معًا نواجه

بين صمود الطواقم الطبية وتحديات الاستهداف المباشر كيف واجه القطاع الصحّي؟
إعداد: ريما سليم

في أعقاب التفجيرات المروّعة التي استهدف بها العدو الإسرائيلي أجهزة «البيجر» وأجهزة الاتصالات اللاسلكية في لبنان، وجدت المستشفيات نفسها أمام تحدٍّ غير مسبوق يتجاوز كل ما يمكن مواجهته في الحروب التقليدية. وقد أسفرت هذه التفجيرات عن سقوط 37 شهيدًا وإصابة 2931 شخصًا في آنٍ واحد.

خلال أقل من ساعة، تحولت المستشفيات إلى مراكز طوارئ، وازدحمت أروقتها بالجرحى بعد أن تلقّت آلاف المصابين معظمهم يعانون إصاباتٍ بليغة، وذلك خلال فترةٍ لا تتجاوز الثلاثين دقيقة من حادث التفجير. تنوّعت الإصابات بين جروح في العيون، الوجه، اليدين والخاصرة، وكانت بعض الحالات خطيرة للغاية، خصوصًا تلك التي طالت العيون.
لم يكن من السّهل أن تستوعب مراكز الطوارئ هذا الكمّ الهائل من الجرحى دفعةً واحدة، ما أدى إلى دخول بعض المصابين عبر أبواب فرعية واستلقائهم على الأرض في مشهدٍ مؤلم، وفق شهادة أحد الأطباء.
أمام هذا الواقع الكارثي، بادرت وزارة الصحة إلى إبلاغ المستشفيات بحالة الطوارئ، وقد استجابت الأخيرة بسرعةٍ قياسيّة، إذ  كانت جميعها على استعدادٍ  للتعامل مع مختلف الظروف المستجدة. يعود ذلك إلى التدريبات السابقة التي نُظّمت بالتعاون بين وزارة الصحة العامة والمستشفيات والتي أدت دورًا محوريًا في تعزيز الاستجابة السريعة رغم صعوبة الوضع بحسب ما يقول الدكتور جوزف الحلو، مدير العناية الطبية في وزارة الصحة.  وهو يوضح أنّ الوزارة كانت قد أعدّت خطة طوارئ منذ تشرين الأول من العام الماضي، درّبت خلالها المستشفيات الحدودية على التعامل مع الأوضاع الاستثنائية. ومع تصاعد وتيرة الحرب، تلقّت 118 مستشفى، مع طواقمها الطبية تدريبات مكثّفة، ونُفّذت مناورات حيّة بالتعاون مع الصليب الأحمر اللبناني، ما جعل القطاع الصحّي يتمتّع بجهوزيةٍ عالية للتعامل مع أي طارئ.

 

تنسيق شامل في القطاع الصحي
في المستشفيات، كان أفراد الطواقم الطبية والتمريضية والدعم الفني على أهبة الاستعداد لتلبية احتياجات المرضى. وتمّت الاستجابة بفاعليةٍ لجهة تقديم الرعاية الأولية، ومن ثم توزيع الجرحى وفق حالاتهم، كما فتحت بعض المستشفيات أقسام طوارئ إضافية لاستيعاب العدد الكبير من المصابين. وقد أظهر القطاع الصحي جهوزيته العالية، حيث عمل كخلية نحلٍ في فرز الجرحى وتصنيفهم بين حالاتٍ خطيرة ومتوسطة وتوزيعهم على المستشفيات، بل وحتى نقلهم بين المحافظات. كذلك، شهد القطاع دعمًا لوجستيًا واسعًا نتيجة التعاون ما بين وزارة الصحة العامة وغرف الطوارئ والمستشفيات والأجهزة الإسعافية، ما سهّل عملية توزيع المصابين ونقل الجرحى من الجنوب إلى صيدا فبيروت، وحتى إلى الشمال ومستشفيات البقاع إذا لزم الأمر.
شارك في استقبال المصابين أكثر من مئة مستشفى، كما جرى تأمين فائض من وحدات الدم بسبب الاستجابة السريعة للمتبرعين من المواطنين.
في هذا السياق، يؤكد الدكتور الحلو أنّه ولأول مرة في تاريخ لبنان، كان هناك تنسيق شامل بين جميع عناصر القطاع الصحي، بما في ذلك النقابات في مختلف المناطق، ومن ضمنها نقابة المعالجين الفيزيائيين ونقابة الأطباء النفسانيين. كذلك، شمل التعاون مراكز وأقسام دراسات الحمض النووي DNA التي استُخدمت لتحديد هويات بعض الضحايا.
 

