- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
لم تأتِ «عملية الرضوان» أو صفقة تبادل الأسرى بين المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله وإسرائيل، كحدث عادي عابر يجري في كل يوم ببساطة وسلاسة، بل جاءت كعملية ولادة قيصرية صعبة وخطرة حتى اللحظات الأخيرة من تنفيذها. ولم يكن الكثيرون في لبنان وإسرائيل ليصدقوا أن التبادل سيحصل، خصوصاً وأنه من بين الذين يفترض إطلاقهم من الطرف الإسرائيلي عميد الأسرى اللبنانيين المناضل سمير القنطار المتهم بأن يديه ملوثتان بالدم الإسرائيلي بحسب تعبير الجهات الرسمية الإسرائيلية، ما يشكل تحدياً واستفزازاً للعنجهية الصهيونية، وكسراً للثوابت المعلنة بأن إسرائيل لا تفرج عن الذين صدر بحقهم حكم قضائي مبرم بالسجن لمدد زمنية طويلة جداً، هذا ناهيك عن أسرى عملية الوعد الصادق، بالاضافة الى جثامين أعداد كبيرة من اللبنانيين والفلسطينيين والعرب الذين سبق واستشهدوا منذ عقود من الزمن.
محطة تاريخية بارزة
لقد جاءت عملية التبادل كحمطة تاريخية هامة وبارزة في حياة الوطن وسيادته واستقلاله وحريته.
إن التبادل لم يأتِ من ضمن أجواء من الصفاء والتفاهم بين متفقين، بل جاء في أجواء من الصراع الطاحن في المجالات المعنوية والأمنية والعسكرية وصراع الإرادات شتى، بين مجموعة محدودة العدد والعدة من المقاتلين اللبنانيين الأشاوس، وبين أقوى جيش في الشرق الأوسط من حيث التسليح والتغطية والدعم السياسي والدبلوماسي والأمني والعسكري. وبالتالي فالعملية برمتها شكّلت انتزاعاً عزيزاً للحرية من غاصبيها، كما يعني أنها أضافت مدماكاً آخر على مداميك حرية لبنان وافتخاره وعزته، وشكّلت اعترفاً إسرائيلياً فاضحاً بالعجز أمام المقاومة تكتيكياً واستراتيجياً وذلك عندما أذعنت لدفع الثمن المرتفع، مع علمها بما سيوفّره هذا الدفع للمقاومة من زيادة في رصيدها الشعبي والمعنوي وما يمكن أن ينعكس سلباً على مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي برمته. وفي هذا السياق كتب آري شافيط في «هآرتس» ما يأتي: «إليكم نتائج الحرب بين إسرائيل وحزب الله: الحزب يستعيد قاتلاً حياً، بينما تعيد إسرائيل الى حدودها جنديين ميتين. ضحّت بأرواح 160 جندياً ومواطناً من أجلهما». وأضاف: «حزب الله يحظى بانتصار رمزي، بينما تمرّ إسرائيل في ذروة أزمة قيم. حزب الله يحقق في لبنان سيطرة سياسية شبه كاملة، بينما تتخبّط إسرائيل في فوضى سياسية منفلتة. حزب الله يسلح نفسه بـ40 ألف صاروخ تهدد أراضينا، بينما تبقى إسرائيل من دون رد ملائم على ذلك... حزب الله يضاعف منظومته القتالية ويبني أجهزة نارية شمال الليطاني وجنوبه، سوف تلزم جيشنا احتلال نصف لبنان في المجابهة المقبلة، بينما تصاب إسرائيل بالشلل والإرباك». ويختم شافيط بالقول: «حزب الله يطالب ايضاً بمزارع شبعا من خلال شعوره بالقوة، بينما تتعثر إسرائيل في طريقها نحو الانسحاب المقبل. عامان مرّا على تحرش ميليشيات صغيرة بدولة إقليمية عظمى. واليوم تمرّ هذه الميليشيات في حالة تعاظم غير مسبوقة، بينما تغرق الدولة العظمى الإقليمية في البلبلة والحيرة والاغلال وغموض المشاعر والأحاسيس».
لقد أكدت المقاومة اللبنانية نفسها مراراً وتكراراً وربحت معركة شرعيتها بدماء شهدائها وسائر التضحيات الانسانية والمادية وهي لم تكن بالتالي بحاجة الى اعتراف هذه الدولة الاستعمارية أو تلك في عالم اختلطت فيه المعايير والمقاييس واختلط الحق بالباطل والصالح بالطالح، فأصبحت المقاومة الشريفة إرهاباً بينما إرهاب إسرائيل منذ نحو ستين عاماً لا ينظر اليه في أروقة الأمم المتحدة أو الدول الكبرى، إلا كأعمال عادية للدفاع عن النفس!!
