علاقات عائلية

بين الظروف القسرية والإهمال الطوعي
إعداد: كرستينا عباس
المعاون

غياب الأب فراغٌ لا يملؤه أحد

 

يتكوّن المثلّث الأساسي للتربية الأسرية من أبٍ، أمٍ وطفلٍ، ولكلٍّ منهم دورٌ محوري لضمان توازن الأسرة. فالأب يمثّل القوة والأمان والحماية، فيما تجسّد الأم العاطفة والحنان. وبالتالي، فإنّ غياب أيّ من الوالدين، ولو لفترات متقطّعة، قد يترك آثارًا نفسية عميقة على الطفل. فما الذي يترتّب على غياب الأب تحديدًا؟ وهل من خطواتٍ عملية تخفف من التداعيات السلبية للغياب وتسهم في احتضان الطفل بطريقة فاعلة؟

 

تتعدد أسباب غياب الأب عن الأسرة، وقد يكون اختياريًا، كما في حالة السفر إلى الخارج بهدف العمل، أو الانخراط في وظائف تفرض دوامًا طويلًا، وقد يكون قسريًا نتيجة الوفاة أو ظروف قاهرة أخرى. ومهما كانت الأسباب، فإنّ غيابه ينعكس سلبًا على التوازن النفسي للطفل، الذي يرى في والده مصدرًا للأمان والاستقرار، تمامًا كما يرى في والدته موئلًا للحنان والرعاية. ومن هنا، يتحوّل الغياب إلى شعور داخلي بالفراغ وعدم الطمأنينة.

 

العمل ضروري، ولكن بأي ثمن؟

لا شك في أنّ العمل لتأمين متطلبات الحياة أمرٌ لا مفرّ منه، لكن حين يُستنزف وقت الأب بالكامل، قد يشعر الأبناء بأنّهم خارج دائرة أولوياته، ما يخلّف لديهم شعورًا بالوحدة العاطفية وربما الإهمال. وتزداد هذه التداعيات عندما يغيب التوازن العاطفي داخل الأسرة، فيفقد الطفل ثقته بنفسه وينتابه القلق. وفي بعض الحالات، يمكن أن يتأثّر الأداء الدراسي للطفل، فتضعف رغبته في التحصيل العلمي، في ظل غياب التشجيع والدعم من الأب، ولن تنجح الأم مهما حاولت في تعويض هذا النقص.

في هذا السياق، توضح الاختصاصية في علم نفس الأطفال جويل خوري صوما، أنّ أبرز الحلول المعتمدة حديثًا للحدّ من تأثير غياب الأب الطويل عن المنزل، هو التركيز على نوعية الوقت الذي يقضيه مع عائلته، وليس فقط كميّته. وتشدّد على ضرورة أن يتابع الأب تفاصيل يوميات أولاده، من اهتماماتهم وتطلعاتهم إلى تطورات حياتهم الشخصية وطبيعة علاقاتهم بمحيطهم. كما تحثّ الآباء على الإصغاء إلى وجهة نظر أبنائهم في المشكلات التي تصادفهم، وفي أسباب نزاعاتهم مع الآخرين، لأنّ هذا الأمر يعزّز الثقة بين الطرفين، ويمنح الأب فرصةً مهمة للقيام بدوره في توفير الحماية والأمان بالإضافة إلى التوعية والتوجيه، ما يسمح بالحفاظ على التوازن في عملية التربية.

كما تنصح بتخصيص أوقات الفراغ، مهما كانت محدودة، لمشاركة الأطفال نشاطات بسيطة وذات بعد عاطفي وتربوي، مثل تناول العشاء معًا، اللعب، أو حضور نشاطات ترفيهية وثقافية، مشدّدة على أنّ هذه اللحظات القصيرة قد تكون كفيلة بترميم ما يهدمه الغياب.

وترى صوما أنّ وسائل الاتصال الحديثة وتطبيقات التواصل باتت تتيح للأب المقيم خارج البلاد أن يكون حاضرًا يوميًا في حياة أولاده، شرط أن يبادر إلى ذلك بوعي وحضور حقيقي.

 

غيابٌ لا مفرّ منه

من ناحيةٍ أخرى، قد يكون غياب الأب ناتجًا عن الوفاة، وهو من أشدّ أشكال الغياب وقعًا على الأطفال، لما يتركه من أثرٍ صادم في نفوسهم وعلى مجرى حياتهم اليومية. ففي مثل هذه الحالات، يمرّ الطفل بمراحل مختلفة من الحزن العميق، تراوح بين الإنكار والرفض، وصولًا إلى التقبّل التدريجي. وتؤكد الاختصاصية خوري صوما أنّ أثر فقدان الوالد يختلف باختلاف عمر الطفل أي باختلاف الخبرات الجيدة التي عاشها مع والده قبل فقدانه. وتوضح في هذا الإطار أنّ الطفل الذي فقَدَ أحد والديه، يحتاج إلى تجهيز آلية دفاعية للتكيّف مع هذا الغياب، تختلف بحسب المرحلة العمرية. فمثلًا، الطفل دون السنتين يتعامل مع الفقدان بشكلٍ مختلف عن المراهق الذي كوّن علاقة وذكريات مع والده. وتوضح أنّ الطفل الصغير يحتاج إلى شخصية ذكورية بديلة في حياته، تعينه على النمو النفسي المتوازن، في حين يمكن للطفل الأكبر سنًا أن يستند إلى الذكريات المشتركة مع والده كمصدرٍ للعزاء والدعم النفسي.

