وجهة نظر

تدمير الذاكرة: «ما بين المجرى والمغارة انبثقت الحضارة»
إعداد: جورج علم

مثل يونانيّ قديم يرمز إلى الإنسان الأول الذي جاور الأنهر، والينابيع، ومجاري المياه حيث مأواه جوف صخر، أو مغارة تقيه قرّ الصيف، وزمهرير الشتاء، وتوفّر له قدرًا من الطمأنينة، بعيدًا من الحيوانات المفترسة، نظرًا إلى مسالكها الصعبة.

اللبنة الأولى
شكّلت هذه البيئة البدائيّة اللبنة الأولى في تاريخ الحضارة، حيث تنوّعت الأساليب، والسلوكيات، والعادات، والتقاليد بين تلك الجماعات التي تزاوجت وتكاثرت وتحاربت وتصالحت, وصعدت سلّم الارتقاء من العصر الحجري إلى العصر الخشبي، إلى البرونزي، إلى عصور المعرفة التي توالت وتطوّرت مع تطور اللغات والألسن، نحو بحور العلوم، والمعارف، والآداب... واحتضنت المغارة التفاعل الاجتماعي من بداياته وبدائياته، وصولاً إلى الترقّي والارتقاء إلى مصاف الحياة العصريّة، والمعاصرة. واحتلت المكانة المرموقة في سرد التفاعل الحضاري، فكانت دائمًا المكان، والمنطلق، من مغارة الإنسان الأنيوليتي الأول، إلى مغارة آلهة الحب، ادونيس وعشتروت إلى مغارة بيت لحم، إلى مغارة جعيتا الموصوفة بإحدى عجائب الدنيا. وما بين المجرى والمغارة، وضعت الحضارة البشريّة مولودها الأول: رسوم، وأشكال، ورموز على الجدران، منها انطلق نهر التاريخ كشاهد على حركات الشعوب خلال عصور انقضت، وأقفلت عليها الأبواب الدهريّة.


التصنيف.. والتوصيف
يتّفق كبار المؤرخين على ترتيب الأثر البشري ضمن مجموعات خمس:
- الآثار التي تعكس صراع البقاء والاستمرار، ومحورها الأدوات التي كانت تستخدم للدفاع عن النفس.
- المجموعات التي تعكس طبيعة الحياة اليوميّة، أدوات الأكل، والشرب، والمنامة... والتي تؤرخ عصورًا، وأزمنة غابرة، وتعكس سلوكيات التقدّم، والترقّي في مدارج التطوّر.
- الفنون، من خطوط في البدايات، إلى رسوم، ورموز، إلى ريشة، ولون، ولوحة، وآلة موسيقيّة...
- التطور الاجتماعي، من الفرد إلى العائلة إلى العشيرة، والقبيلة، والجماعة... وصولًا إلى الدول، والكيانات، والأنظمة.
- التطوّر الثقافي من الحرف المسماري، إلى اللغة، فالكتابة، فالتأليف، فنقل المعرفة.
ومنذ قيام الثورة الصناعية في أوروبا، وفتح الأبواب وسيعة أمام صروح العلم والجامعات، والكليّات، والمدارس، بدأت مراكز الأبحاث الغربيّة تعتني بتطور الجنس البشري، من المغاور حتى المدنيّة الحديثة بكامل إيجابياتها وتداعياتها، وانطلقت البعثات العلميّة المتخصصة في كلّ اتجاه، خصوصًا في منطقة الشرق الأوسط، تقوم بأعمال التنقيب، وتجري الأبحاث، وتعدّ الدراسات، بدءًا من جمجمة الإنسان الأول، إلى تطوّر الهيكل العظمي، إلى البحث في أسرار الخلق والوجود.
ومع بدايات القرن التاسع عشر، ظهرت ثنائيّة: «المتحف والمختبر»، في الشرق متاحف، كما في الغرب، مع فارق أن الباحث الغربي يتمتع بكامل الحريّة في إخضاع ما يختار من المتحف إلى تجاربه وأبحاثه، مع استثناءات محدودة، في حين أنّ المتحف شبه مقدّس في معشر الحضارة الشرقيّة، ربما انسجامًا مع خصوصيّة المجتمعات المحافظة، وتنوّعها الطائفي، والمذهبي، والفئوي، أو احترامًا لقواعد اجتماعيّة صارمة، أو للميل الفطري نحو مجالات واهتمامات علميّة وثقافيّة أخرى.
شكّلت بيروت وجامعاتها الاستثناء، ففتحت الأبواب وسيعة أمام مراكز الأبحاث والدراسات، والطلاب، وأهل الاختصاص، وتخرّج علماء، وأساتذة على مكانة مرموقة من المعرفة والخبرة والاكتشاف، ولكن كانت صروح الغرب جاذًبا لمعظم هذه الكفاءات والمهارات، نظرًا إلى حجم المغريات ونوعيتها من جهة، وللظروف الأمنيّة، والاقتصاديّة والاجتماعيّة الصعبة التي كانت سائدة آنذاك في الشرق من جهة أخرى، حتى أصبح المثل المتوارث جيلًا بعد جيل خير عنوان لتلك الحقبة: «السلطان شاطر بتطبيق الفرمان... بس مش شاطر باحترام الإنسان؟!».

