لأمّه وأبيه في خفّة الوطء والإختصار, بعيداً عن السلطة في وهجها وخير مواسمها.
وما دفعني الى ذلك “بعد هذه الآخرة”, رغبة في بلوغ مركز عال عال يسمح لي بشيء من البذخ والترف, وتكليف الآخرين من كلّ حدب وصوب بالعناية بنفسي وذاتي, مع تقديم مؤكّد لمصلحتي الشخصيّة على المصلحة العامّة إن اقتضى الأمر... وذلك لأيّام معدودة فقط أعود بعدها الى حالتي الأصليّة الأصيلة بسيطاً بين البسطاء هانئاً بين الهانئين بنعيم القناعة والإعراض عن مباهج الدّنيا ومطامعها الفانية.
تلك الرغبة المستحيلة المقلقة لن أعرف لها نهاية لأنها هي لن تعرف حقيقة أو واقعاً, وستستمر في قضّ مضجعي وإقلاق راحتي وإلصاق الأجنحة بملائكة نومي كي تدوم محلّقة مرفرفة بحيث لا أراها إلا لماماً, وبحيث يطول انتظاري لها على فراش من التعب والإنهاك, كحامل أوجاع الضرس وأنّات الصدّر وآهات الفؤاد.
بداية الحلم حلّت بي أخيراً حين كنت في أحد الأماكن العامة أمضي أوقاتاً بين بعض المدخّنين الذين يبحثون في شؤون المجتمع والنّاس, ومصير الكون والوجود, في جلسة فكرية ضمّت رجالاً ونساءً من الفئات الناضجة المسؤولة.
وفيما الآراء تتضارب, ووجهات النّظر موزعة في كل اتجاه, استلّت امرأة مسلّحة بكل شيء, هاتفها الجوّال منادية ابنتها على عجل, سائلة إيّاها عن حال المنزل في غيابها القسري هذا, وعما إذا كانت رفيقة ما حضرت لزيارتها, أو صديق ما ظهر ليبحث معها بعض الشؤون. وكانت سيكارة من النوع الدقيق, فارع الطّول, بين شفتيها “المغلّظتين”, تتراقص من شدّة الغضب, أو على الأقلّ من شدّة العتب, لتأخّر معدّ النارجيلة في إنجاز ما طُلب منه منذ وقت ثمين. وكان جسد السيدة يهتز استعجالاً على الكرسي, فيما كانت يدها تعيد الى المكان الطبيعي خيطاً متفرّداً على كتفها الأيسر كان ينزلق من وقت لآخر على زندها ويتوقف في وسط المسافة. أما البطن فبدا مكشوفاً لمن رآه من بعيد, لكن كان في الحقيقة مغطّى برداء تم اختيار لونه مشابهاً للون الجلد البشري مما يؤدي الى وقوع النّاظر المهتم في الخطأ... ورجّح البعض أن يكون السبب اخفاء جرح ما في القلب أو في المعدة, أو محاولة تضليل الشّاهد والمشاهد... والله أعلم!
قالت السيدة في اتصالها الخاص:
- هل غسلت كانتي قميصي الأحمر, وتنورتي البيضاء؟ وهل كنست الأرض, ومسحت الأبواب, وهيّأت الطّعام والشّراب؟
...
- حسناً, لكنّني أريد أن تسلق لي بيضة.
...
- بيضة واحدة, نعم.
...
- أريد أن تسلقها بشكل خفيف.
...
- مضروبة الرّأس, مقصوفة الرّقبة, زادت في سلق بيضة سابقة منذ يومين, بحيث استحال عليّ التمتّع بمذاقها والإستفادة من محتواها كما نصحني الطبيب غنجي.
...
- لحظات فقط... تشعل النّار لدقيقتين اثنتين, ثم تطفئها.
...
- نعم. لا تنسي. ولا بأس من أن تقفي الى جانبها لضمان حسن الأداء.
...
- وما المشكلة في أن يقف أصحابك الى جانبك خلال ذلك, فتشرفون جميعاً على عمل كانتي.
...
- لا زالت حديثة العهد في وظيفتها, ويجب أن نهيئ لها فرصة كافية للتمرّس والتدرّب.
...
- لا داعي لتعيين “صانعة” إضافية. حالتنا على قياسنا يا حبيبتي, وما عدا ذلك يعتبر بذخاً مؤكداً.
...
- حسـاباتك, وحسابـات بنات وأبـناء جيلك تختلف عن حساباتنا نحن. ستبلغين الوعي العائلي يوماً, فتتأكدين من ضرورة “كمش اليد”, والإنتباه الى المصروف, وتحمّل المسؤولية, وهناك أعمال كثيرة في المنزل يمكننا أن نقوم بها بأنفسنا... ما ينقصنا؟
* * *
- أما أنا, أنا شخصيّاً, فما ينقصني هو أن أصبح “متصرّفاً” مسؤولاً واسع الصلاحيات, تساند مسيرتي حاشية كبيرة, ويدعم وجاهتي بيت مال لافت مميّز, فأقْدم مع ذلك كلّه, وبنفسي ويديّ وأمام عينيّ, عن سابق تصوّر وتصميم, وعن دراية ومعرفة, وفي وعي مضمون, على سلق بيضة من الحجم العادي المعروف, لا تنقص سماكة قشرتها عن الحد الطبيعي, ولا يختلف محتواها, في أصفره أو في أبيضه, عن أي أصفر أو أبيض. بيضة حقيقية طبيعية من تلك التي أوقفها كريستوف كولومبوس على عقبها حين فشل الآخرون, فكان صاحب الكشفين: كشف في البيضة الصغيرة, وكشف في القارة الكبيرة!