- En
- Fr
- عربي
جدار شارون الفاصل: نقطة تحول في سياسة التوسع الإسرائيلي
نظرة تاريخية الى فكرة الجدران الفاصلة
في منتصف شهر حزيران الماضي, احتفلت اسرائيل رسمياً بالبدء باعمال اقامة الجدار الفاصل بين المناطق الفلسطينية في الضفة الغربية والخط الاخضر, اي خط الهدنة منذ العام 1984. وقد بدا على الفور ان انطلاق هذا المشروع انما يعبر عن حقيقة افلاس شارون والطغمة الحاكمة معه على الصعيدين السياسي والعسكري, على الرغم من ان فكرة الجدار بحد ذاتها ليست جديدة بل سبق وطبقت في سور الصين العظيم, وجدار الامبراطور الروماني هادريان (في بريطانيا عام 922 م بطول 73 ميلاً), بالاضافة الى السور الواقي الذي اقامه الفرنسيون في الجزائر اثناء حقبة الاستعمار, وجدار برلين ايضاً الذي اقيم في منتصف شهر آب عام 1961 لكي يفصل القطاعين الشرقي والغربي من المدينة, وذلك بهدف منع هجرة اليد العاملة والخبرات من الشرق الى الغرب, خصوصاً وان المانيا الديمقراطية كانت تنفق في حينه مبالغ طائلة على تعليم وتدريب هذه الخبرات, بالاضافة الى استغلال هذه الهجرة في الحرب الباردة التي كانت دائرة بين المعسكرين: الشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي, والغربي بزعامة الولايات المتحدة([1]).
كذلك يمكن الاشارة الى الخط الاخضر في قبرص الذي يقسم الجزيرة بالسياجات والعوائق, اثر فشل السياسة والديبلوماسية بين تركيا واليونان.
ولكن التجربة التاريخية مع كل هذه الجدران, اكدت المرة تلو الاخرى, ان قيمتها العسكرية والامنية محدودة جداً, وانها قابلة للاختراق والالتفاف عليها عاجلاً أو آجلاً.
وبالتالي فان تطبيق هذه الفكرة في أراضي الضفة الغربية المحتلة والقدس, انما هو تكرار لعمل غير عبقري, سبق لاسرائيل ان مارسته بتبجح كبير في خط بارليف على قناة السويس, وحاولت ممارسته أيضاً عام 1995 قبيل مصرع رئيس الحكومة الاسبق اسحق رابين على يد احد الاصوليين اليهود المتطرفين من منظمة “ايال” الارهابية.
ففي تاريخ 25 كانون الثاني 1995 كتبت صحيفة “انديبندنت” البريطانية ان رئيس الوزراء رابين “دعم... خطة لانشاء جدار امني حول الضفة الغربية لوقف تسلل المفجرين الانتحاريين الى اسرائيل”([2]). ومعلوم أنه في ذلك العام حصلت عملية استشهادية في منطقة بيت ليد في غور الاردن أودت بحياة 21 اسرائيلياً. وقد تبنتها منظمة “الجهاد الاسلامي” التي كان امينها العام الدكتور فتحي الشقاقي, الذي ما لبث ان اغتيل على ايدي الموساد الاسرائيلي انتقاماً, في جزيرة مالطا.
ومما قاله رابين في حينه ان عملية إتمام بناء الجدار “لا يمكن أن تحصل على الفور.
وستستغرق الاستعدادات لها شهراً أو شهرين, “فيما ذكرت الصحف الاسرائيلية ان طول الجدار سيتجاوز المئة ميل, وان كلفته ستصل إلى 700 مليون شيكل (150مليون جنيه استرليني) ويستغرق انشاؤه سنة”([3]).
وقالت صحيفة الغارديان في اليوم نفسه: “من المحتمل ان تشمل الخطة اقامة سلسلة من الحواجز ونقاط التفتيش والدوريات واجهزة الاستشعار عن بعد وربما حتى الرصد الجوي”([4]). وقالت تقارير اسرائيلية محلية أن كلفة الجدار يمكن ان تصل إلى 470 مليون استرليني. الا ان هذه الفكرة لم تأخذ طريقها في حينه الى التنفيذ العملي, واما بسبب كلفتها العالية وعدم الاقتناع بجدواها, واما لان القدر لم يمهل رابين طويلاً فاغتيل وسقطت معه الفكرة.
الا ان اندلاع انتفاضة الاقصى بتاريخ 28/9/2000 اي في نهاية عهد باراك كرئيس للحكومة, وفي أعقاب الزيارة الاستفزازية التي قام بها آرييل شارون, كزعيم لتكتل الليكود, الى حرم المسجد الاقصى لاثبات السيادة الاسرائيلية عليه (وهو المسمى عند اليهود “جبل البيت” ويعتبر من اقدس الأماكن في عقيدتهم الدينية), اعاد الاعتبار لفكرة بناء الجدار الفاصل كجزء لا يتجزأ من خطة امنيةسياسية, يؤمل منها توفير قسط من التهدئة وكسب الوقت وامتصاص نقمة الفلسطينيين الذين وجدوا انفسهم يوماً بعد يوم ضحية لخديعة صهيونية دولية ترمي إلى حرمانهم من حقوقهم البديهية في حرية تقرير مصيرهم على ارضهم السليبة منذ العام 1967, وهنا نجد انه من المناسب القاء بعض الضوء على اوضاع فكرة الفصل وبناء الجدار في نهاية عهد باراك لارتباطها الوثيق بما طرأ عليها من تطورات في عهد شارون اثر سقوط الاول وفوز الثاني.
الحسابات السياسية لاقامة الجدار في اواخر عهد باراك
اتسم المشهد التفاوضي الفلسطينيالاسرائيلي في نهاية عهد باراك بشأن الوضع النهائي للتسوية السياسية بالكثير من التعقيدات والغموض نبرزها في النقاط التالية :
1- ادرك باراك اهمية وجود رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية ياسر عرفات كطرف مكافئ له في معادلة التفاوض, وادرك انه بحاجة للحصول على توقيعه على اتفاق تسوية يستطيع تسميته بالنهائي, قبل رحيله بشكل مفاجئ بسبب حالته الصحية. ولانه لن يكون في مقدور أي شخصية فلسطينية اخرى غير عرفات, ان توقع على هذا الاتفاق بما يتضمنه من تنازلات, من دون ان تتهم بالتفريط بالاستحقاقات الفلسطينية القانونية والشرعية. وفي المقابل سرعان ما تبين للفلسطينيين ان باراك لم يكن هو المسؤول الاسرائيلي الافضل حسبما كان يتوهم بعضهم, لجهة الحصول منه على ما يسمى “الحد المعقول من التسوية”, هذا اذا لم يكن هو الاسوأ. وهذا ما كشفه هو شخصياً بعد خروجه من الحكم عندما صرح بانه لم يبع عرفات في كامب دايفيد سوى الوهم.
2- لقد سعى باراك الى تحييد الدور الاميركي, وسواه من الادوار الاخرى الاوروبية او العربية, وحتى قرارات الشرعية الدولية المتمثلة في القرارين 242و338 , من اجل الاستفراد بتحديد الحلول الملائمة للمصلحة الاسرائيلية لوحدها, بما في ذلك الحل الاقليمي المرتبط باقامة الدولة الفلسطينية ونوعية السلطات التي ستمنح لها, بما ينزع عنها فكرة السيادة شبه المطلقة التي يطمح اليها الفلسطينيون.
واذا كان حزب العمل قد وافق من الناحية المبدئية على قيام كيانية فلسطينية ما, تسمى من باب المجاز “دولة”, فالخلاف بقي قائما حول النطاق الجيوستراتيجي الذي سيعطى لها ما بين المصلحة السيادية لكل من إسرائيل والأردن. وهنا سعى باراك الى اعطاء الاولوية لكل القضايا الخمس المعلقة ما بين الاسرائيليين والفلسطينيين وهي شكل الدولة وحدودها وطبيعة ارتباطاتها الاقليمية, ثم قضية المياه وقضية القدس وعودة اللاجئين, والانطلاق من ثم من هذا الحل الى تحديد شكل الدولة الفلسطينية, بينما كان التقدير السليم للمشهد التفاوضي من زاوية المصلحة الوطنية الفلسطينية, يقضي بان يتشبث الفلسطينيون بارضهم اولا, وبعد الحصول على حقهم الكامل في الأرض يمكن الانطلاق للحديث عن الدولة وليس العكس.