عمليات جراحية على مدار السّاعة
شكّلت عملية تفجير «البيجر» صدمةً كبيرةً لأطباء العيون، يقول الدكتور الحلو، خصوصًا حين  تدفّق إلى المستشفيات عدد كبير من المصابين إصاباتٍ بليغة لم تكن أسبابها واضحة بعد. وعلى الرغم من الضغط الهائل، واصل الطاقم الطبّي تقديم الرعاية، من دون انقطاع على مدار الساعة، حتى أنّ بعض الأطباء لم يغادروا المستشفيات، وأجروا عمليات متواصلة على مدى 24 ساعة من دون استراحة. وقد نفّذ القطاع في الأيام الثلاثة التي أعقبت الحادثة، نحو 2800 عملية جراحية شملت إصابات في الوجه، العيون، الأطراف وحتى الخاصرة، مع الإشارة إلى أنّ  بعض الجرحى احتاجوا إلى العناية الطبية من أكثر من طبيب وإلى الخضوع لعدّة أعمال طبيّة نظرًا إلى تعدّد إصاباتهم.
ويشير الدكتور الحلو إلى أحد التحديات التي واجهت القطاع الصحي، وهي أنّ المستشفيات ليست جميعها مجهّزة بأقسام للعيون، والبعض منها لم يكن يمتلك سوى خمسة مجاهر، فيما كانت الحاجة لأكثر من ذلك، ما اضطر الأطباء إلى إجراء العمليات على مراحل متتالية. ومع ذلك، فقد تم تقديم العلاج لجميع المصابين. وعلاوة على ذلك، تمّ التنسيق مع نقابتي أطباء بيروت والشمال لمتابعة علاج الجرحى بعد خروجهم من المستشفيات في كل من مستشفى بعبدا الحكومي ومستشفى رفيق الحريري الجامعي الحكومي.

 

متابعة الوضع الصحي للنازحين
مع توسّع الاعتداءات الإسرائيلية وإغلاق بعض المستشفيات، شهد لبنان موجة نزوح هائلة غادر فيها نحو ثلث السكان خلال 24 ساعة، ما جعل استيعاب هذه الأعداد الكبيرة تحديًا صعبًا. في هذا الإطار، يؤكد الدكتور الحلو أنّه في محافظتي الجنوب والنبطية، كان هناك حوالي 400 مريض بحاجة إلى جلسات غسل كلى في الوقت نفسه، ما تطلّب نقلهم إلى أماكن آمنة في يومٍ واحد. وقد استمر العمل بشكلٍ مكثف لأيام، وتحوّل القطاع الصحي إلى خلية نحلٍ تعمل بلا توقف لضمان وصول مرضى غسل الكلى إلى بيروت والشمال وجبل لبنان.
وصل أيضًا حوالي 500 مريض من بعلبك-الهرمل وجرى توزيعهم على مراكز غسل الكلى في جميع المناطق، نظرًا لأنّ أي تأخير في علاج هؤلاء المرضى قد يشكل خطرًا على حياتهم. كما خُصّص خطّان ساخنان للمرضى المصابين بالسرطان (1214 و1787) لتقديم الدعم اللازم، مع الإشارة إلى أنّ الوزارة تتكفّل بالأدوية وتغطية التكاليف للمرضى في المستشفيات الحكومية.
أما النازحون الذين انتقلوا إلى نحو ألف مركز إيواء، فتتولى وزارة الصحة متابعتهم عبر 235 مركز رعاية صحية أولية. وتدور 233 عيادة متنقّلة بين مراكز الإيواء لتقديم الرعاية الطبية اللازمة، فيما يشارك أطباء متطوعون من نقابة الأطباء بتقديم الرعاية الطبية للنازحين في هذه الظروف الحرجة.

