متاحف في بلادي

توفيق ضاهر وعيدان الثقاب
إعداد: جان دارك أبي ياغي

التايتانيك وبرج إيفل حملاه إلى غينيس مرّتين فهل يفعلها مرّة ثالثة


دخل موسوعة غينيس للأرقام العالمية مرتين خلال سبع سنوات، أما إبداعه فتجلّى مرّات مرّات...
فما هي قصة هذا الرجل؟ وكيف نجح في تحويل الحزن والإعاقة، وظلم القدر، إلى فنّ وجمال ونجاح؟ وما قصة تلك الروائع الفنية التي يصنعها من عيدان الكبريت عودًا إثر عود؟!
مجلة «الجيش» زارت توفيق ضاهر في متحفه في بلدة الفريكة، وأبحرت على متن سفينته العملاقة لاكتشاف إبداعاته التي أشعل جذوتها عود ثقاب، فأضاءت ظلمة لياليه ونقلت حياته من ضفة إلى أخرى.

 

من سجين إلى فنّان
في متحفه الخاص قرب منزله في بلدة الفريكة، وعلى كرسيه المدولب، استقبلنا بابتسامته المعهودة على الرغم من الآلام التي يعانيها. لا يتعب توفيق ضاهر من سرد قصته من الألف إلى الياء، وكأنه يستمد الطاقة من تفاصيل تلك القصة.
في حادث مؤسف تعرّض خلاله لإطلاق نار، أصيب إصابة جعلته مقعدًا. تداعيات الحادث لم تنته عند هذا الحدّ، فسعيه إلى الثأر أدخله السجن، لأربع سنوات. هناك تعلّم دروسًا كثيرة وخرج من الزنزانة فنانًا.
كان ضاهر يهوى صناعة أشكال صغيرة من الكبريت، في السجن انصرف إلى هوايته. كان أول الغيث بيت قداحة استغرق صنعه خمسة أيام واحتاج إلى 63 عودًا من الكبريت لإنجازه. ثم كرّت السبحة، صنع إطارات للصور، فعلبة للمحارم الورقية، ومن ثم بدأ بصناعة قطع أكبر.
حوّل شرفة منزله إلى محترف وبدأ مرحلة جديدة من حياته بعد خروجه من السجن. اشترى كبريتًا وغراء وبدأ العمل. أول دعوة تلقاها للمشاركة في معرض فني كانت في العام 1997 من وزارة السياحة التي منحته جائزة تقديرية. في هذا المعرض، اشترى منه الوزير السابق ميشال إده طاولة زهر وسفينة صغيرة دفع ثمنهما حينها 1500 دولار. وهكذا بدأت تتوالى عليه العروض للمشاركة في معارض أخرى، إلى أن ذاع صيته وحلّ ضيفًا على شاشات التلفزة، وكتبت عنه الصحف.
كان دائمًا يردد أمام الصحافة عبارة: «حتى لو كنّا مقعدين ومنبوذين، فنحن نستطيع أن نفعل الكثير». ويضيف: تحدّيت نفسي كثيرًا، وعندما سألتني إحدى المذيعات عن طموحي أجبتها من دون تردد: صناعة سفينة تايتانيك، مع أنني لم أكن أعرف يومها أي معلومات عن السفينة العملاقة. فتعجبت المذيعة وضحكت وقالت: «خليك على الأرض».

 

سفينة تايتانيك
نجح توفيق ضاهر في تحويل الإعاقة إلى طاقة. وبدأ في بناء سفينة «التايتانيك» التي ترسو في متحفه اليوم. استغرق العمل فيها حوالى 6600 ساعة (من 20 آب العام 1998 لغاية 11 شباط العام 2000)، واحتاجت إلى 18 مليون و400 ألف عود كبريت، بكلفة 7600 دولار أميركي. ترتفع السفينة العملاقة بطول 3 أمتار وعرض 60 سم وارتفاع متر وثمانون سم. ولإضاءتها، استعمل 2100 لمبة و675 مترًا من الأسلاك الكهربائية. تضم السفينة المؤلفة من 6 طوابق، كل التفاصيل التي وجدت ذات يوم على تلك السفينة – اللغز، من مسارح وأحواض سباحة، وغيرها... واحتاجت إلى 500 كيلوغرام من مادة الغراء، وليس فيها مسمار واحد. هذا الإنجاز الفني أدخله موسوعة غينيس في العام 2009 لصنعه أكبر وأطول وأجمل سفينة في العالم من عيدان الثقاب.