ومما زاد في تعقيد الامور اكثر فاكثر في هذا المجال هو ان التناقض في وجهات النظر لم يقتصر على الخلافات الاسرائيلية الفلسطينية وحسب بل برز ايضا في تناقض الرؤى والتصورات الاسرائيلية ذاتها. وبينما سعى باراك الى تسويق فكرة الفصل السياسي- الامني بين الشعبين وتعويم حله الاقليمي, فانه في الوقت نفسه أصر على المحافظة على ارتباط الاقتصاد والموارد بين الشعبين([5]).
ومن هذا المنطلق قدم باراك ما يمكن تسميته “الحل الاقليمي” للتسوية النهائية للقضية الفلسطينية, وهو ليس اكثر من نسخة منقحة لخطة آلون القديمة المتجددة للتسوية الاقليمية, والتي يدخل جدار الفصل في بعض حيثياتها الامنية والسياسية. وهذا امر يخالف تماماً منطلقات عملية التسوية في مدريد عام 1991 والقائمة على قاعدة “الارض مقابل السلام” ومرجعية القرارات الدولية المعنية بالقضية الفلسطينية وفي مقدمتها القرار 242 .
وهذه الاستراتيجية التي عرضها باراك تكاد تتماثل في مضمونها العام مع استراتيجية الليكود تجاه القضية الفلسطينية, وهي تقوم على استبعاد اية استحقاقات ذات قيمة سياسية او اقليمية عنها, مع فارق ان الحل الذي يقترحه حزب العمل هو اكثر وضوحاً وتحديداً من الناحية الجيوسياسية, مقارنة مع ما يقترحه الليكود. ولكن تبقى في النهاية ثوابت مشتركة واساسية تجاه الحل الاقليمي, تسمى في الادبيات الصهيونية بالخطوط الحمر, ومن ابرزها رفض العودة الى خطوط الرابع من حزيران 1997, ورفض تقسيم القدس, ورفض عودة اللاجئين, ورفض قيام دولة فلسطينية ذات سيادة حقيقية في مجالات السياسة الخارجية والامنية والاقتصادية والمالية.
وفكرة الجدار الفاصل بحد ذاتها طرحها باراك من ضمن رؤيته الخاصة لمشروع الفصل السياسيالامني التي سعى بموجبها الى توظيف المنظومة الاستيطانية, التي تناوبت على اقامتها بالتكافل والتضامن, حكومات العمل والليكود, من اجل اقامة جدار عازل على طول الخط الاخضر بين التجمعات الفلسطينية في الضفة واسرائيل, انطلاقاً من جنين شمالاً حتى الخليل جنوباً, بالاضافة الى معدل 10% من اراضي الضفة التي سعى باراك للاحتفاظ بها في ظل التسوية النهائية في الكتل الاستيطانية حول القدس شمالاً وجنوباً وشرقاً.
وهذه الكتل الاستيطانية عبارة عن شريط حدودي مكثف من المستعمرات محاذ للشريط الاخضر, يبدأ من الشمال بشكل ضيق نظراً للطبيعة الاستيطانية فيه ثم يتسع تدريجياً حتى يصل مداه الى مدينة قلقيلية , حيث تجمع مستوطنات شومرون (السامرة) ليبدأ بالانحسار تدريجياّ حتى مدينة رام الله, وبعدها يأخذ في الاتساع حول الدائرة المحيطة بمدينة القدس شمالاً وشرقاً وجنوباً ليعود الى الانحسار عند مدينة بيت لحم, وبعدها يتسع بشكل محدود بسبب تجمع مستوطنات غوش عتسيون في الجنوب.
والجدير بالذكر ان المنظومة الاستيطانية في الضفة والقطاع تضم قرابة 150 مستوطنة يقطنها نحو 180 الف مستوطن, من دون القدس. وقد سعى باراك من خلال فكرة الفصل الامنيالسياسي بواسطة الجدار الفاصل, الى الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية الكبيرة, ضمن سيادة اسرائيل, وترك حرية الاختيار للمستوطنين في المستعمرات الصغيرة والنائية, ما بين الرحيل او البقاء تحت السيادة الفلسطينية. وكانت المعادلة المبدئية التي روج لها باراك قائمة على50% لاقامة الدولة الفلسطينية و40% يؤجل البت فيها لما بعد الدولة, لمدة طويلة نسبياً, مقابل10% تضم وتلحق رسمياً باسرائيل, يمكن ان تتطور الى معادلة اخرى قائمة على تقسيم ثلاثي آخر قائم على ترك 70% للفلسطينيين و20% منها يؤجل البت فيه لمدة 10 الى 15 سنة مقبلة والـ10% الاخيرة توضع تحت السيادة الاسرائيلية.
اما فكرة الفصل الاقتصادي, فلم تكن واردة على الاطلاق في ذهن باراك وفقا لما ادلى به عام1999 بقوله: “لا توجد نوايا لفك ارتباط اسرائيل بالاراضي الفلسطينية. ان الفصل بيننا وبين الفلسطينيين سياسي فقط”. ومما قاله باراك ايضا في هذا الخصوص: “ليس من السهل اقامة جدار حول 400 كلم او600 كلم, وهي مساحة الكيان الفلسطيني. لكن اعتقد انه سيكون هناك في النهاية, حل يشتمل الفصل فيه (بين اسرائيل والكيان الفلسطيني) على جدار. لكنه سيكون جداراً لضمان ألاّ يمر عبره احد, وانما يمر عبره الناس وفقاً لانظمة معينة, ولا يسمح لاي مجنون بالدخول مع متفجرات. وعندما يكون هناك سياجان, نستطيع ايضا اغلاقهما احيانا عند الضرورة. ويجب ان نجد حلولا لكل هذا, ونحن ملتزمون باتجاه اتفاقات معينة. وارى مثلا اهمية كبيرة لجسر (يربط غزة بالضفة) لا لانه سيوجد فرص عمل فقط (ستبلغ كلفته 600مليون دولار وربما 150 الى 200 مليون دولار ستذهب الى الطرف الفلسطيني)... بل ايضا, وهذا هو الاهم, لانه سيؤمن تواصلاً فلسطينياً. ففي غزة يوجد 1.5 مليون نسمة وفي الضفة الغربية هناك مليون او مليون ونصف آخرون, لا بد ان يكون هناك اتصال في ما بينهم, وانا مع البدء ببناء جسر الآن”([6]).
وعلى غرار ما فعله سلفه الراحل رابين, شكل باراك طاقماً مؤلفاً من وزير الامن الداخلي السابق موشيه شاحال (ومن هنا أتى اسم لجنة شاحال), وزير الامن الداخلي شلومو بن عامي ووزير الخارجية دافيد ليفي لتقديم افكار حول كيفية مواجهة المسائل الناجمة عن تجسيد فكرة الفصل. وخلال مناقشات هذا الطاقم (اللجنة), قال شاحال ان ما يميز هذه الخطة (خطة الفصل) ان جميع قادة الجيش والامن العامالشاباك وافقوا عليها كونها تستهدف وضع خط او حاجز فاصل بين اسرائيل والاراضي التابعة للحكم الذاتي الفلسطيني. والمبدأ الذي تقوم عليه الخطة هو ايجاد مساحة ارض فاصلة, وليس خطاً فاصلاً, تتمكن اسرائيل من خلالها توسيع المنطقة التي لا يسمح للفلسطينيين بدخولها وتلك التي لا يسمح لهم بتخطيها او دخولها, في اشارة منه الى خطة الفصل التي وضعت في عهد رابين([7]).
