من الذاكرة

بين 1943 و1946: معارك كثيرة خاضها اللبنانيون في سبيل استقلالهم
إعداد: الهام نصر تابت

نال لبنان استقلاله بعد سنوات طويلة من النضال توّجتها معركة 1943. بعد ذلك، كان عليهم خوض معارك أخرى لا تقل شراسة من أجل استقلال ناجز بالفعل، لاتقيّده معاهدات أو شروط.
استمرت هذه المعارك ثلاث سنوات، فأسفرت عن تسلّم الدولة اللبنانية وحدات الجيش والمصالح الاقتصادية التي كانت ما تزال خاضعة لوصاية سلطات الانتداب، وتُوّجت بجلاء الجيوش الأجنبية عن لبنان في نهاية العام 1946.
في ما يلي إضاءة على المحطات الأساسية في هذه المرحلة، من خلال مذكرات الرئيس كميل شمعون «مراحل الاستقلال»، وكتاب منير تقي الدين «الجلاء».

 

كان كميل شمعون وزيرًا للداخلية حين كلّفه رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري ورئيس الحكومة رياض الصلح إنشاء مفوّضية للبنان في لندن، وذلك في شهر آب من العام 1944. المفوضية كانت أول تمثيل دبلوماسي للبنان في الخارج، وقد اضطلعت بدورٍ كبير على صعيد دعم موقف لبنان ومواجهة مماطلة الفرنسيين في تسليم الجيش والمصالح الاقتصادية إلى الدولة اللبنانية.
يعتبر الرئيس شمعون أنّ «نيّة الفرنسيين الحقيقية كانت عدم تسليم الحقوق اللبنانية إلا شبرًا بعد شبر». ويضيف: «ما كانوا بالطبع ليسلّمونا المراكز التي يتمتّعون بها في لبنان. وكانوا في الوقت ذاته يواصلون في لندن وواشنطن سعيهم في الحصول على اعتراف بمركزٍ ممتاز لفرنسا في لبنان. وكان الجنرال ديغول يرجو بعد الحصول على هذا الاعتراف حملنا على توقيع معاهدة تسجل فيها امتيازات ثقافية واقتصادية واستراتيجية...».
في الواقع كانت بريطانيا قد وقّعت اتفاقية مع مصر وأخرى مع العراق ما يضمن لها موقعًا مميزًا في البلدين بعد استقلالهما، وهذا ما حاولت فرنسا أيضًا الحصول عليه في لبنان وسوريا أو في لبنان على الأقل.
بعد البدء بتسليم المصالح تباعًا إلى الدولة اللبنانية اعتبارًا من مطلع العام 1944، بدأت المماطلة من قبل الفرنسيين الذين حاولوا الضغط على الحكومة اللبنانية من خلال افتعال الأحداث والعراقيل. وقبل أن تكتمل فرحة اللبنانيين بتسلّم اللواء الجبلي الخامس مطلع العام 1944، وتعيين الزعيم فؤاد شهاب قائدًا له، حتى وقعت حادثة 27 نيسان التي كادت تتحول إلى فتنة.
فقد استغلت عناصر موالية لفرنسا ومدعومة من أجهزتها والأجهزة الخاضعة لها مباشرة، مناسبة انتخاب يوسف كرم نائبًا لمقعدٍ نيابي شغر في الشمال، فسارت إلى البرلمان مجموعات كبيرة بحجة مرافقة النائب، ولما وصلت إليه حاول البعض اقتحام المجلس النيابي حاملين العلم الفرنسي، ومنادين بسقوط العهد الاستقلالي ورجاله. وتسلّق بعض الشبان إلى سطح المبنى محاولين إنزال العلم اللبناني ورفع العلم القديم مكانه. تصدّى الدرك لهذه المحاولة وانتصر لها مؤيدون، فحصل تبادل لإطلاق النار بين موظفي الأمن العام الذين كانوا لا يزالون بإمرة الأجهزة الفرنسية وقوات الدرك الذي كان تحت إمرة السلطات اللبنانية، فسقط خمسة قتلى وسبعة عشر جريحًا.
عقب هذه الحادثة توقف البحث في تسليم وحدات الجيش إلى الحكومة اللبنانية، إلى أن عاد واستؤنف في 15 حزيران 1944.
 

