نافذة

تحسّسْ بأظافرك غبار الشرف
إعداد: بقلم: روني ألفا

تثاءبت قارة آسيا قبل أن تنهض من نومها الجيولوجي. خرجت من الأطلس برهة قصيرة وتوجّهت صوب شاطئ البحر الأبيض المتوسط تتفقّد أحد بلدانها الصغيرة. لدى آسيا ضعف مزمن على فلذة كبدها لبنان. وجدته في الصباح الباكر مستلقيًا من دون غطاء. خافت عليه من هدير البحر وغدرات الزمان. ألبسته بزة الجيش. اطمأنت أنه بأمانٍ. عادت إلى الأطلس بسلام.

يستيقظ لبنان كل يوم متفقدًا بزته المرقطة. يتحسس لونها الترابي. كلما حكّها بأصابعه علق بين أظافره غبار شرف. بلد عن بكرة أبيه يلتحف تراب الوطن على شكل سترة وبنطال. لم يحدث أبدًا أن لبس لبنان زيًا على مقاسه. كل الثياب التي حاول ارتداءها في تاريخه كانت بحاجةٍ إلى توسعة أو تضييق أو تقصير زافٍ وكُمٍ إلا بزة الجيش ناسبته «حفر وتنزيل».

تطمئن آسيا لصغيرها في الجغرافيا. كبيرها وأعظمها في التاريخ. الجيش من «شهابه» إلى «مغواره» يسهر. عين مغمضة على النوم الحذر وأخرى مفتوحة على السهر. نحن في بيوتنا الصغيرة أيضًا ساهرون ومصابيحنا مشتعلة ننتظر عودتك أيها الوطن الرائع.

في عيده لا ينتظر الجيش الهدايا. يخاف أن يميع الفرح صلابته. الجيش لا يفرح كبقية الناس. جراحه الساخنة هداياه. يزورها بين الحين والآخر ليبقى على جهوزية. جراح الجندي وقود الاستقرار. مع انبلاج كل صباح يهبط ليل على جرح جندي. نحن لا نعرفهم. الثقوب الصغيرة والكبيرة في أجسادهم تذاكر هويتهم. نحن ننام في غرفنا المغلقة. هم يسهرون في جراحهم المفتوحة.

آسيا تعتز بلبنان. لم يتسنّ لها فتح حساب على تويتر لتجاهر باعتزازها تغريدًا. حسابات أهل السياسة وتغريداتهم مكتظة هناك. تجاهر قارة آسيا بحب لبنان أمام عائلتها الأطلسية. كيف لا وفيه خوذ بألف قيراط وأحذية نعالها أغلى من إيوان كسرى؟ إذا ضيعتم قارة آسيا ترونها تخبر أميركا وأوروبا وأفريقيا وأوستراليا والقطبَين عن بلدي. جيش للناس في لبنان يحتفل بعيد تأسيسه. في كل دول العالم تحتفل الجيوش بعيد تأسيسها إلا في لبنان يحتفل الشعب بعيد تأسيس جيشه.

شوهدت آسيا ترسم علامتَي نصر على يديها الاثنتَين. لم يسبق لقارة أن رسمت سبعتَين رافعةً يديها إلى العلى. عندما سئلت عن سبب فخرها قالت: سبع وسبعون سنة! سبع وسبعون سنة! عجبًا كيف لا يشيخ الجيش؟ كيف لا يصيب قلبه الوهن؟ كيف لا تضمر عضلاته؟ كيف لا يشح نظره؟ كيف لا ترتجف أطرافه؟ كيف لا تتجعد بشرته؟ قلب ينبض من صرخات شعبه لا يتعب. عضلات تنمو على آخر صخرة حدودية لا تضمر. عين على «بحره بره درة الشرقَين» لا تغمض. أطراف تآخت مع البتر لا ترتجف. بشرة أخضعت القارس والقيظ لا تتجعد. سبع وسبعون سنة. يئس اليأس من محاولاته إحباط العسكر. أحبطوا محاولاته وأصابوه بالإحباط.

ينام لبنان ملء جفونه. الجيش لا يرفّ له جفن. يسهر لبنان. يسهر الجيش على سهره. إذا بكى بكى معه وإذا ضحك ضحك. كل البيوت في لبنان تلبس «البيريه». كل حقول القمح أرسلت سنابلها لتحيط بأنجم الضباط. هل رأيتم يومًا حقلًا من القمح من دون سنابله؟ قمح لبنان تنمو سنابله على أكتاف العسكريين. على هذه التلال المصنوعة من لحم وعظم تنمو سنابل فيها خبز كثير. لا أزمة وطن مع سنابل بهذا الطعم. شرف تضحية ووفاء سنابل تنحني للريح ولا تنكسر. خبز السلم الأهلي وأرغفة استقرار وأمان.