وخلال جلسة لمناقشة خطة انظمة الفصل الامني بين اسرائيل والفلسطينيين في اطار التسوية الدائمة عقدت بتاريخ 22/10/1999, اكد باراك انه يؤيد اقامة سياج بين اسرائيل والكيان الفلسطيني المزمع انشاؤه. وان ضرورة وجود سياج تنبع من ضرورة حماية المستوطنين الاسرائيليين واملاكهم. واستشهد بمقطع من قصيدة للشاعر روبرت بروست تقول: “اسوار جيدة تصنع جيراناً جيدين”.
والجدير بالذكر ان طول السياج الذي تم اقتراحه في حينه هو 180 كلم على طول الحدود الممتدة بين اسرائيل والضفة الغربية, بعرض كيلومتر واحد في الحد الادنى, وبهذا تكون اسرائيل قد ضمت الى حدودها ما بين 200 الى 250 كلم2 بحجة ترتيبات الفصل الامني بين الطرفين. كما ان السياج المقترح يجمع الاسلاك المكهربة مع الجدران الاسمنتية ويمكن ان تبلغ كلفة كل كيلومتر واحد منه مليون دولار ويعزز بدوريات امنية ويتخلله 15 الى 18 معبراً سيكون بعضها حصرياً للفلسطينيين او الاسرائيليين([8]).
المدير العام لديوان رئاسة الحكومة في ايام باراك, اشار الى ان رئيسه يخطط لفصل بين اسرائيل والسلطة خلال مدة زمنية تتراوح بين 3 الى 5 سنوات سيتم الانفصال خلالها عن السلطة الفلسطينية حتى في مجالات البنى التحتية بما فيها الكهرباء والمياه والاتصالات... وان أي عملية ستقوم بها اسرائيل حالياً ستكون الى حد معقول رداً على عمل ما, وهي لن تخلق وضعاً لا يكون فيه كهرباء او ادوية في المناطق ولن تخلق وضعاً يسود فيه الجوع في المناطق. والهدف هو الوصول الى فصل مع اتفاق وتجارة حرة بين اسرائيل و الفلسطينيين انطلاقاً من مبدأ التفاهم. ونحن مهتمون بان يكون الفصل باتفاق. ولكن هذا الفصل فرض علينا, وحالياً هناك مشكلات صعبة جداً ومنها التراجع الجذري في نقل البضائع ومقاطعة المنتجات الاسرائيلية في مناطق السلطة الفلسطينية. والامر الاكثر تعقيداً ربما هو موضوع البنى التحتية: “الكهرباء والمياه والمجاري والوقود”([9]).
في اواخر عهد باراك طرأ بعض التغيير على خطة الفصل, اذ ظهرت صيغة “الفصل احادي الجانب” حيث اعد ديوان رئيس الحكومة مخططاً للفصل من جانب واحد يتضمن اقامة خط دفاعي امني حول الكتل الاستيطانية في الضفة الغربية. واكد باراك في حينه ان تنفيذ مخطط الفصل سيتم فقط ضمن حالة من الحالات الثلاث التالية:
1- رداً على اعلان اقامة دولة فلسطينية من طرف واحد.
2- في حال وجود وضع امني خطير. (تفاقم العمليات الاستشهادية)
3- كجزء من اتفاق مع السلطة الفلسطينية.
وحدد الهدف من مخطط الفصل وبناء الجدران العازلة في الحفاظ على الهوية اليهودية لاسرائيل من خلال الانفصال الديموغرافي عن الفلسطينيين. وتقع في بؤرة هذا المخطط الكتل الاستيطانية التي سيتم ضمها الى اسرائيل. وكان من بين الكتل الاستيطانية التي يتضمنها مخطط الفصل: محيط القدس (معاليه ادوميم وغوش عتسيون, وجفعات زئيف, وكتلة ارئيل كرني شومرون وكتلة كريات سيفر قرب موديعين), والمستوطنات المجاورة للخط الاخضر مثل: الفيه مناشيه وسلعيت وهار آدار وبيت حورون وسواها.
الجدار الفاصل في عهد وعهدة شارون
اثر خسارة ايهود باراك المدوية في انتخابات رئاسة الحكومة واثناء جلسة نيل الثقة لحكومة شارون في الكنيست, كرر باراك دعوته لمتابعة فكرة الفصل وقال :”ان الامل بالسلام والامن لمواطني اسرائيل يكمن في مبدأ الانفصال بيننا وبين الفلسطينيين. وانني اجد من واجبي ان احذر من انه اذا امتنعت اسرائيل, لا سمح الله, عن القيام في السنوات القريبة بواجب الانفصال الاضطراري عن جيراننا الفلسطينيين, من خلال تسوية متفق عليها اذا امكن الامر, والا فبصورة احادية الجانب, فانها ستتعرض للخطر الشديد, ليس امن مواطنيها فحسب, بل ايضاً طابعها كدولة يهودية وديموقراطية. ان اسرائيل التي تسيطر على قليل من الارض, والتي لديها حدود واضحة وتتمتع في داخلها باكثرية يهودية صلبة وثقة ذاتية بهويتها وطابعها ورسالتها وعدالتها واسباب نضالها. ان اسرائيل هذه ستكون اقوى واكثر قدرة على توفير الامن الشخصي والردع, من اسرائيل التي تواصل النزف في ظل مزج ديموغرافي متزايد الخطورة بين مجموعتين متعاديتين غربي نهر الاردن وفي عزلة دولية متفاقمة([10]).
لا يمكننا تجاهل حقيقة وجود تشابه كبير ما بين باراك وشارون, فكلاهما من مواليد حركة الاستيطان العبرية, كما انهما كانا من العاملين في الوحدات الخاصة, ولكل منهما سجل حافل بالاجرام والاغتيال, ولذا لايمكن الاشارة الى وجود تناقضات صارخة في رؤيتيهما للواقع. فهما لا يعدان من انصار فكرة الشرق الاوسط الجديد او مسيرة اوسلو, وانما هما مؤيدان لفكرة توحيد الصفوف في الداخل الاسرائيلي. كما انهما يشعران بقدر كبير من الانزعاج من التهديدات الاستراتيجية التي تلوح في الافق, داخل فلسطين وخارجها, ومن تآكل الاحساس بـ”عدالة” العدوان الاسرائيلي.
مع ذلك فهذا لا يمنع من وجود بعض الفوارق الجوهرية بينهما. ذلك ان باراك ينظر الى الصراع الاسرائيليالفلسطيني من زاوية ديموغرافية, في حين ان شارون ينظر اليه من زاوية جغرافية. وبينما يحاول باراك ان ينفي عن نفسه التفكير الاستعماري, فإن شارون لا يسأم ولا يخجل من المقولات الاستيطانية الاستعمارية على النمط القديم. وبينما يحاول باراك التعاطي مع تحديات المستقبل, يصر شارون على مواصلة التعاطي مع استحقاقات الماضي, علماً انه كان من اتباع حزب مباي الذي رأى وما يزال يرى, من دون أي تغيير, امكانية فرض الامر الواقع لصالح اسرائيل من خلال السيطرة على الاراضي المحتلة عام 1967, او من خلال التدخل في الشؤون اللبنانية والسورية والاردنية والفلسطينية, وذلك عن طريق رفع حدة المواجهة وتصعيد وتيرة العنف. وقد سبق لباراك ان وصف طريق شارون بالقول: “ان المسيرة السياسية التي يدعو شارون لاتباعها لا تعدو كونها عملية املاء لشروط التسوية على الطرف الاخر ولا تعتمد على الحوار. ولذلك فليس من الممكن ان يقدر لها النجاح. واذا وصلت الامور الى مسار مغلق مع الفلسطينيين والسوريين فلن يعني هذا الامر سوى تزايد احتمالات تدهور الوضع, وعندئذ فالمخاطر التي ستتعرض لها اتفاقات السلام المبرمة مع الدول العربية ستصبح حقيقية. وعند النظر الى طبيعة الوضع السائد في الشمال والى مجمل الوضع السائد على الساحة العربية نجد ان مخاطر تدهور الاوضاع تتزايد. وقد رأينا حقيقة هذه المخاطر حينما نشرت صحيفة يديعوت احرونوت في عددها الصادر في نهاية تشرين الثاني العام 2000 سيناريوهات الحرب. ولا تعد هذه السيناريوهات ضرباً من الخيال اذا اعتمدت على تقديرات الوضع التي اعدتها اجهزة الامن الاسرائيلية. اننا نشهد حالياً صداماً بين حركتين قوميتين, فبينما تسعى الاولى الى تطبيع وجود اسرائيل في المنطقة فإن الحركة الاخرى لا تزال تبحث عن اولى مظاهر القومية العربية. ويتمثل التناقص بين الحركتين في مدى استعداد كل طرف للتضحية ودفع الثمن”([11]).