 

استهداف مباشر للقطاع الصحي
العدوان الإسرائيلي الذي لم يكتفِ بتهجير المواطنين من قراهم، استهدف القطاع الصحي بشكلٍ مباشر. وكان من بين الاعتداءات، استهداف مسيّرة إسرائيلية طاقم إسعاف الهيئة الصحية الإسلامية بالقرب من مستشفى مرجعيون الحكومي، ما أدى إلى استشهاد سبعة أفراد وإصابة خمسة آخرين. ومع تكرار العدوان الذي طال المسعفين بشكلٍ مباشر، اضطرت مستشفيات حكومية مثل ميس الجبل، وبنت جبيل، ومرجعيون إلى الإغلاق ونقل المرضى والجرحى إلى مستشفيات أخرى، فيما جرى توزيع الطاقم الطبي على مستشفيات المنطقة لتستمر في أداء رسالتها الإنسانية في الظروف العصيبة التي يمر بها لبنان.
في السياق نفسه، تعرّض حرم محيط مستشفى «الشهيد صلاح غندور» في بنت جبيل لقصف مدفعي إسرائيلي بأربع قذائف، مما أسفر عن إصابة 15 فردًا من الطاقم الطبي والتمريضي، وأدّى بالتالي إلى خروجه عن الخدمة.
في سيناريوهات مشابهة، أغلقت ثلاثة مستشفيات في الضاحية الجنوبية هي بَهْمَن والبرج والساحل، بالإضافة إلى مستشفى سحمر في البقاع الغربي. ويقول الدكتور الحلو إنّه لدى إقفال المستشفيات، تمّ نقل الجرحى إلى مستشفيات أخرى لضمان استمرار تقديم الرعاية، فيما باشرت وزارة الصحة مباحثاتٍ مع منظمات دولية كالصليب الأحمر الدولي وأطباء بلا حدود لتولّي إدارة المستشفيات الحكومية التي خرجت عن الخدمة بشكلٍ مؤقت.
 

صمود رغم التحديات
في مقابل المستشفيات التي اضطرت مرغمةً إلى الإقفال، واصل ما يزيد عن مئة مستشفى الأعمال الطبية بشكلٍ طبيعي، على الرغم من الضغوطات والشائعات التي طالت بعضها في إطار حملة التهويل التي يشنّها العدو على القطاع الصحي. فمستشفى الرسول الأعظم الذي نشرت وسائل التواصل الاجتماعي خبر خروجه عن الخدمة بسبب القصف، أكدت إدارته أنّ الخبر عارٍ عن الصحّة، وقد تناقلته وسائل إعلامية بعد اقتراب بعض الغارات من مكان المستشفى، وساهمت وسائل التواصل بانتشاره من دون تدقيقٍ أو تحقيق. كما أوضحت إدارة المستشفى أنّ بعض الغارات كانت قريبة بالفعل من محيطه، ولكنّ الأعمال الطبية لم تتوقف، وتمكّن المستشفى من الاستمرار بفضل جهود الطواقم الطبية.
في سياقٍ مشابه، طالت الإشاعات مستشفى سانت تريز مؤكّدةً خروجه عن الخدمة، وهو خبرٌ نفاه رئيس المستشفى الدكتور فادي الهاشم نفيًا قاطعًا. كما نفى أن يكون المستشفى قد تعرّض لقصفٍ مباشر، موضحًا أنّ الأخبار التي تشير إلى قصف سانت تريز، فإنّما يُقصد بها المنطقة المحيطة والتي تحمل اسم المستشفى وليس المستشفى تحديدًا. كذلك، أشار إلى أنّ مستشفى سانت تريز، أصبح رمزًا للصمود بفضل استمراره في تقديم الخدمات رغم القصف والدمار، وقد لفت أنظار وسائل الإعلام العالمية، مثل Le Monde، Le Figaro وNew York Times، التي أشادت بإصراره على مواصلة العمل في ظل أصعب الظروف. وأضاف أنّ إدارة المستشفى عازمة على الاستمرار بتقديم الخدمة الإنسانية واستقبال المرضى والجرحى، وعدم التخلّي عن طواقمها الطبية والتمريضية والفنيّة خلال هذه الأزمة، مشدّدًا على القدرة على الاستمرار رغم الصعوبات والخسائر المادية التي يتكبّدها المستشفى.
من المستشفيات الصامدة رغم التحديات أيضًا، مستشفى حاصبيا الحكومي، الذي ما زال يعمل بجهدٍ لخدمة المرضى. فجميع أقسام المستشفى مفتوحة وتستقبل المرضى، ومن بينهم النازحون الذين يحتاجون إلى غسل الكلى، إلى جانب الحالات المرضية العادية. إضافةً إلى ذلك، فإنّ أعداد الجرحى والشهداء تتزايد يوميًا، ما يزيد الضغط على المستشفى. وفيما لفتت إدارة المستشفى إلى أن بعض الأطباء غير قادرين على الحضور بسبب الظروف الأمنية، فقد أكدت أنّ فريق الأطباء من البلدة مستمر في تقديم الرعاية للمرضى، وأنّ الطاقم التمريضي والإداري يواصل عمله بشكلٍ كامل رغم التحديات. كذلك أشارت الإدارة إلى انقطاع المياه واضطرار المستشفى لشرائها عبر الصهاريج، إلى جانب انقطاع الهاتف الأرضي والإنترنت، مشدّدةً على أنّ المستشفى يواصل العمل من أجل خدمة المرضى رغم جميع التحديات، مع الأمل في الحصول على دعم إضافي لضمان استمرارية العمل.