بروتوكول 15 حزيران 1944
يروي منير تقي الدين في كتابه «الجلاء»، وقائع تسليم أول قطعة من الجيش للحكومة اللبنانية، كما يلي:
«في الخامس عشر من حزيران 1944، وضع رئيس الحكومة اللبنانية رياض الصلح مع الجنرال بول بينيه قائد القوات الفرنسية في الشرق، ترتيبًا خاصًا قضى بوضع فوج من اللواء الخامس الجبلي وكوكبة من المصفحات تحت تصرّف الحكومة اللبنانية المباشر، على أن يجري استبدال هذه المجموعة مرة كل أربعة أشهر، بناءً على طلب صادر عن رئيس الوزراء إلى الزعيم قائد هذا اللواء. تمّ تسليم المجموعة الأولى في احتفال تخلله عرض عسكري في الملعب البلدي في 17 حزيران 1944، حضره عن الجانب اللبناني رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء وبعض الوزراء والنواب، وعن الجانب الفرنسي الجنرال بينيه القائد العام للقوات الفرنسية وأركان حربه. يومها سلّم رئيس الجمهورية العلم اللبناني إلى الزعيم فؤاد شهاب قائد اللواء الخامس، فرفرف ولأول مرة فوق رؤوس الجنود اللبنانيين الذين كانوا يشكّلون هذه المجموعة...
بعد ذلك، أخذت الحكومة تبحث قضية تنظيم ملاك وزارة الدفاع الوطني. ثم كان اجتماع في صوفر بين السيد شاتينيو المندوب العام بالوكالة الفرنسية في الشرق والكولونيل أوليغه روجيه المندوب لدى الحكومة السورية وسعد الله الجابري ورياض الصلح وسليم تقلا، وتمّ توقيع البروتوكولات المتعلقة بتسليم دوائر الأمن العام لدى الحكومتين السورية واللبنانية في 7 تموز 1944».

 

فرنسا تُوقِف مفاوضات تسليم الجيش
بعد أيام من ذلك، وفي 13 تموز وصل إلى لبنان الرئيس السوري شكري القوتلي حيث استقبله الرئيس بشارة الخوري، وعقد معه محادثات حضرها رياض الصلح وموضوعها موقف البلدين من تسلّم الجيش والسعي لبدء مفاوضات الجلاء. في المقابل لم تلبث فرنسا أن أعلنت قطع الاتصالات الهادفة إلى استكمال تسليم القناصة وسائر الوحدات، ما لم تدخل حكومتا لبنان وسوريا في مفاوضات معها لتوقيع معاهدة.
تألفت في 11 كانون الثاني 1945 حكومة جديدة خَلَفت حكومة الرئيس رياض الصلح برئاسة عبد الحميد كرامي، وفي عهده تسلّم لبنان الجيش وبعض المصالح التي كانت ما تزال في يد الفرنسيين كما أسّست جامعة الدول العربية.
 