وفي مقارنة شخصية قام بها باراك بينه وبين شارون قال: “بينما احرص على استغلال كل الفرص المتاحة فان شارون يحاول اللجوء الى كل الطرق الممكنة قبل السير على الدرب الصحيح”([12]). ويضيف باراك ان عالم شارون عالم مليء بالتطرف والافراط في الاعتماد على القوة. كما وان شخصيته هذه تجتذب اليها “الشعب الذي يشعر دائماً انه يعيش في حالة من المواجهة , ومع هذا فإن هذه الشخصية لا تناسب الواقع خصوصاً انها لا تؤدي الا الى الصدام في نهاية الامر”. ويقول باراك: “اعتقد ان الدروب التي لا تؤدي الى الانفصال ليست صائبة, كما ان شارون غير واقعي, اذ يرى انه من الممكن دائماً الاكتفاء بالتصدي لانشطة السلطة الفلسطينية. ومن ثم اذا تشكلت حكومة يمينية تحت قيادة شارون فانها لن تساعدنا على رؤية الواقع الذي سنصطدم به في نهاية الامر وسندفع الثمن. وعندئذ لن يتغير شيء سوى انه ستطرأ زيادة ملحوظة على عدد القتلى, مما سيزيد في ما بعد من صعوبة جلوس الطرفين مع بعضهما البعض”([13]).
اما رئيس الحكومة آرييل شارون فقال في رده على السؤال: “ماذا بشأن خطط الفصل؟”: “لا ارى إمكاناً للفصل. لا اؤمن بأن نكون نحن هنا وهم هناك. وفي رأيي, ان هذا الاحتمال غير قائم بصورة عملية. ولقد قلت دائماً ان في الامكان العيش مع العرب, ومن لم يرد العيش مع العرب هو اليسار بالذات الذي قال ان الامر الاساسي هو الا يعيشوا “الفلسطينيون” هنا الى جانبنا, وأن يغربوا عن عيوننا, انا لم افكر مرة واحدة على هذا النحو”([14]).
الا ان شارون وبعد شهور قليلة من تسلمه منصب رئاسة الحكومة اجرى مداولات حول خطة حماية “منطقة التماس” والتي تتضمن وضع اسلاك شائكة في منطقة معينة على طول الخط الاخضر وشارك في هذه المداولات وزير الحرب بنيامين بن أليعازر ونائبته دالية رابينفيلوسوف ووزير الامن الدخلي ايلي يشاي من حزب شاس ونائبه جدعون عزرا وعوزي ديان رئيس مجلس الامن القومي, وشلومو اهارونكي المفتش العام للشرطة, وموشيه يعلون نائب رئيس هيئة الاركان وقادة امنيون آخرون. واطلق على المخطط اسم “منطقة التماس” وليس “خط التماس” لانه ينص على توسيع الخط الاخضر بالاعلان عن مناطق شرق الخط, مناطق عسكرية مغلقة بذريعة العمليات الاستشهادية, يتم فيها فرض قيود على تنقل الفلسطينين بقرارات يصدرها القائد العسكري للمنطقة. وقد شمل المخطط اقامة عوائق مختلفة تحول دون الدخول الحرّ الى اسرائيل ومن ضمنها:
اسلاك شائكة في المناطق التي تتجاور فيها تجمعات سكانية يهودية وفلسطينية ولا سيما مقابل قلقيليا وطولكرم.
- جدران اسمنتية مرتفعة يصل علوها الى 7 أمتار.
- خنادق بين الجدران الاسمنتية والاسلاك الشائكة هي بمثابة مواقع تفخيخ مضادة للافراد.
- شبكة انذار مبكر الكترونية موصولة مع مراكز امنية اسرائيلية قريبة([15]).
ومن الجدير بالذكر انه لم توضع مثل هذه العوائق على طول الخط الاخضر في الماضي بسبب معارضة اليمين المتطرف الذي يرى في ذلك اضفاء شرعية على الحدود التي من المفترض توسيعها وضمها حسب قناعته. وقد عبّر الكاتب شلومو افنيري عن هذه الحقيقة بقوله:”ان سبب خشية اليمين الشوفيني والديني من امكان الانفصال الاحادي واضح, انه يعني اعترافا نهائيا بتحطم حلم ارض اسرائيل الكاملة, وليس هناك فصل احادي من دون إخلاء عدد غير قليل من المستوطنات... والظاهر انه كان يتعين على اليسار تحديداً, في الوضع الحالي الصعب, ان يوافق على الانفصال الاحادي, اذا تبين ان الطريق الى اتفاق قائم على حل وسط مسدود الآن. فأي ضرر في الانفصال الاحادي من ناحية اليسار؟ انه سيضع حداً للجزء الاكبر من الاحتلال الاسرائيلي, وسيحرر الفلسطينين من واقع الاحتلال العسكري... وسيقترن ايضا بازالة مستوطنات واجلاء بضعة آلاف, ربما عشرات الآلاف, من المستوطنين. واضح انه كان من الافضل التوصل الى تسوية متفق عليها, لكن الاعمى فقط يفكر في انه يمكن ان نتوقع بعد كامب ديفيد والانتفاضة وبتركيبة الحكومة الاسرائيلية الحالية اقتراحاً اسرائيلياً اكثر سخاء من ذلك الذي قدم في كامب ديفيد وطابا”([16]).
اما الكاتب “أ.ب.يوهو شواع” فرأى انه لا يوجد الآن امل باتفاق نهائي بسبب التطرف الفلسطيني والتطرف في صفوف الجمهور الاسرائيلي وتوجهه نحو اليمين وقال: “الحل الوحيد الممكن الان هو فصل احادي من خلال اخلاء 40 الى 50 مستوطنة واقامة حدود مع نقاط عبور. مثل هذا الفصل سيخفف معاناة الفلسطينين, وسيخفض مستوى العنف. بعد ذلك سيكون ثمة حاجة الى بناء الثقة ببطء”([17]).
في مقابل هذه المواقف نجد ان موقف شارون الذي استجاب لرغبة وزير دفاعه بن أليعازر ورئيس اركانه السابق موفاز, وتحت ضغط الامر الواقع لحصول نحو مئة عملية استشهادية منذ زيارته المشؤومة للمسجد الاقص, انما ينحصر في تحقيق هدف الاستقرار الاستراتيجي, الذي يتيح لكيانه الغاصب العيش في امان, والمحافظة على تفوقه العسكري والاقتصادي والسياسي في المنطقة.
والهدف الثاني هو استعادة كرامة وكبرياء ومصلحة اسرائيل القومية, التي يرى انها اهينت وديست تحت اقدام المجاهدين في لبنان وفلسطين خلال السنوات الاخيرة منذ اجتياحه الاجرامي للبنان عام 1982 وحتى تدنيسه باحة المسجد الاقصى في نهاية العام 2000 .
والرابط الجامع ما بين الهدفين هو القضاء على الشعب الفلسطيني من خلال قتل اكبر عدد ممكن من ابنائه, و سلب اراضيه باقامة المستعمرات عليها, وتسهيل ربط الاراضي المحتلة بالكيان الصهيوني, وفرض مبدأ الخضوع والاذعان بالقوة بعد تحطيم مصادر الرزق لشرائح كثيرة من المجتمع الفلسطيني, وتقليص امكانيات التطوير والتنمية فيه, اضافة الى مصادرة الحقوق السياسية والمدنية لهذا المجتمع والقضاء على اسباب تطور الوعي الوطني والانساني لديه, واضعاف شعوره القومي, ومنعه من تأسيس البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية القابلة للتبلور في دولة مستقلة ذات سيادة.