 

منظّمات.. ومرجعيات دوليّة
سجّل القرن العشرون ثورة ثقافيّة، ولم تعد الآثار مجرّد شواهد على حقبات تاريخيّة متنوعة، ولا كنوزًا في متاحف مصانة ومحروسة بأجهزة، وبأحدث التقنيات، بل تحوّلت إلى ديناميّة عالميّة يتفاعل فيها البعد التاريخي، مع الثقافي، مع العلمي، وتتداخل فيها العوامل السياسيّة، والأمنيّة، والتجاريّة، والاقتصاديّة، والثقافيّة، وهذا ما دفع بقادة الدول إلى إطلاق يد الأمم المتحدة لوضع الضوابط، واستحداث الروادع، وتحديد المعايير التي من شأنها ضبط الانفلاش والفوضى التي تنتهك حرمات الأمم والشعوب والدول وذاكرتها التاريخيّة والوطنية، فكانت منظمة الأونيسكو للعلوم والثقافات، وكانت هناك منظمات رديفة مماثلة على مستوى دول ومجموعات ثقافيّة متشابهة، أو على مستوى الإقليم، كما هو حال جامعة الدول العربيّة التي استحدثت منظمة متخصصة.
إلاّ أن «الترف المؤسساتي» لم يقطع دابر الفوضى، ولم يضع حدًّا «لأخطبوط عملاق» متعدد الأرجل، تتحكّم به غرف سوداء، وتديره عقول مفتونة على «الإبحار عكس التيار».
والضالعون في هذا المضمار يؤكدون على خمسة من العيوب والمآخذ:
• الأول: هناك صراع مستمر ما بين الدول القويّة المتمكّنة، والدول الضعيفة، هدفـه الهيمنـة والابتــزاز حتـى في النطاق الثقافي، وعالـم الآثار في الطليعة. هذا الصراع كان منذ أن انطلق موكب البشريّة، وهو مستمر حتى النهاية، ولا يمكن لجمه لا عن طريق المنظمات، والمؤسسات المتخصصة، ولا عن طريق القوانين القائمة أو المستحدثة.
• الثاني: سرقة النوعي، والنادر، والمميّز من الآثار عند الشعوب الفقيرة المغلوب على أمرها، أو تلك العائدة إلى دول نامية يرى حاكمها أن «كمشة من المال» تساوي ما في دولته من آنيّات، وتماثيل، وخزف... هذا اللون من «التجارة المحترفة» قد نشط مع نهاية القرن الماضي ومطلع القرن الواحد بعد العشرين.
• الثالث: احتكار بعض الدول والعواصم المتمكّنة أبحاثًا مهمة في مجال الحضارات الإنسانية. والمؤسف في هذا المجال أن دولًا لا علاقة لها بالإرث التاريخي الإنساني، لكنّها على وفرة من المال والثروات، قد أقدمت على استحداث المتاحف الرائعة هندسيًّا وجماليًا، وعلى شراء، أو استئجار النوعي والمميّز من الآثار لإحداث ضجّة إعلاميّة، وإطلاق حيويّة سياحيّة مستقطبة.
• الرابع: إشراك الموروث الثقافي التاريخي كجزء مكمّل لمشروع استثماري اقتصادي ضخم عند الدول المتمكّنة، والتي تستضيف «اللوبيات» العملاقة (هولدينغ) من رجال الأعمال والمستثمرين والمقاولين. وهناك مجالات تخصص في هذا المضمار، ومتخصصون رهنوا حياتهم ومستقبلهم للإبداع في هذا الاحتراف.
• الخامس: محو الذاكرة الوطنيّة عند الشعوب والأمم الضعيفة المستباحة المغلوب على أمرها. وهنا يحضر التاريخ بمهابته وجلاله ليقف حانقًا مندهشًا في حضرة هذا الزمن الذي تتزاحم فيه الانتفاضات والثورات، تحت عنوان التغيير، والفرار من قفص الماضي إلى قبضة المستقبل المجهول!.