 يوم الجيش اللبناني
بعد نحو أسبوعين من تأليف الحكومة الجديدة، تصاعدت في البلاد وتيرة المطالبة بتسليم الجيش، وكان 29 كانون الثاني 1945 واحدًا من الأيام المجيدة في تاريخنا. فماذا حصل يومها؟
يروي منير تقي الدين أحداث ذلك النهار قائلًا: «كان يوم الاثنين الواقع فيه 29 كانون الثاني 1945 يوم الجيش اللبناني، فقد نزل الطلبة اللبنانيون إلى شوارع العاصمة بمجموعهم وأعلامهم وأناشيدهم الوطنية مطالبين بتسلّم الجيش».
استيقظت بيروت في الساعة الثامنة من صباح ذلك اليوم على أهازيج الطلبة وهتافاتهم، فإذا بالطلبة من جميع المعاهد العلمية يجتمعون في شارع بلس ويسيرون إلى القصر الجمهوري، حيث وقفوا هناك وأنشدوا النشيد اللبناني وهتفوا بحياة الجيش، فأطلّ عليهم وزير الخارجية هنري فرعون لأنّ الرئيس كان مريضًا، وقال لهم: «إنّ الحكومة ستطالب بالجيش ولن يهدأ لها بال حتى يعود ضباطنا وجنودنا إلينا».
ثم سار الطلاب في جموعهم إلى المجلس النيابي، فضاقت بهم ساحة المجلس على رحبها وبدأوا ينشدون أناشيدهم الحماسية، فإذا بصبري حمادة رئيس المجلس يطلّ عليهم ويقول: «يا طلاب اليوم ويا رجال الغد، أُحيّيكم وأرجو منكم قبل كل شيء أن تعودوا إلى دروسكم، وأن تحافظوا على الهدوء والسكينة، وأن تكون تظاهرتكم سلمية للغاية». وتابع الطلاب سيرهم إلى ساحة الشهداء حيث كانت تقوم السراي الحكومية، ووقفوا في تلك الساحة وراحوا ينشدون النشيد اللبناني، فأطل عليهم عبد الحميد كرامي رئيس الحكومة وألقى كلمة موجزة لا تخرج عن معنى بلاغ الحكومة الذي جاء فيه: «إنّ الحكومة اللبنانية تشكر سائر الأهلين الكرام، وفي طليعتهم طلاب المعاهد العلمية على عاطفتهم الوطنية النبيلة، وحماسهم الرائع في المطالبة بتسلّم الجيش. وفيما هي تعالج هذه القضية المهمة تطلب من الجميع الانصراف إلى مشاغلهم ودروسهم وإفساح المجال للحكومة للعمل في جو هادئ».
ويتابع تقي الدين سرد الوقائع، فيروي أنّ الطلاب توجّهوا إلى المفوضية المصرية ومن ثم المفوضية العراقية حيث أسمعوا أصواتهم لممثلي الدول العربية الشقيقة، وحوالى الظهر انصرفوا إلى بيوتهم.
 