على هذه الخلفية صدر في العام 1983 الحكم العسكري رقم 50 القاضي باقامة شبكة من الطرق الطولية والعرضية, باشراف بيغن وشارون, بهدف تمزيق اوصال الضفة الغربية بشكل طولي وعرضي بغية تحقيق مجموعة من الاهداف منها السيطرة الامنية الشاملة على جميع التجمعات الفلسطينية في الضفة الغربية ومحاصرتها بهذه الشوارع, والسيطرة على التوسع العمراني لهذه القرى والمدن لتنحصر ضمن ما هو قائم, وبذلك يتم ضبط التكاثر السكاني, وخلق فجوات اجتماعية بين التجمعات السكنية العربية بعد ان يتم عزل هذه التجمعات بعضها عن بعض. وقد تم ذلك في عامي 1996 و2000 عندما منع الانتقال بين القرى والمدن. وتمت مصادرة المزيد من الاراضي ووضعت تحت السيطرة الاسرائيلية, خصوصاً اذا علمنا ان مجموع مساحة هذه الاراضي المصادرة هي 60,000 دونم.
وقد تم التركيز على هذه الطرق في الجولة التي قام بها شارون ونتنياهو في شهر حزيران 1997 في كل من نابلس ورام الله, حيث عرض شارون خلالها خطته الدائمة التي تتضمن الاحتفاظ بخمس ممرات عرضية من الشرق الى الغرب تصل بين الممرات الطولية وهي من الشمال الى الجنوب: ممر من منطقة شمال جنين الى غور الاردن, ممر جنوب قلقيليا الى نابلس وغور الاردن, شارع عابر السامرة الذي يصل بين كفرقاسم الى غور الاردن, شارع رقم 45 منطقة تل ابيب شمال القدس, غور الاردن وشارع 35 يصل بين المستوطنات في غوش عتسيون غور الاردن([18]).
والفكرة الاستراتيجية من هذه الطرق جميعاً هي ابقاء مناطق الحكم الذاتي الفلسطينية معزولة داخل الممرات الاسرائيلية التي تحافظ على تواصل اقليمي بين اسرائيل والكتل الاستيطانية الاسرائيلية داخل مناطق السلطة. لقد طبقت هذه الخطة اثناء الاغلاق العسكري الذي تمّ يوم 28/9/2000 في كل من الضفة والقطاع.
ولمزيد من توضيح اهداف هذه الخطة نورد ما قاله شارون نفسه رداً على سؤال بهذا الخصوص وهو: هل ما تقوله للعرب ولليهود هو ان اخلاء المستوطنات غير وارد في الحسبان وان الخارطة التي رسمتها قبل سنوات هي الخارطة التي يجب ان يخضع لها كل اتفاق؟ فأجاب:”هل يمكن اليوم التنازل عن السيطرة على قمة الجبل الذي يزودنا بثلث ما نستهلكه من مياه؟ هل يمكن التنازل عن المنطقة العازلة في غور الاردن؟ واضح انه ليس صدفة ان المستوطنات قد اقيمت في الاماكن التي تقوم عليها. انها تحافظ على مسقط رأس الشعب اليهودي, وتمنحنا, ايضاً, العمق الاستراتيجي الحيوي لوجودنا. لقد بنيت المستوطنات بناء على مفهوم ان علينا, في كل الاحوال, السيطرة على المنطقة الامنية الغربية, المحاذية للخط الاخضر, وعلى المنطقة الامنية الشرقية على طول نهر الاردن, وعلى الطرق التي تربط في ما بينها جميعاً, وعلى القدس, طبعاً وقمة الجبل. في كل هذه الامور لم يطرأ اي تغيير. اهمية المناطق الامنية لم تقلّ بل ربما ازدادت. لذلك انا لا أرى سبباً لاخلاء أي من المستوطنات. وفي الاساس طالما لم يتحقق السلام سنبقى نقيم هناك. واذا حل السلام, مع مرور الايام, وبمساعدة القدير, بالتأكيد لن يكون ثمة ما يمنع بقاءها هناك. الا تقيم في الناصرة العليا, مئات العائلات العربية وكذلك في بئر السبع واللّد والرملة؟ اذاً لماذا على سكان المستوطنات اليهودية في الضفة ان ينزعجوا؟” وعندما سئل: ألن تتكرر قصة ياميت؟ (وهي المستوطنة التي ازيلت من سيناء اثر اتفاق الصلح المنفرد مع مصر) اجاب: لا, بالتاكيد لا([19]).
وهكذا يتضح ان فكرة بناء الجدار العازل, انما تأتي على ارضية رؤية شارون الامنية الاستراتيجية الشاملة التي تتذرع بالامن وتعمل على اعطائه مضموناً جغرافياً عسكرياً من خلال القول ان الحدود الآمنة ليست هي خطوط ما قبل حزيران 1967 , وان البحث في الحدود الآمنة هو بحث في امن اسرائيل لوحده, ووفقاً للرؤى والمصطلحات الاسرائيلية لوحدها, دون غيرها, على جميع الصعد والمستويات.
ومن مراجعة ارشيف الاعتداءات الاسرائيلية المختلفة على الارض والانسان العربيين, نجد ان تلك الاعتداءات ترتبط باحتياجات الهجرة اليهودية والاطماع الاقتصادية التي هي من العوامل الاساسية في تحريك سياسة اسرائيل المرحلية بشأن التوسع الاقليمي. اما ما يتردد عن الحدود الآمنة فهذا مجرد تعبير مرن يعتبر مرادفاً للتوسع التدريجي غير المحدد والذي يربط مسألة حدود اسرائيل الغامضة بعامل متحرك وغامض ايضاً هو امن اسرائيل الذي بمقتضاه يتم تحريك خطوط الفصل والوصل الاقليمية في الاتجاه والعمق المناسبين. وعلى هذا الاساس يأتي تطبيق فكرة الجدار الفاصل, بمثابة اجراء مرحلي اضطراري هدفه توفير الظروف المناسبة لهضم المناطق المحتلة, وهي ظروف ترتبط بالعوامل التالية:
- زيادة الهجرة اليهودية بالقدر الذي يسمح بالتوازن النسبي في التركيب الديموغرافي, بما يتناسب مع اجراءات ضم اجزاء من المناطق المحتلة ضماً كاملاً.
- الطرد المنهجي والتدريجي للعرب و الفلسطينيين الذين تراهم اسرائيل مناوئين لمشروعها التوسعي بشكل خاص.
- ايجاد امر واقع اسرائيلي غير قابل للتراجع في هذه المناطق المحتلة بواسطة الاستيطان الزاحف والمستمر من دون توقف.
والجدير بالذكر انه على الرغم من هذه السياسة العدوانية التوسعية, فلقد صدرت دعوات عديدة في الصحف الاسرائيلية تدعو الى تحطيم هذه الحلقة المفرغة ووقف هذه السياسة العبثية المناقضة لابسط قواعد المنطق وحقوق الانسان. فالكاتب “ا.ب. يهوشواع” وجه في صحيفة يديعوت احرونوت بتاريخ 22/11/2000 نداء الى المستوطنين في الضفة والقطاع يقول فيه: “هل كنتم تفتقرون الى مساحة في دولة اسرائيل عندما انتقلتم الى قطاع غزة وقلب منطقة نابلس؟ هل صارت منطقة الجليل مليئة تماماً؟ الم يكن لديكم مجال في مساحات النقب الواسعة؟ هل كانت قلوبكم مغلقة بحيث لم تدركوا الثمن الفظيع لغرس مستوطناتكم العنيدة في وسط التجمعات الفلسطينية, ضمن سكان اغراب تماماً... ذلك الثمن الفظيع الذي نتحمله وتتحملونه نتيجة ابقائنا مئات الوف الناس من دون حقوق انسانية وتحت الاحتلال؟”
ويتابع يهوشواع قوله: “اخبروني, هل في وسعكم ان تذكروا مثالاً واحداً في التاريخ لامة نجحت في فرض حكمها على شعب آخر لمدة طويلة؟ اتعرفون أي مكان في العالم يعيش فيه الناس في وطنهم, من دون حقوق انسانية مثل الفلسطينيين؟! عودوا من المنفى الفلسطيني, فبهذا وحده يمكننا رسم حدود حقيقية, حدود راسخة تفصلنا عن دولة فلسطين. بهذا وحده يمكننا ايضاً ان ندافع بصورة افضل عن اسرائيل ونحاول ان نعيش يوماً كجيران مسالمين”([20]).