أما من ناحية احتضان الأطفال بعد وفاة الوالد، فتؤكّد أنّه من الصعب على الأم أن تؤدي وحدها دورَي الأب والأم في آن. ولذلك من الضروري أن تؤمّن له العائلة بديلًا أبويًا substitute paternel يمكن أن يشكّل صورة شبيهة بصورة الأب لناحية إشعاره بالأمان والطمأنينة. وقد يأتي هذا الدور من العم، أو الخال، أو زوج الأم في حال زواجها لاحقًا، أو حتى من شخصيات رجالية مرجعية ينتمي الطفل إلى محيطها، مثل رجل الدين أو المسؤول في مجموعة كشفية أو رياضية أو غيرها. وتؤكد الاختصاصية خوري صوما على أهمية دور العائلة الممتدة في رعاية الأطفال، إلى جانب والدتهم كي يتأكّدوا من أنّه يتلقى رعاية أبوية بديلة من الجهة الصحيحة.

وعلى عكس ما يظن كثيرون، من الضروري أن يتحدّث أفراد العائلة مع الأطفال عن الوفاة شرط أن يتم ذلك بأسلوبٍ يتناسب مع أعمارهم وبإِشراف اختصاصيين نفسيين. كذلك، من المهم توفير بيئة حاضنة ودافئة تمنحهم الوقت والمساحة للتعبير عن مشاعرهم بدل كبتها حتى لا يؤدي ذلك لاحقًا إلى مشاكل صحية. ومن المفيد جدًا اللجوء إلى معالج نفسي يساعدهم على التعامل مع مشاعرهم بطريقة سليمة، من دون أن ننسى أهمية تعزيز الروابط مع العائلة الممتدة لمحاولة ملء جزء من الفراغ العاطفي الذي يخلّفه الأب الراحل في نفوس أفراد الأسرة.

 

الحاضر الغائب

يُعدّ إهمال الأب لأطفاله أصعب أنواع الغياب على نفسية الأولاد بحسب  صوما، لأنّه يغيب عنهم طوعًا وهذا الأمر يؤذيهم أكثر من الغياب القسري، ما يؤدي إلى مشاكل كبيرة في تطورهم العاطفي والنفسي. ففي هذا النوع من الغياب، يرى الطفل في والده شخصًا غير مبالٍ، ولا يهتم بأيٍ من تفاصيله أو احتياجاته، ما يخلق لديه الشعور بالعزلة والإهمال العاطفي، وقد لا يعود بدوره قادرًا على منح العاطفة للآخرين. إلى ذلك، يفقد حسّ المسؤولية لأنّه يرى في والده المهمل مثالًا أعلى يقتدي به. ومن المخاطر أيضًا، إمكانية أن يصبح الطفل عاجزًا عن إقامة علاقات سليمة مع الآخرين مهما بلغت درجة قربهم منه. والأسوأ، أنّه سيعاني انخفاضًا حادًا في تقدير الذات لأنّه سيشعر أنّه غير مهم بالنسبة لأبيه.

 

إدانة أم احتواء

تلفت الاختصاصية خوري صوما إلى أنّ الإهمال قد يكون بدوره ناتجًا عن معاناةٍ سابقة لدى الأب، إذ من المحتمل أن يكون هو نفسه قد تعرّض للتجاهل أو الإهمال في طفولته، ما يدفعه إلى تكرار النمط ذاته في تربية أبنائه. لذلك، فإن اللجوء إلى الإرشاد النفسي والاجتماعي ليس فقط ضرورة لحماية الطفل، بل أيضًا كوسيلة لاحتواء الأب ومعالجة جذور سلوكه. وتوضح أنّه عندما يشعر الأب بأنّ هناك من يسمعه ويفهمه، ويُظهر له أهمية دوره داخل الأسرة، يصبح أكثر قدرة على كسر حاجز الجفاء والتقرّب من أطفاله بشكلٍ صحي وفاعل.

في السياق نفسه، توضح أنّه في كثيرٍ من الأحيان، قد تدفع الضغوط الحياتية المستمرة بالأب إلى نوع من الانسحاب النفسي، حيث يفقد الحافز لبذل أي جهد، حتى في أبسط واجباته الأبوية. وهنا، يصبح الدعم النفسي والمعنوي ضروريًا، ليس للأب فقط، بل للطفل أيضًا الذي قد يفسّر هذا الانسحاب على أنه رفض له أو عدم محبة. في هذه الحالة، يبرز دور الأم والعائلة الممتدة في الإصغاء إلى الطفل ومساعدته في التعبير عن مشاعره، وتوجيهه بطريقة إيجابية للتواصل مع والده. فالطفل بدوره يمكن أن يسهم، في حال دعمه بالشكل الصحيح، في كسر جدار الإهمال، من خلال التقرب من والده ومحاولة جذبه إلى علاقة أكثر دفئًا، خصوصًا إذا تم ذلك بإشراف اختصاصيين.

إنّ غياب الأب عن أسرته، لأي سببٍ كان، يشكّل نقصًا وفراغًا يصعب جدًا تعويضه أو التعايش معه. وبالتالي، يبقى التحدي الأساس في إيجاد واعتماد طرق عملية تضمن توفير بيئة صحية عاطفيًا للأولاد الذين يعانون هذا الغياب. فالأب هو أحد أعمدة البيت الأساسية، فكيف يصمد منزلٌ إذا دُمّر أحد أعمدته؟