الجبهة الدبلوماسية
 يروي الرئيس شمعون أنّ الحكومة الفرنسية المؤقتة آنذاك، ضغطت على الحكومة البريطانية، لتصفية القضايا المعلّقة بين البلدين ومن ضمنها قضية استقلال لبنان وسوريا. وهذا ما حمل وزير بريطانيا المفوّض في بيروت ودمشق على أن ينصح اللبنانيين والسوريين بوجوب الاتفاق مع فرنسا على أساس معاهدة يتفاوض عليها الطرفان. في ظل هذه الأجواء، كان على شمعون أن يغادر إلى لندن ليباشر نشاطه من هناك. ولم تلبث الحكومة السورية أن كلّفته بتمثيلها تمثيلًا غير رسمي بانتظار تعيين وزير سوري مفوّض في لندن.
غادر شمعون لبنان برًا إلى فلسطين، ومن ثم إلى مصر حيث قابل الملك فاروق الذي كلّفه أيضًا بالدفاع عن حقوق مصر في لندن، ليغادر من هناك بحرًا إلى بريطانيا.
شدّد شمعون خلال لقاءاته مع المسؤولين البريطانيين على الاستقلال التام للبنان وسوريا، في حين كانت الحكومة البريطانية تتبنّى موقفًا مزدوجًا، فهي تدعم استقلال البلدين لكنها تطالب لفرنسا بمركز ممتاز فيهما. في 20 أيلول 1944 عيّنت الولايات المتحدة الأميركية جورج وودسورث مبعوثًا فوق العادة ووزيرًا مفوضًا لدى حكومتي لبنان وسوريا، وفي اليوم التالي، اعترفت رسميًا باستقلال البلدين، هذا الاعتراف دعم موقف الدبلوماسية اللبنانية. ومع مطلع العام 1944، كانت قضية استقلال لبنان تشغل الصحف وفق ما يقول شمعون، وتلاقي اهتمامًا من الرأي العام البريطاني.
في 30 كانون الثاني 1945، تلقّى شمعون برقية من الحكومة اللبنانية تفيده أنّها سلّمت الحكومة الفرنسية مذكّرتين، تطالب إحداهما بتسلّم الجيش إنفاذًا للبروتوكول الموقّع في حزيران 1944، وتطالب الأخرى بتحويل المفوضية العليا الفرنسية في بيروت إلى مركز تمثيل دبلوماسي على غرار الدول الحليفة جميعها. في ذلك الوقت، كانت التظاهرات مستمرة في المدن اللبنانية والسورية مطالبة بتسلّم الجيش.
استمرّ توتّر العلاقات بين لبنان وفرنسا التي أعلنت في 2 شباط 1945 أنّها ستستمر في الاضطلاع بمهمات حفظ الأمن في لبنان وسوريا. في المقابل، طلب لبنان وساطة بريطانيا لتسوية الوضع وتسلّم الجيش. وعقد شمعون مؤتمرًا صحفيًا أوضح فيه موقف لبنان أمام الرأي العام البريطاني.
في 22 آذار 1945، انعقد مؤتمر القاهرة الذي وقّع المشاركون فيه «ميثاق جامعة الدول العربية»، ونصّت مادته الثانية على احترام كل دولة من الدول المشاركة في الجامعة، نظام الحكم القائم في دول الجامعة واعتباره حقًا من حقوق تلك الدولة، وتعهّد بعدم القيام بعمل يرمي إلى تغيير ذلك النظام فيها.
بعد أيام من إقرار ميثاق الجامعة، تبلّغت وزارة الخارجية من المفوضية الأميركية في بيروت دعوة للاشتراك في مؤتمر سان فرنسيسكو لتأسيس «منظمة الأمم المتحدة». وكان مؤتمر يالطا اتخذ قرارًا يقضي بدعوة الدول التي أعلنت الحرب على المحور وحدها إلى سان فرنسيسكو. فاجتمع المجلس النيابي اللبناني وصوّت بالإجماع على مشروع قانون عرضته الحكومة بإعلان الحرب على ألمانيا واليابان.
كان هدف لبنان من إعلان الحرب على المحور مزدوجًا، فمن جهةٍ، أراد اللبنانيون التأكيد لفرنسا أنّهم يتّخذون قراراتهم بأنفسهم، من دون أن تأخذها بالنيابة عنهم أي دولة أخرى. ومن جهة أخرى، أراد لبنان المشاركة في مؤتمر سان فرنسيسكو مؤكدًا حضوره على الساحة الدولية كدولة مستقلة ذات سيادة. غير أنّ الفرنسيين لم يخفوا استياءهم من دعوة لبنان وسوريا إلى سان فرنسيسكو، بعد أن كانوا سعوا لإغفالهما منها بحجة أنّ الانتداب ما زال قائمًا. على أنّ يقظة المسؤولين اللبنانيين وتدخّل الدول العربية الشقيقة أثمرا إيجابيًا، وسافر الوفد اللبناني إلى الولايات المتحدة حيث شارك في صياغة ميثاق الأمم المتحدة. كان لكلمة شارل مالك في المؤتمر بالإنكليزية وقع كبير، ما أغضب الفرنسيين من جديد.
انتساب لبنان إلى الأمم المتحدة كان حجة دامغة في يده لرفض كلّ وصاية عليه، وكلّ معاهدة لا يريد توقيعها.
انتهت الحرب العالمية الثانية في 8 أيار 1945 «وكادت الاحتفالات بانتصارات الحلفاء في أوروبا تنقلب إلى حوادث دامية. فقد بدا منذ اليوم الأول أنّ هذه الاحتفالات التي استمرت ثلاثة أيام لم تكن تعبيرًا عفويًا عن الفرح بانتهاء الحرب بالنصر، بل برنامجًا مصمّمًا على الاستفزاز، كما لو أنّ النصر قد أُحرز ضد لبنان واستقلاله»، كما يقول شمعون، الذي يضيف: «الأعلام الفرنسية منتشرة في كل مكان، وفي كل مكان صيحات حقد ضد اللبنانيين...».
ففي حين أُقيمت الزينة في مختلف أنحاء البلاد وقامت التظاهرات ابتهاجًا، اندسّ بعض الموالين لفرنسا بين المتظاهرين وراحوا يهتفون لديغول...
من جهة أخرى، وصلت للحكومة أخبار استقدام فرنسا لثمانيمئة جندي سنغالي إلى المشرق على متن الباخرة «جان دارك»، فقدم وزير الخارجية هنري فرعون مذكرة شديدة اللهجة إلى المندوبية الفرنسية تطالب باحترام سيادة لبنان والتقاليد الدولية. توالت بعد ذلك الأحداث ومنها قدوم سفينة حربية فرنسية جديدة في 17 أيار، فضلًا عن عودة الجنرال بينيه إلى بيروت بعد قضائه مدة طويلة في استشارة حكومته.
على الأثر قام وزير الخارجية بزيارة إلى دمشق لتنسيق مواقف البلدين، واعتبر الطرفان أنّ إنزال الجنود الفرنسيين يشكّل انتقاصًا من سيادة البلدين، وردّ الفرنسيون بإرسال مذكرة إلى الحكومتين ورد فيها: «.. وبهذه الروح ومن دون أيّ تحفّظ بشأن استقلال سوريا ولبنان، ترغب الحكومة الفرنسية أن يؤمّن في ما يتصل بها صيانة المصالح الجوهرية التي تحتفظ بها فرنسا في سوريا ولبنان. إنّ هذه المصالح على ثلاثة أنواع، ثقافية واقتصادية واستراتيجية...».
شكّل استقدام الجنود والمطالبة بالمعاهدة من قبل الفرنسيين، شرارة ثورة غضب اجتاحت لبنان وسوريا على المستويين الرسمي والشعبي، وسارت الأحداث في منحى تصاعدي.
في شتورة، عُقِد اجتماع بين وفدين لبناني وسوري ضم رئيسي جمهوريتي البلدين ورئيس حكومة لبنان ووزراء من البلدين. واتّفق الجانبان على إرسال مذكرات رسمية إلى الدول جميعها التي لها علاقة بالموضوع. على الساحة العالمية وخلال اجتماع ممثلي الدول الخمس (في 17 أيار 1945) حول قضية الانتدابات والوصايات، كان للكومندور هارولد ستاس تصريح قال فيه: «يجب ألّا ينظر إلى أيّ دولة ممثّلة في هذا المؤتمر كدولة يمكن تطبيق نظام الوصاية عليها...»، وأوضح كلامه قائلًا: «هذا الكلام يتعلق بلبنان وسوريا».
عربيًا، تضامن مع لبنان وسوريا العراق ومصر. أما محليًا، فقد عادت الاضطرابات والتظاهرات معلنة تمسّك اللبنانيين باستقلالهم وسيادة بلدهم كاملين.
فقد شهدت شوارع بيروت تظاهرات الطلاب الذين جابوا الشوارع حاملين العلم اللبناني منشدين «كلنا للوطن...» وشاركت النساء في التظاهرات أيضًا. وقدّم وفد جامعة سيدات لبنان مذكرة لرئيس الحكومة ووزير الخارجية يدعمن فيها الموقف اللبناني. أمّا نقابة المحامين فقد اجتمعت (24 أيار 1945) وأعلنت إضرابًا لمدة ثلاثة أيام تأييدًا للحكومة في الأزمة الحاضرة.
 