الا ان مثل هذه النداءات لا وزن لها ولا مكان في عقل شارون الشوفيني التدميري العنصري الذي لا يقيم أي اهمية لاصحاب الارض, بل يهتم فقط بالمصلحة اليهودية الصهيونية لوحدها, مهما تسببت هذه المصلحة من معاناة ومآس انسانية للمواطنين العرب, فالعربي الجيد حسب نظريته هو العربي الميت, والارض الفلسطينية بل وحتى العربية مباحة لليهود, حتى لو استجلبوا من اقاصي الدنيا.
المخطط الميداني لبناء الجدار
بعد مرور سبعة اشهر على تسلم شارون سدة الحكم في اسرائيل, وبعد ان تبين له عجزه عن الوفاء بتحقيق الامن والسلام والاستقرار للمستوطنين اثر مضي فترة المئة يوم الاولى التي وعد بانه سيحقق خلالها النصر على الانتفاضة الفلسطينية, وبعد ان استمر الشعب الفلسطيني بعطاءاته غير المحدودة من الاعناق والارزاق, اصدر امره لقائد الجيش في الضفة الغربية من اجل “اغلاق” ومصادرة 69 الف دونم من اراضي منطقة جنين المحاذية للخط الاخضر لما وصفه بـ”اغراض عسكرية” تبين اخيراً انها من اجل اقامة جدار الفصل. وتمتد هذه الاراضي من قرية تعنك شمالاً حتى قرية باقة الشرقية قرب طولكرم جنوباً. وتوالت في اعقاب ذلك القرارات المتتالية القاضية باغلاق المزيد من الاراضي الفلسطينية في مناطق اخرى تبعد عن الخط الاخضر ما بين 3 و15 كلم شرقاً للاغراض ذاتها. ففي الثاني والعشرين من شهر آذار من هذا العام اصدر الجيش الاسرائيلي قراراً يقضي باغلاق عشرة آلاف دونم اخرى من اراضي طولكرم وذلك في قرى الراس وكفرصور وفرعون وجبارة([21]).
وفي الثلاثين من آذار والثلاثين من حزيران من هذا العام ايضاً, صدر قراران يقضيان بإغلاق مساحات واسعة اخرى من اراض في قرى منطقة سلفيت للغرض نفسه.
اما في قلقيليا فقد وجد الجيش اراض كانت قد صودرت في فترات سابقة للشروع بإقامة الجدار عليها من دون ضجيج.
وقال مواطنون بأنه جرى حفر خندق بطول كيلومترين على امتداد المدينة مع الخط الاخضر, وانه جرى اقامة نحو 50 متراً من الجدار. ويبلغ عرض الخندق 4 أمتار وعمقه 4 أمتار. وبحسب الاعلان, فالمرحلة الاولى من بناء الجدار تشمل 110 كلم تمتد من قرية سالم قرب مدينة جنين في الشمال وحتى قرية كفرقاسم في المثلث الجنوبي. وتشمل هذه المرحلة ايضاً اقامة سياج حول مدينة القدس المحتلة لمنع وصول اهالي الضفة الغربية اليها في اطار خطة “حاضن القدس” كما تسميها اسرائيل. وهو جدار يقضم اكثر من 200 كلم2 من الاراضي الفلسطينية ويضمها عملياً الى نفوذ حدود بلدية القدس الاسرائيلية في تنفيذ دقيق لمخطط رئيس الوزراء الاسرائيلي المتعلق بـ “القدس الكبرى”.
ويؤكد مدير دائرة الخرائط في “بيت الشرق”, خليل تفكجي, ان آرييل شارون يسعى الى استغلال الاوضاع الامنية لتنفيذ مخططه الذي يوسع نفوذ بلدية القدس الاسرائيلية ليشمل 800 كلم2, أي ما يعادل 10% من المساحة الاجمالية للضفة الغربية. ويبلغ مسار الجدار في مرحلته الاولية, وفقا لما ذكرته صحيفة يديعوت احرونوت بتاريخ 25/6/2002, 160كلم. ويبدأ في الجزء الشمالي من مدينة القدس جنوبي بلدة بيتونيا, ويضم معسكر”عوفر” الذي حول مؤخراً الى معسكر اعتقال لمئات الفلسطينيين ويمر في المنطقة الصناعية الاسرائيلية “عطروت” جنوبي قلنديا. اما في الجزء الجنوبي فيضم جدار القدس مستعمرة “معاليه ادوميم” التي تتجاوز مساحتها الهيكلية مساحة تل ابيب , ويمتد حتى مستعمرة “هار حوما” (جبل ابو غنيم) شمالي بيت لحم, ثم مستعمرة “غيلو”. ويوضح التفكجي ان اقامة الجدار ستضم الارض من دون السكان وتترك محيط القرى التي ستصادر اراضيها في مناطق معزولة من دون أي امكانية للنمو.
ومن المقرر ان يستكمل انشاء جدار الضفة في مرحلته الثانية لاحقاً, بطول 260 كلم([22]). وذكرت وكالة رويترز انه يفترض ان تستمر الاعمال التي تبلغ كلفتها 400 مليون شيكل (نحو80 مليون دولار) مدة ستة اشهر وان تعزل مدن جنين وطولكرم وقلقيليا الفلسطينية عن الاراضي المحتلة عام 1948.
وتضيف الوكالة ان الاعمال بدأت في قطاع حساس للغاية تسلل منه استشهاديون فلسطينيون خلال الاشهر الماضية. والمفترض ان يمتد القسم الاول من الجدار المبني على طول 120 كلم من الشمال الى الجنوب حتى بلدة كفرقاسم التي تبعد نحو 20 كلم شرقي تل ابيب. وسيتم تزويد الجدار بأدوات الكترونية للمراقبة, كما وسيتم تعزيزه بالعديد من العوائق لمنع مرور السيارات([23]). ومن المتوقع ان يشكل هذا الجدار مأساة حقيقية لاربعين الف فلسطيني لن يكون بإمكانهم بعد انتهاء مراحله ان يحددوا لأي جانب يتبعون, خصوصاً انهم سيكونون في داخل اطار هذا الجدار. وقد اكد كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات ان بناء الجدار “خطير جداً”. وهو تكريس للاحتلال والاستيطان. وشارون يطبق بذلك خطته المسماة بالمرحلة الانتقالية الطويلة الامد على 42% من الارض”([24]).
واكد عريقات ان “11 قرية وتجمعاً فلسطينياً ستكون داخل الجدار الامني مثل قرية الرمانة والجاروشة وباقة الشرقية وعانين ونزلة عيسى وابو نادر. واهالي هذه القرى لايعرفون الى أي جانب (سيتبعون) وهو امر خطير للغاية”([25]).
واعتبر وزير الاعلام الفلسطيني ياسر عبد ربه ان المسألة ليست “مسألة جدار كما يزعمون بل هي محاولة لاقتطاع مناطق واسعة من الاراضي الفلسطينية وضم قرى واراض زراعية واسعة وتحويل سكانها الى سكان يعيشون في معازل”([26]).
اما مجلة “كوريية انترناسيونال” فذكرت ان القسم الاول من الجدار سيمتد على 115 كلم وهو يبدأ من منطقة كفرسالم شمالي اسرائيل ويتجه نحو الجنوب حتى ناحية كفرقاسم على بعد بضعة كيلومترات شرقي تل ابيب([27]).