 

الدراسات المخجلة
لعلّ اللافت للاهتمام في هذا المجال ما يصدر عن المنظمات الدوليّة المتخصصة من رسائل ودراسات يندى لها الجبين حول المجزرة الثقافيّة المفتعلة والمستمرة التي تستهدف دولًا شرق أوسطية عريقة بتاريخها وتراثها، ومآثرها، كان لها دومًا مكان في هامة الحضارة.
إحدى هذه الدول تملك ما يزيد عن 4679 نوعًا من الآثار، وأكثر من 1300 موقع، وعلى مساحات من الأرض تتجاوز بمجملها مساحة لبنان. هذه الدولة تتعرض إلى ما يشبه الإبادة الثقافيّة التراثيّة على مرأى ومسمع العالم المتحضّر، والدول الكبرى التي تنظّر بالقيم والمثاليات. وعلى مقربة «جارة» أخرى تتعرّض آثارها لما تتعرض له الأولى من تحطيم وتنكيل وتدمير وسرقة واستباحة، ولا من يحرّك ساكنًا، باستثناء بعض قصيصات الورق التي تحمل عبارات الاستنكار والإدانة، والتي تصدر عن بعض المنظمات الدولية المتخصصة لتذكير الرأي العام على أنها لا تزال موجودة، وحيّة ترزق.
ومن المفارقات المضحكة المبكية أن دولة أوروبيّة عريقة حجزت مساحة في وسائل الإعلام، المكتوب والمرئيّ والمسموع، للحديث عن إعادة قطعة أثريّة إلى دولة عربيّة كبرى كانت قد سرقت منها خلال فصول المواجهات والاضطرابات، في الوقت الذي كانت تمعن جماعات الظلام فيه بأعظم مرفق أثري عربي هدمًا وتهشيمًا من دون أن يحرّك أحد في العالم ساكنًا!.