لا تفاوض تحت وطأة الضغوط
طلبت الحكومة اللبنانية بالتنسيق مع الحكومة السورية انعقاد مجلس الجامعة العربية، وبناءً على طلب وزير الخارجية هنري فرعون عقد المجلس النيابي في 23 أيار 1945 جلسة تاريخية ألقى خلالها فرعون كلمة جاء فيها: «يؤسفني أيّها السادة أن أصرّح لكم أنّنا إذا كنّا بالأمس نستند إلى سبب واحد لعدم الدخول في المفاوضات، فقد أصبح لدينا اليوم سببان لاتخاذ هذا الموقف السلبي بعد وصول المذكرة الفرنسية، لأنها قد اشتملت على مقترحات صيغت بروحٍ لا تتلاءم مع سيادة لبنان واستقلاله.
لقد كانت الحكومة اللبنانية مستعدة للدخول في مفاوضات بإخلاصٍ كلّي، ولكنّها اليوم بعد قدوم هذه القوّات الجديدة وبعد وصول المقترحات الفرنسية، لا تفاوض تحت الضغط والتهديد بقوّة السلاح، ولن تفاوض على أسس تمسّ سيادة لبنان، وهي تلقي كل تبعة تنشأ عن هذه الحالة على السلطات الفرنسية المسؤولة.
لقد أبلغنا ممثل فرنسا من جديد احتجاجنا الشديد على هذه الأعمال، كما بلّغنا ممثلي الدول الصديقة والحليفة والدول العربية الشقيقة وجهة نظرنا التي تشرفت بعرضها عليكم...».
 