وتضيف الصحيفة ان كلفة الكيلومتر الواحد من بناء الجدار الجديد تصل الى مليون دولار. والجدار جزء من موضوع اوسع لبناء حاجز طوله 350 كلم وهو على شكل اسلاك شائكة وقوالب اسمنتية. ويهدف الى فصل الارض الاسرائيلية عن المدن الفلسطينية في الضفة الغربية ووضع حد لتسلل الاستشهاديين الفلسطينيين([28]).
من الناحية العملية بات الجدار الجديد, الذي هو قيد الانشاء بمثابة خط الحدود بين اسرائيل والضفة الغربية بعد قضم مئات الدونمات من اراضيها وضمها, وهو يشمل ايضاً ضم القدس الشرقية التي يطالب الفلسطينيون بها لتكون عاصمة لدولتهم المنشودة.
وقد علقت صحيفة القدس الفلسطينية على اقامة الجدار بالقول: “ان اسرائيل ترتكب خطأً فادحاً اذا ظنت بأنه يمكنها وضع الفلسطينيين في غيتو لتراقبهم عن كثب, وفي الوقت نفسه تحافظ على امنها”([29]).
اما خليل تفكجي, رئيس قسم الخرائط في جمعية الدراسات العربية, وهو من ابرز الخبراء في شؤون الاستيطان اليهودي, فاعتبر ان شارون “هو السياسي الوحيد في اسرائيل الذي لديه خريطة للتوسع الاسرائيلي في الاراضي الفلسطينية” جازماً بأن الجيش الاسرائيلي منذ العام الماضي قد بدأ بتطبيق هذه الخريطة على الارض. ويضيف ان عمق الحزام الامني الغربي حسب خطة شارون يتراوح بين 3 الى 15 كيلومتراً. اما عمق الحزام الشرقي فيمتد من السفوح الشرقية للجبال الشرقية المطلة على الغور وحتى النهر (الاردن), وهذه المنطقة معتبرة منطقة مغلقة امنياً بموجب قرار عسكري اسرائيلي.
ويقول التفكجي ان الجيش الاسرائيلي كان قد اصدر منذ السنوات الاولى للاحتلال عام 1968 قراراً بإغلاق هذه الاراضي لاغراض امنية لمدة عشر سنوات كانت تتجدد بصورة تلقائية, الامر الذي ادى الى خفض عدد السكان الفلسطينيين في هذه المناطق
([30]).
ويوضح التفكجي ان شارون بلور خطته هذه عندما تولى وزارتي الاسكان والدفاع في حكومات الليكود المتعاقبة, وهي تقضي بضم نحو 22% من مساحة الضفة الغربية المحتلة([31]). وحين عرض شارون خارطة الجدار على حكومته اعترف وزير الخارجية, شمعون بيريس, بأن الخارطة تقطع مساحة كبيرة من الضفة وانها ليست خارطة امنية بقدر ما هي خارطة ضم للاراضي, خصوصاً في غور الاردن حيث من شأن الجدار ان يقطع اوصال الضفة الغربية([32]). واعترف بيريس ان السياجات والخنادق والاسلحة لن تحقق الامن للاسرائيليين وأضاف: “الطريق السليم للوصول الى الامن هو السلام”([33]). هذا في حين انه واصل عمله تحت ادارة شارون ويرفض الاستقالة من حكومته الشوفينية العنصرية.
الجدير بالذكر اخيراً في هذا المحور ان شارون شخصياً كان قد قاوم فكرة بناء الجدار الفاصل على اعتبار ان الاستيطان الحر وغير المقيد في اراضي الضفة والقطاع هو من الاعتبارات الاهم في حياته السياسية. وهو يخشى من ان يتحول سياج كهذا, بمرور الزمن, الى الحدود الرسمية الشرقية لاسرائيل, ما يعني عزل نحو 114 مستوطنة في الضفة عن بقية اسرائيل([34]). لكن يبدو انه رضخ في النهاية لضغوطات وزير دفاعه بنيامين بن أليعازر الذي رأى مع كبار مستشاريه العسكريين انه لا توجد وسيلة حقيقية لدى اسرائيل لمنع عمليات الاستشهاديين, وان جل ما يمكن عمله هو خفض عدد هذه العمليات على بعض المواقع الاسرائيلية المعرضة اكثر من غيرها, خصوصاً وان محاولة تحميل السيد عرفات المسؤولية عن فعل هذه العمليات, تبدو سخيفة امام الرأي العام العالمي, اذا اخذنا بعين الاعتبار حجم الدمار الذي لحق بالسلطة الفلسطينية بضوء اخضر اميركي نتيجة لعمليات شارون المتواصلة في التدمير المنهجي لجميع معالم البنية التحتية الاقتصادية والامنية والسياسية الخاصة بالسلطة الوطنية الفلسطينية.
وقد رأى بعض جنرالات اسرائيل ان اقامة الجدار الجديد في الضفة الغربية يأتي استمراراً منطقياً لترتيبات اسرائيل الامنية على جميع حدودها, فهناك الخط الازرق وسائر الحواجز والعوائق الكبيرة مع لبنان, وخطوط التسويات السلمية مع مصر والاردن, وخطوط وقف النار المقدسة مع سوريا, اضافة الى العزل التام والكامل لقطاع غزة.
الجدار في ميزان التأييد والرفض
اعرب 71% من الاسرائيليين الذين شملهم استطلاع للرأي اجرته صحيفة جيروزاليم بوست عن تأييدهم للجدار الامني الذي يفصل اسرائيل عن الضفة الغربية ويتم تطبيقه من طرف واحد, عن طريق اقامة اسوار ومناطق عازلة بين الجانبين([35]). ويرى هؤلاء ان بناء الجدار من شأنه ان يطلق العنان لمشروع شارون المعروف بمشروع النجوم, الذي يقضي ببناء مستوطنات على طول الخط الاخضر من اجل محو ملامح هذا الخط نهائياً.
الا ان هذا التأييد الشعبي لا يغني عن وجود تأييد رسمي ازاءه. فاليمين يعترض على الجدار مخافة ان يفهم بأنه تقسيم لارض اسرائيل الكاملة, واليسار يعترض عليه لكونه يقرر من طرف واحد امراً في منتهى الخطورة ويحتاج الى التفاوض والتفاهم حتى يبقى ويستمر, وفي ما يلي بعض النماذج من هذه الآراء:
وزير المواصلات افرايم سنيه (من حزب العمل طالب بإقامة الجدار بمحاذاة خط التماس الفاصل بين اسرائيل والمناطق الفلسطينية على الخط الاخضر. ورأى ان هناك ثلاث مناطق بين طولكرم وقلقيلية, منطقة قرية زيتا ومنطقة قرية برطعه يتواجد الجدار فيها شرقي خط التماس اكثر من المطلوب. واعلن انه يوافق على ضم مستوطنة الفيه مناشيه الى داخل الجدار. وبعكس ذلك طالب زعيم حزب شاس, ايلي يشاي بأن يتم دفع الجدار نحو الشرق قدر الامكان لكي يضم اكبر عدد ممكن من المستوطنات. وطالب يشاي بأن تتم المباشرة بالعمل ببناء الجدار الفاصل في منطقة القدس ايضاً وشمالي الضفة, وان يتم فحص الجدار بعد مرور فترة اربعة اشهر من البدء في بنائه بما في ذلك فحص تكلفة البناء وقدرة الجيش على صيانته. وقد اتهم آفي ايتام, زعيم حزب المفدال الديني القومي المتطرف, وزير الدفاع بن أليعازر ببناء حدود سياسية للدولة الفلسطينية المقبلة بسبب اقامة الجدار. وطالب ببناء جدار غير متواصل ومراعاة أوامر اطلاق النار على من يحاولون الاقتراب منه.
واكدت الوزيرة ليمور ليفنات (الليكود) على ضرورة بناء جدار امني لا صفة سياسية له وان يضم معظم المستوطنات اليهودية داخله, وضم اكبر عدد ممكن من القرى العربية, وقالت انه يجب بناء جدران حول المستوطنات اليهودية المتبقية خارج الجدار.