قبل المقاومة كانت الفكرة السائدة أن العرب لن يستطيعوا الانتصار مطلقاً على إسرائيل، وحتى لو قُدر لهم أن ينتصروا ذات مرة فإن هذا الانتصار سوف يتحوّل الى هزيمة، لكن المقاومة المدعومة من الجيش الوطني والمجتمع الأهلي أثبتت تكراراً أن هناك إمكاناً للانتصار على العدو بسلاح الإخلاص والتفاني ونكران الذات وتجاوز الحساسيات والحسابات الضيقة والفئوية والمذهبية والارتفاع الى مستوى الشهادة الحقيقية ومستوى الرشد السياسي والفكري والعملاني والوطني.
تداعيات صفقة التبادل
في ما يعكس الإحساس بالذل والشعور بالهزيمة قال رئيس وزراء العدو إيهود أولمرت «ليست لدينا أية أوهام. ستعرف إسرائيل حزناً لا يوازيه سوى الاحساس بالذل نظراً الى الاحتفالات التي ستجري في الطرف الآخر». وما خلا الشعور الإسرائيلي بالذل والخسارة من جراء عملية التبادل في الشكل والمضمون، فإن العملية بحد ذاتها تنطوي على أبعاد وتداعيات استراتيجية يقدر المعلقون الإسرائيليون أن إسرائيل ستدفع ثمنها في المستقبل. وفي هذا السياق حذّرت قيادات ومرجعيات أمنية وإعلامية صهيونية من تداعيات الصفقة خصوصاً على صعيد تآكل قوة الردع الإسرائيلية وتعزيز قوة المقاومة ومنطقها ومفهومها.
وهكذا نقلت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية عن وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق موشيه آرنس تحذيره من أن «أحد أخطر تداعيات الصفقة سيكون إحداث مزيد من التآكل في قوة الردع الإسرائيلية التي عملت إسرائيل على مراكمتها منذ انتهاء حرب لبنان الأخيرة العام 2006». واعتبر أن الصفقة «تحمل رسالة الى أعداء إسرائيل مفادها أن هذه الدولة من الممكن ابتزازها وتركيعها». أما رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية (الموساد) مئير داغان فحذّر من أن صفقة التبادل «سيكون لها تداعيات بالغة الخطورة على الوضع الاستراتيجي الإسرائيلي وستزداد قدرة أعدائها على ابتزازها». وأردف يقول: إن نتائج الصفقة تدل على أن حرب لبنان الأخيرة قد أسفرت عن عكس النتائج التي رغبت إسرائيل في التوصل اليها لا سيما إضعاف حزب الله عسكرياً وسياسياً. واعتبر عاموس هارنيل المعلّق العسكري في «هآرتس» أن الصفقة ستلحق الضرر بصدقية الخطاب الصادر عن قادة الحكومات الإسرائيلية، بحيث لن يتعامل أعداء إسرائيل بعد الآن بجدية مع هذا الخطاب. وذكّر بأن أولمرت قال في أثناء الحرب إن إسرائيل «لن تخضع لقوى الإرهاب ولن توافق على إجراء مفاوضات بشأن استعادة الجنديين الإسرائيليين. وخلص هارنيل الى القول «إن الصفقة تؤكد للعالم العربي إن قوة إسرائيل محدودة على الرغم من تفوقها النوعي والعسكري في حين أنها من ناحية أخرى ستؤكد صدقية حزب الله».
أخيراً لا بد من التنويه بأن عملية استعادة حرية الأسرى وجثامين الشهداء إنما تشكّل انتصاراً سيادياً جديداً ليس للمقاومة البطلة وحسب وإنما لكل لبنان من أقصاه الى أقصاه، وهي شكّلت بالقول والعمل فرصة جديدة للتعبير عن هوية هذا الوطن العزيز بجيشه ومقاوميه ووحدة قياداته. فالوطن من دون مقاومة كالجسم من دون مناعة والوطن من دون انتصارات ومواقف عزّ يتحول الى منطقة مهملة في زوايا التاريخ لا تلبث أن تعشش فيها الهوام والحشرات المؤذية.