أول ميزانية للجيش
بعد ذلك، كان الكلام لرياض الصلح الذي قال: «لا يسعني بعد أن استمعت إلى بيان وزير الخارجية الغيّاض، إلاّ أن أتعدّى تأييد الحكومة إلى شكرها، وأُعلن أنّنا وراءها صف واحد ويد واحدة نسير إلى النهاية.
وطلب رئيس مجلس النواب التصويت على موازنة الدفاع الوطني البالغة خمسة ملايين ليرة لإنشاء الجيش، فإذا بالنواب والحضور يقفون كلّهم وينشدون بحماسة النشيد الوطني اللبناني، ثم صوّت النواب على اعتمادات الجيش وقوفًا...

 

قصف دمشق وسقوط قتلى وجرحى بالمئات
في تلك الأثناء، كانت دمشق تعيش في أجواء مكفهرة تنذر بأحداثٍ خطيرة. ولم تتأخر تلك الأحداث، إذ استغل الفرنسيون حادثة هرب أحد المجندين الوطنيين من صفوف الجيش الفرنسي، واندفاعه إلى جمعٍ من السوريين المدنيين الذين حاولوا حمايته، وبدأوا ضرب دمشق بالقنابل وقصفها من الطائرات الحربية لعدة أيام، ما أدى إلى سقوط مئات القتلى والجرحى.
تحرّك اللبنانيون حكومة وشعبًا، فحصل إضراب استمر خمسة أيام، وأرسل لبنان مذكرة احتجاج إلى فرنسا واجتمع وزير الخارجية بوزير خارجية الولايات المتحدة، كما قدّمت الحكومة مذكرة إلى جامعة الدول العربية التي دعي مجلسها إلى الانعقاد، بينما ساندت الحكومة المصرية لبنان وسوريا، وأصدرت الخارجية البريطانية بيانًا ندّدت فيه بالحوادث التي حصلت في الشرق، وسببها إنزال جنود فرنسيين قبيل المباشرة بالمفاوضات مع لبنان وسوريا». وأضاف البيان وفق ما جاء في مذكرات شمعون: «إنّ الحكومة البريطانية تراقب عن كثب تطوُّر الحالة، وأنّها على صلة وثيقة بالحكومة الأميركية لاتخاذ التدابير اللازمة...».
كما أرسلت الولايات المتحدة مذكرة شديدة اللّهجة إلى فرنسا، طالبتها فيها بمراجعة حساباتها تجاه لبنان وسوريا. أماّ مجلس الجامعة العربية، فاتّخذ قرارات تؤيّد استقلال لبنان وسوريا، وتدعو إلى جلاء الجيوش الأجنبية جميعها عن أراضيهما وتسليم القوّات المسلّحة والمصالح لحكومتيهما.
 

استئناف المفاوضات
 من جهتها، أنزلت بريطانيا الجيش التاسع إلى الشوارع، فتوقّف القتال في دمشق واضطرت فرنسا إلى التراجع عن مواقفها. ونتيجة للمساعي المكثفة التي أظهر خلالها ديغول ليونة وحرصًا على الخروج من عزلته، صدر عن المفوضية الفرنسية في 8 تموز 1945 البلاغ الآتي: «إنّ الحكومة الفرنسية المؤقتة، رغبةً منها في تلبية طلب حكومتي سوريا ولبنان بشأن تسليم الوحدات العسكرية المؤلفة من أبناء البلدَيْن وتمنّيًا بأن تظهر للحكومتين السورية واللبنانية عزمها على الوفاق بتلبية طلبهما تلبية تامة في ما يختص بهذه الوحدات, وحيث أنّه بالنظر إلى انتهاء الحرب في أوروبا, لم يبقَ أي مانع يحول دون رغبة لبنان وسوريا المشروعة في تأليف جيشَين وطنيين, وإظهارًا لاغتباطها بأن ترى لبنان وسوريــا متمتعَـين بميزات السيادة جميعها، ليتمكّنا من القيام بالدور المترتّب عليهما بين الأمـم المتحدة, تعلـن أنّ هذه الجيوش قــد انتقلــت إلـى حكومتَي سوريـا ولبنان وفق صيغ تحدد في خلال 45 يومًا على الأكثر».
وهكذا ألّفت الحكومات الثلاث صاحبة العلاقة لجانًا لتسلّم الجيش، وعقدت هذه اللجان جلساتها في شتورة من 12 تموز إلى 1 آب 1945.