برج إيفل: التحدي الجديد
بعد نجاحه في بناء باخرة «التيتانيك» التي أوصلته إلى العالمية، صمم على تسجيل رقم قياسي جديد، وكان له ما أراد. بدأ تحديًا من نوع آخر، وهو بناء «برج إيفل» العملاق. أنجز هذا المجسّم الذي يتألف من طبقات ثلاث، خلال عامين. عمل على مدى 13 ألفًا و38 ساعة لصنع البرج الذي يحتوي على 5 ملايين و600 ألف عود كبريت. يتألف البرج من قاعدة قطرها أربعة أمتار مربعة، ويرتفع إلى نحو 7 أمتار، ويمكن تفكيكه إلى خمس قطع. يضاء المجسّم بـ6400 لمبة مربوطة بـ2116 مترًا من الأسلاك الكهربائية، وقد استلزم جمع أجزائه 500 كيلوغرام من الغراء، لتصل التكلفة النهائية للبرج إلى نحو 11ألف دولار أميركي.
تلقى ضاهر رسائل تهنئة كثيرة من ورؤساء دول وسفراء وقادة، كما منحه رئيس الجمهورية آنذاك العماد إميل لحود درع تقدير وقدّم له العلم اللبناني موقعًا منه.
عُرض عليه منذ سنوات شراء «التايتانيك» و«برج إيفل» بمبالغ ضخمة (أكثر من مئة وعشرين ألف دولار لكل منهما)، إلاّ أنّه رفض.

 

سفن تبحث عن اللؤلؤ
نكمل الجولة في المتحف الذي يقسم إلى زوايا فنية، فنجد في إحداها مجسّمًا لسيدة حريصا نفّذه خلال ثمانية أشهر من الدأب والمثابرة، وفي أخرى مجسّمًا لقلعة بعلبك التي استغرق تنفيذها ثلاثة أشهر، إلى مجسمات فريدة في أشكالها وتقنياتها. من السفن الكويتية التي عبرت البحر بحثًا عن اللؤلؤ، إلى المراكب الصغيرة (نسبة إلى التايتانيك)، وكنائس محلية وعالمية...

 

تقنية العمل
كيف يصنع مجسماته، ومن أين يستوحي أفكاره؟ يقول ضاهر إن الوحي من عند الخالق، وأحيانًا ينبع من المعاناة، ومن الأحلام التي يرسمها في مخيلته. أما تقنيًا فهو يعتمد بالدرجة الأولى على عيدان الكبريت التي يستعملها كما هي، من دون تلوين أو صباغ. كل ما يقوم به للحصول على رسم ما أو ديكور معين هو «قلي» الكبريت بالزيت، للحصول على اللون الذي يريده، بني فاتح أو داكن أو أسود. وإن أراد اللون الأحمر مثلا، يضع عيدان الكبريت في منقوع المياه ليحل اللون الأحمر على باقي العيدان من دون الحاجة إلى استخدام الصباغ. هذا النوع من الأعمال يتطلّب صبرًا وطول بال لم يكن توفيق ضاهر يملكهما إذ كان عصبيًا جدًا، لكنّ المعاناة التي مرّ بها أكسبته القدرة على التحمّل والعمل لساعـات طويلـة، مـا أنسـاه مصابـه الأليم.
 

ما زال يحلم
يحلم ضاهر بأن يحقق يومًا ما مشروعًا لا يقل أهمية عن ما أنجزه لغاية اليوم. وطموحه هذه المرة تنفيذ مجسم للمسجد الأقصى من عيدان الكبريت، ليدخل به «غينيس» للمرة الثالثة. ما يؤخر انطلاقة المشروع هو انتظار التمويل اللازم له (25 ألف دولار)، لكن لا شيء مستحيل في نظره. من أحلامه أيضًا، مكان في وسط بيروت يعرض فيه أعماله، خصوصًا «سفينة التايتانيك» و«برج إيفل».