- En
- Fr
- عربي
كلمات
عمد الفكر الصهيوني العدواني الى ابتداع نظرية “المنطقة الأمنية” لحماية كيانه, فاحتل شريطاً حدودياً في جنوب لبنان اسماه “الحزام الأمني”, واعلن ان الهدف منه هو حماية شمال اسرائيل. بكل بساطة, لقد شعرت الدولة العبرية بالحاجة الى الأمن على حدودها الشمالية, فاحتلت قسماً من الاراضي اللبنانية من اجل هذه الغاية. إذا سلّمنا جدلاً بأن هذا المنطق صحيح كما ردّد ساسة العدو وحلفاؤه وكما روّجت وسائل إعلامه, فإنه يتوجب على كل دولة لديها مشكلات أمنية ان تحتل قسماً من الدولة المجاورة لها, وهكذا دواليك... فيدخل العالم في صراعات وتهديدات وحروب لا حصر لها.
وما حصل في “الحزام الأمني” في جنوب لبنان هو ان اسرائيل, وتحت ضغط الترهيب والترغيب واشعال الفتن بين ابناء الشعب الواحد, عمدت الى تشكيل ميليشيا من سكان هذه المنطقة, فرضخ صغار النفوس والعقول ظناً منهم بأنهم سيستظلّون بقوة كبيرة تحميهم وتدعمهم, فيما المطلوب الخفي غير المنظور هو ان يحموها ويدعموها, وان يكونوا أكياس رمل تتلقى الرصاص عنها. واستغل العدو الاحداث اللبنانية, والانقسامات الداخلية في لبنان, من اجل تدعيم تلك الميليشيا داخل الشريط المحتل. لكن, ورغم طول الاحتلال نسبياً, فإن الشعب اللبناني, وخصوصاً سكان المنطقة المحتلة الصامدون, عرف الحقيقة ووجد في الميليشيا المذكورة درعاً اسرائيلياً يتلقى الضربات ويقدم الضحايا من اجل الرد عن اسرائيل.
ومن المعروف ان كل دولة تستخدم عملاء للقيام بمهام أمنية, فتتابع اوضاعهم وتحميهم بما تيسّر لها من قوة وامكانيات مادية, لكن اللافت ان اسرائيل لم تأبه لأية خسارة تلحق بالميليشيات المتعاملة معها, منطلقة من مبدأ ان الجميع, وخصوصاً العرب, اعداؤها حتى ولو كانوا يتعاونون معها, فهي دولة قائمة على التمييز العنصري, وتُفرّق بين دين ودين, لا بل بين عرق وعرق ضمن الدين اليهودي الواحد. ربما قال قائل ان اسرائيل لم تكن تأمن جانب عملائها انطلاقاً من شكّها الدائم بهم, لكن اولئك الصغار اندفعوا بأعمال إجرامية ضد ابناء شعبهم ومقاوميهم, وكانوا خادمين للعدو في التنكيل بالمواطنين, وما الذي جرى في سجن الخيام إلاّ دليلاً على هول ما قاموا به ضد ابناء شعبهم, وخدمة لمصالح عدوهم.
وما ان اشتدّت المقاومة البطوليّة ضد الاحتلال, وتصاعدت وتيرة العمليات التي أدّت الى زلزال رهيب داخل المجتمع الاسرائيلي, والى إرغام العدو على الاندحار عن ارضنا في أيار عام 2000, حتى طرحت مسألة مصير العملاء, فإذا بإسرائيل تفاجئ من كان يؤمن بالتعاون معها, ولم تفاجئ من كان ولا يزال عدواً لها, وذلك بتنكيلها بعملائها, تماماً كما”ينكّل” المحارب بكيس الرمل فيتلفه ويرميه عندما تنتهي حاجته إليه.
ظنّ العملاء ان دولتهم الأم سوف تقضي عليهم, وان مقاومتهم سوف تنتقم منهم, فإذا بالدولة تلك “تجتاح” المنطقة المحررة بقوانينها وعدالتها وليس بعصاها وبسيفها, واذا بالمقاومة تعلن ان هدفها تحرير الأرض والشعب وليس الانتقام او التشفي. ومن كان أخطأ أو ارتكب جرماً, فالقضاء وحده هو من يحاكمه ويفصل في قضيته. وهكذا, وبعد ان فرّ الكثيرون الى داخل اسرائيل خوفاً من الانتقام, بدأوا بالعودة تدريجياً عندما ادركوا ان الدولة دولتهم وأن المقاومة قد حصلت من اجلهم ومن اجل كل مواطن لبناني, فسلّموا انفسهم الى القضاء وخضعوا للمحاكمة العادلة.
لكن قلّة من اولئك العملاء لم ترضَ بالعودة, وحاولت اللجوء الى هنا وهناك في اوروبا وغيرها, فكانت نتيجة محاولاتها الرفض, لأن دول العالم ادركت من هي تلك القلّة, وماذا فعلت, وماذا ارتكبت. وتظاهر العملاء ضد الحكومة الفرنسية, واعتصموا وافترشوا الارض مراراً وتكراراً من دون جدوى. الفلسطينيون العرب داخل اراضي 1948 رفضوا بدورهم استقبال هؤلاء في مجتمعاتهم لأنهم خانوا شعبهم. وبالطبع فإن المجتمع الاسرائيلي نبذهم هو الآخر لأسباب عنصرية واضحة رغم كل ما قدموا له من ضحايا. وهكذا وقع العملاء في ورطة هي من أخطر ما جابهوه في مسيرة تعاملهم مع العدو. وكانت النتيجة ان الكثيرين يئسوا وعادوا الى الوطن مفضلين السجن على الإذلال, إلاّ أنّ البعض بقي في داخل اسرائيل, لكن السلطات الاسرائيلية تمنعت عن استقبالهم, وتركت للشرطة المحلية معالجة قضيتهم. حاول هؤلاء التذكير بما قدّموه لاسرائيل لكن ذلك لم يلقَ آذاناً صاغية, وبدأت النهاية المذلّة تتضح يوماً بعد يوم.
قائد الميليشيات انطوان لحد وقد جاوز السبعين, افتتح مطعماً صغيراً ليؤمن عيشه بعد ان عجز عن الإقامة في الفندق, فما كان من احدى الصحف الاسرائيلية الا ان اطلقت عليه اسم “الجنرال حمّص”, وقد فعل السيد لحد ذلك بعد ان فشل في الوصول الى باريس للإقامة فيها بعيداً عن ماضيه المخزي, لكن السلطات الفرنسية رفضت استقباله أو ايواءه. ويذكر هنا ان بعض العملاء قد تم توظيفهم في شركات نقل اسرائيلية ليكونوا دروعاً بشرية تحمي الاسرائيليين من الاعمال الاستشهادية.
ذلّ ليس بعده ذلّ, وهذه هي نتيجة التعامل مع الصهيونية, سواء كان المتعامل عسكرياً, أو سياسياً, أو أمنياً. الختـام, درس حي وواقعي لكل مواطن شريف: إن التعامل مع العدو يؤدي الى هذه النهاية الوخيمة بين “المطعم” و”الباص”.