 
لبنان يستكمل تسلّم المصالح والمنشآت والسراي الكبير والسراي الصغير
 في 22 آب 1945، تشكّلت حكومة جديدة برئاسة سامي الصلح بعد استقالة حكومة عبد الحميد كرامي. وفي عهد هذه الحكومة الجديدة، صدّق المجلس النيابي ميثاق الأمم المتحدة، وانتقلت المصالح جميعها التي كانت لا تزال في عهد السلطات الفرنسية إلى السلطات اللبنانية، كما تمّ توقيع اتفاقية جلاء الجيوش الأجنبية عن لبنان.
الخطوة الأولى التي أقدم عليها رئيس الوزراء الجديد كانت استدعاء بينيه إلى السراي قبل ظهر 28 آب، والبحث معه في استئناف المفاوضات في الشؤون المعلّقة بين الجانبين اللبناني والفرنسي. كما طلب من ممثل فرنسا رسميًا أن تتخلّى المندوبية الفرنسية عن الأبنية الأميرية جميعها التي كانت تشغلها، وفي طليعتها السراي الكبير الذي يحتاج إليه لبنان بصورةٍ عاجلة ليكون مقرًا جامعًا لدوائر الدولة...
ويروي منير تقي الدين قصة تسمية السراي الكبير قائلًا: «لقد ساد اعتقاد اللبنانيين طوال خمسة وعشرين عامًا من الانتداب، أنّ الحكم الحقيقي كان يتمركز في ذلك السراي. فلقّبوه بالكبير، وسمّوا مركز الحكومة بالسراي الصغير...».
بين أيلول وكانون الأول من العام 1945، تسلّمت الحكومة اللبنانية من الفرنسيين كل المصالح التي كانت ما تزال بعهدتهم ما خلا السراي الكبير والإذاعة والتلفون.


 15 مليونًا ثمن الإذاعة والتلفون
ألحّت الحكومة في تصفية الإذاعة والتلفون واستلامهما. فكان الجانب الفرنسي يراوغ مبديًا عدة أعذار، لكن الفرنسيين أعلنوا في نهاية الأمرْ أنّهم مستعدون لتسليم المصلحتين لقاء ثمن باهظ. فقد طلبوا 15 مليون ليرة مقابل الإذاعة (راديو الشرق) والتلفون، وقبلت الحكومة بدفع المبلغ، لكنّ التسليم لم يتمّ سريعًا إلى أن حصل في 22 آذار 1946. أما السراي الكبير فتسلّمته الدولة في أول نيسان 1946.
 