 

الدعم العربي والدولي
صحيح  أنّ المستشفيات ما زالت صامدة، ولكن هل لديها ما يكفي من مستلزمات طبية في حال استمر العدوان؟
يقول الدكتور الحلو إنّ وزارة الصحّة بدأت بتخزين المستلزمات الطبية منذ تشرين الأوّل من العام 2023، حرصًا على تأمين ما يكفي لعدة أشهر. ومع طول أمد الحرب وتطوّراتها الأخيرة، تمّ استخدام هذه المستلزمات الطبية، وقد ساهمت دول عربية وأوروبية مشكورةً بتقديم دعم إضافي ساعد في سدّ الاحتياجات، ما مكّن الوزارة من توزيع المستلزمات على 130 مستشفى لإعادة تكوين مخزونها. وتستمر المساعدات الطبية والأدوية بالوصول، حيث تُوزّع الأدوية على مراكز الرعاية الصحية الأولية، فيما تُوزّع المستلزمات الطبية على المستشفيات التي تُعنى بعلاج الجرحى، الحكومية منها والخاصة.
أما في ما يخص الأدوية، فيتوافر حاليًا مخزون يكفي لأربعة أشهر، سواء لدى الوزارة أو لدى الشركات والمستوردين. إلّا أنّ القلق يبقى قائمًا من احتمال استهداف المستشفيات في حال استمرار الحرب، علمًا أنّ إخلاء أي مستشفى يُعد مهمةً بالغة الصعوبة، وبخاصةٍ في ظل وجود مئتين إلى ثلاثمئة مريض يحتاجون إلى الرعاية المستمرة، مثل مرضى غسل الكلى، الذين قد تتعرض حياتهم للخطر إذا لم تتوافر أماكن بديلة لهم.
وإذ يشير الدكتور الحلو إلى أنّ المخاوف تبقى قائمة في حال استمرار الاعتداءات واستهداف العدو للمستشفيات بشكلٍ مباشر، ما قد يؤدي إلى كارثة إنسانية، فهو يشدّد على أهمية التعاون الداخلي والدعم الخارجي للحفاظ على صمود هذا القطاع الحيوي في وجه الأزمات المتتالية.
تُشكّل تجربة القطاع الصحي اللبناني وتفاني عناصره في أداء دورهم الإنساني والوطني رغم المخاطر والصعوبات مثالًا لالتزام القيم في مجتمعنا، وفي طليعتها التكافل والتضامن لمواجهة العدوان.