 

الأبعاد والخلفيات الكارثيّة
بعيدًا من السياسية، وفي سياق متصل بهذا البحث السردي، لا بدّ من التذكير بالمبادرة التي أطلقتها الجامعة العربية باتجاه الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ومنظمة الأونيسكو، في آذار الماضي، لوقف الانتهاكات التي يتعرّض لها التراث الثقافي التاريخي في الدول العربيّة من نهب، وسرقة، وتحطيم للتماثيل والشواهد، وتهشيم للمعالم الأثريّة العريقة، والتحف النادرة.
واستندت الجامعة في تحرّكها إلى نقاط سبع وضعتها في رأس الأولويات والاهتمامات لوقف ما أسمته بـ«المجزرة المفتعلة» بحق التراث التاريخي العربي:
• الأولى: اعتبرت الجامعة أن ما يحصل من انتهاك مبرمج للآثار، إنما يشكّل وحدة متكاملة لمشروع واضح بأهدافه ويرمي إلى محو الذاكرة الوطنية والقوميّة، والقضاء عليها تمامًا، وبشكل متزامن مع المحاولات الرامية إلى تصفية شعوب، ودول، وكيانات عربيّة، تحت شعار التغيير!.
• الثانيّة: إن المسألة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالصراع الثقافي الذي يتخذ وجوهًا وأبعادًا عديدة، وإلاّ فلماذا تقتصر أعمال النهب، والتدمير الممنهج للآثار على الشرق الأوسط من دون غيره من مناطق العالم، وعلى الدول العربيّة والإسلاميّة تحديدًا، من دون أن يحرّك المجتمع الدولي ساكنًا على الرغم من محاولات الشجب والاستنكار التي يقودها المثقفون، وأهل الاختصاص من مختلف الجنسيات؟!.
• الثالثة: إن المخطّط معروف، وكذلك المموّل، والمنفّذ، والمستفيد. ومع ذلك هناك تجهيل للفاعل، ومماطلة، وغض طرف، حتى أن المنظمات المتخصصة التي أبدت استعدادًا للتحرّك، والقيام بما يمكن أن تمليه التزاماتها القانونيّة والمعنويّة، قد اصطدم حراكها بموانع وعوائق سياسيّة وبيروقراطيّة آثرت عدم الكشف عن مصادرها، وعن الدول والشبكات العنكبوتيّة التي تقف وراءها.
• الرابعة: تخشى الجامعة أن يكون الهدف من المخطط أبعد من الأهداف المعروفة والمعلنة. الهدف تهشيم وهدم إرث ثقافي تاريخي في مدينة الديانات السماوية الثلاث لاستكمال مشروع عدواني قديم؟!.
• الخامسة: إن الوجه البشع من حملة المعاول الهدّامة، يحمل ملامح عربيّة وإسلاميّة، وفي ذلك تخطيط متعمّد للإساءة إلى حضارة معينة، وثقافة محددة، وفي ذلك اعتداء مزدوج، وافتراء موصوف.
• السادسة: إن المثقفين العرب قاموا ويقومون بمحاولات لإنقاذ هذا التراث الثقافي التاريخي مع مرجعيات دوليّة وإقليميّة، لكن من دون جدوى، حتى أن العديد منهم قد أصيب بالإحباط لاقتناعه بأنّ ما يحصل إنما يدخل ضمن مخطط محكم الإعداد والتنفيذ والإخراج لاستهداف بعض شعوب دول المنطقة بماضيها وحاضرها ومستقبلها. إنه فعل إبادة بكل ما تحمل الكلمة من رموز ومعـان وأبعــاد!.
• السابعة: إن التغيير الديموغرافي الذي تتعرض له كيانات عربيّة لا يقتصر على الفوضى الخلاقة، والاستباحة المجانيّة للتاريخ، والقيم، والشواهد، بل ينال من الكرامة المعنوية لحيّز واسع، ومكوّن أساسي من حضارة المنطقة، بحيث يضع الشرق الأوسط على حافة انفجار كبير، طالما أن الهدف الذي اجتمعت حوله الدول العربيّة في مقر الجامعة واضح، وغير قابل للطمس، أو المساومة: «من لا ماضي له، لا حاضر له، ولا مستقبل؟!»، والدول العربيّة، وفق مدوّنة الجامعة «هي الماضي والحاضر والمستقبل، في هذه المنطقة الحيويّة من العالم... واستمرار النفخ في النار قد يحرق الجميع يومًا؟!».