آخر المعارك الجلاء
 كانت فرنسا تدّعي أنّ الانتداب وإن زال فعليًا فهو باقٍ قانونيًا وفنيًا، إذ يجب أن تعطي جمعية الأمم أو هيئة دولية أخرى تقوم مقامها «براءة ذمة» للدولة المنتدبة، أي أن تحلّها من الانتداب...
وبعد تصديق المجلس النيابي اللبناني في 26 حزيران 1945 لميثاق الأمم المتحدة، أصبح هذا النزاع الشكلي بحكم المنتهي، فقد نصّت المادة 78 على ما يلي: «لن يطبّق نظام الوصاية على البلاد التي أصبحت عضوًا في الأمم المتحدة، إذ يجب أن تقوم العلاقات بينها وبين الدول الباقية على احترام مبدأ المساواة في السيادة».
لكن بالنسبة إلى الفرنسيين، لم يظهر أنّهم في وارد إنهاء النزاع وتحقيق الجلاء كما يُفترض أو كما يتمنى اللبنانيون، وهكذا كان لا بد من معركة أخرى بعد...
إزاء استمرار المماطلة الفرنسية في شأن الجلاء، قام الرئيس بشارة الخوري يرافقه الرئيس سامي الصلح والوزير حميد فرنجية بزيارةٍ إلى سوريا، حيث اجتمع الوفد اللبناني بالرئيس السوري شكري القوتلي، وتناول الاجتماع بشكلٍ خاص مسألة جلاء الجيوش الأجنبية عن أراضي البلدين، وطالب الرئيسان فرنسا وبريطانيا بتحديد موعد انسحاب قواتهما معًا.
أبلغ الوزير فرنجية الجنرال بينيه نتيجة المباحثات اللبنانية - السورية وطلب منه جوابًا سريعًا، فسافر الأخير لاستشارة حكومته، غير أنّ الردّ كان في اتفاق أعلنتــه حكومتـا فرنسـا وبريطانيــا، وهـو اتفاق 13 كانون الأول 1945. وجاء في هذا الاتفاق «إنّ الدولتين قرّرتا أن تـدرســا مـعًــا شروط تجميع قواتهما تجميعًا منظّمًا في هذه المنطقة وجلاء تلك القوّات عنها. وسيجتمع الخبراء العسكريون البريطانيون والفرنسيون لهذه الغاية في 21 كانون الأول سنة 1945، وتكون إحدى مهماتهم الأساسية تحديد تاريخ قريب جدًا للشّروع في أولى عمليات الجلاء...».
الاتفاق الذي تمّ بمعزلٍ عن لبنان وسوريا أثار احتجاجات في البلدين. لكنّ بريطانيا وفرنسا تابعتا مفاوضاتهما في هذا الشأن من دون الالتفات إلى وجهة النظر اللبنانية والسورية. وهكذا قرّر البلَدان رفع القضية إلى الأمم المتحدة. فشكّل لبنان بقرارٍ من مجلس الوزراء وفدًا رفيع المسـتــوى، شــامـل التمثيـل، برئاسـة وزير الخارجيـة حميـد فرنجية وبمشاركة رياض الصلح وعضوية يوسف سالم وزير الداخلية وكميل شمعون الوزير المفوض في لندن. وشكّلت سوريا وفدًا مماثلًا برئاسة فارس الخوري. وصل الوفدان إلى لندن في 6 كانون الثاني 1946، حيث كانت ستنعقد الجمعية العمومية الأولى للأمم المتحدة، وقاما بعدة اتصالات قبل أن يرفعا شكوى إلى مجلس الأمن في 4 شباط. انتهت مناقشة الشكوى في 17 من الشهر نفسه إلى اقتراح أميركي على المجلس يعرب فيه عن ثقته بأنّ القوّات البريطانية والفرنسية ستنسحب من سوريا ولبنان في أقرب وقت، على أن تجري من دون تأخر لهذه الغاية مفاوضات مستقلة...
سقط القرارٍ بعد أن استعمل الوفد السوفياتي ضده حق النقض (الفيتو) لرغبته بقرار أوضح يوحي بسحب فرنسا وبريطانيا قواتهما فورًا ويصف المفاوضات بأنّها ستكون تكتيكية.
بعد عدة اتصالات، وافقت الحكومة اللبنانية على انتقال المفاوضات من لندن إلى باريس، بعد أن قبل الفرنسيون بحصر المفاوضات بالجلاء فقط، كما وافقت الحكومة السورية بأن يمثلها لبنان في محادثات باريس، وكان ذلك في 24 شباط 1946.
بدأت المفاوضات وعملت الدبلوماسية اللبنانية بنشاطٍ وحكمة إلى أن وصلـت الأمــور إلــى مراحلهــا النهائيــة.
جرت عملية الجلاء فعليًا في 28 نيسان 1946، حين غادرت الباخرة شامبوليون مرفأ بيروت وعلى متنها 1500 جندي، تنفيذًا لجزءٍ من منهاج الجلاء.
توالت بعدها مراحل الجلاء إلى أن كان جلاء آخر فصيل في 31 كانون الأول 1946.