على الصعد السياسية الاخرى اكد الناطق بلسان وزارة الخارجية الاميركية ريتشارد باوتشر ان واشنطن تعارض اقامة الجدار لان الوضع النهائي للحدود بين الإسرائيليين والفلسطينيين يجب حلها من خلال التفاوض([36]). كذلك اعتبرت قمة اشبيليا الاوروبية المنعقدة في شهر حزيران في بيانها الختامي ان الجدار الذي بدأت اسرائيل بإقامته حول الاراضي الفلسطينية, لا يمكن ان يؤدي الى السلام([37]).
وقال الكاتب الاسرائيلي يوآف غلبر([38]) ان الجدار”ليس حاجزاً لا يمكن اختراقه. وحين يصنعون منه مشروعاً وطنياً وراية سياسية فإنهم يضللون ويخدعون الجمهور”. واضاف “ان الفلسطينيين طوروا قنبلة اذكى من كل القنابل. قنبلة ذات عقل بشري قادرة على اختيار الاهداف والتغلب على العقبات التي تصادفها, وقادرة على التنكر والتمويه. وقيدها الاساسي هو جودة وكمية المواد الناسفة فيها, كذلك في هذا المجال يمكن توقع تطويرها. لا يمكن مواجهة هذه القنابل بعد ان تطلق. وحتى عندما يقام الجدار سيواصل العدو ارسالها بطائرات شراعية فوق الجدار او بأنفاق تحته, او عبر مداخله وبمختلف الاحاييل. والوسيلة الوحيدة لمواجهتها هي منع ارسالها, وذلك من خلال المس بالتحريض الذي ينتجها وبالمحيط الذي يرسلها وبمظاهر الفرح بعد تفجيرها. وهذا لا يمكن فعله من وراء جدار”.
واعتبر الكاتب حيمي شاليف في صحيفة معاريف ان اقامة الجدار هي بمثابة شرّ لا بد منه بعد انهيار عملية التسوية وفشل الخيار العسكري في قمع الانتفاضة. وقال جدعون سامت في هآرتس ان من المساوئ والسلبيات التي يعاني منها الجدار ما يجعله يتحول الى مجرد نصب تذكاري داخل الفراغ السياسي([39]).
اما في الجانب الفلسطيني فقد اعتبر الدكتور عبد العزيز الرنتيسي القيادي البارز في حركة حماس “ان الكيان الصهيوني استخدم في السابق اساليب مختلفة لوقف المقاومة لكنها فشلت جميعاً مثلما استخدمت في لبنان منطقة الحزام الامني وفشلت”. وكذلك اكد ايضا الشيخ عبد الله الشامي, القيادي البارز في حركة الجهاد الاسلامي, ان الجدار ابداع وانتاج بشري وعقلي, وبالتالي فإن المقاومة الفلسطينية لها ايضا عقول مبدعة وبوسعها ان تطور ادواتها واساليبها للتغلب عليه.
خلاصة واستنتاجات
في هذا القسم الاخير من البحث لا بد من طرح السؤال حول حسابات الربح والخسارة من جراء بناء الجدار الفاصل على المستويين التكتيكي والاستراتيجي. ومن خلال استقراء وتحليل الآراء والمواقف التي اعطيت في هذا المجال للعديد من الكتاب والباحثين يمكننا اولا تسجيل الملاحظات التالية:
1- هناك اجماع شامل في اسرائيل, يضم القوى المحسوبة على اقصى اليسار واقصى الاعتدال, على عدم العودة الى حدود ما قبل الرابع من حزيران 1967 . وبالتالي فالجدار بالنسبة لهذه القوى في هذا المجال يعتبر مسألة فيها نظر.
2- هناك شبه اتفاق كامل على الحد الادنى من الاراضي الواجب ضمها الى اسرائيل والمعتبرة بأنها حيوية لبقاء وامن الكيان.
3- على الرغم من بناء الجدار فثمة تكتيك يقضي بعدم الافصاح صراحة عن المناطق المطلوبة كحد نهائي على قاعدة ما لنا لنا لوحدنا وما للفلسطينيين لنا ولهم, الامر الذي يترك مسألة الضم الزاحف للاراضي الفلسطينية مفتوحة وفقاً للظروف الملائمة.
4- الاعتماد على فرض سياسة الامر الواقع بواسطة الاستيطان الزاحف مع عدم الشروع في اتخاذ الاجراءات القانونية او السياسية بضم المناطق المطلوبة.
5- تتم مراعاة العامل الديموغرافي في كل هذه الخطوات والاجراءات مع الابتعاد عن اجراء طرد المواطنين الفلسطينيين بشكل جماعي وسريع خوفاً من ردود الفعل المحلية والعربية والدولية, واعتماد سياسة التيئيس البعيدة المدى والطويلة النفس, لتحقيق هذه الغاية.
6- العمل على عزل الضفة الغربية وتقطيع اوصالها, بإقامة حواجز بشرية استيطانية بالاضافة الى الحواجز والعوائق المادية الاخرى. وكذلك هي الحال بالنسبة لقطاع غزة.
7- ربط المناطق اليهودية بشبكة من الخدمات والتسهيلات (طرق مواصلات واتصالات, واجراءات حماية, وتقديم مساعدات واعفاءات ضريبية للمستوطنين).
8- الاهتمام الطارئ والمباشر بتسريع حركة الهجرة اليهودية من الدول الاوروبية واميركا الشمالية والجنوبية بنوع خاص.
في ضوء هذه المعطيات يرى الباحث الاسرائيلي ميرون بنفنستي ان واقع الثنائية القومية في الاراضي المحتلة عام 1967, يفرض الفصل بين الشعبين, وبخاصة ان التقسيم القومي والوطني لا يتيح الفرصة لاقامة نظام حكم يستند على الديمقراطية اللليبرالية السياسية. ويضيف ان مبدأ المساواة المدنية غير قابل للتنفيذ على ارض الواقع, على ضوء وجود طوائف وكتل بشرية قوية وصامدة, ولا سيما ان النقاش ليس محصوراً في موضوع المساواة الشخصية, بل هو يتناول ايضاً الحقوق العامة والتامة. ورأى ان مثل هذا الفصل يمكن ان يكون عمودياً مثلما هي الحال بالنسبة لبناء الجدار, وهذا يعني قيام وحدتين جيوسياسيتين فلسطينية واسرائيلية منفصلتين, او افقياً وهذا يعني ضرورة الوصول الى تسويات على صعيد المشاركة في الحكم والادارة, وفي هذا اقرار بوجود ثنائية القومية. والسؤال الكبير المطروح على الاسرائيليين هو: “ايهما يجب علينا اختياره, ليس فقط من الناحية الايديو لوجية, وانما من الناحية العملية”([40]).
واعتبر دان مرغليت ان هناك ائتلافاً بين ثلاثة عناصر تعمل على نسف مشروع الفصل وهي:
1- المؤمنون بأرض اسرائيل الكاملة, الذين يخشون بصدق تطبيق الفصل الذي سيؤدي الى وداع معظم اراضي يهودا والسامرة (الضفة الغربية) لذا فإن معظمهم يعارضون حتى الانسحاب من غزة واريحا.
2- عناصر سياسية يسارية متطرفة تحاول تبديد الطابع اليهودي لاسرائيل وتعتبر ان الفصل سيؤدي الى اضعاف وزن الاقلية العربية من الناحية الديموغرافية.
3- السياسيون ورجال الاعمال الذين تبنوا شعار رئيس الولايات المتحدة الذي يقول ان العمل في النهاية هو ما تريده اميركا. وهؤلاء يصرون على انفاذ هذه الارادة في الشرق الاوسط.([41])
اما الباحث مارتن فان كريفلد فرأى ان “شارون شخصية مثقفة, ولكن الواقع يحوّل كل واحد منا الى أخرق. وهذا يفسر لماذا نغير سياستنا كل يوم. مرة يجب علينا ان نضرب ببطش شديد, ومرة نريد وقف اطلاق النار, ومرة نقوم بعمليات تصفية محدودة, ومرة نحاصر عرفات, ومرة نحرره”. ويصل الى اختصار مشكلة هذا التخبط بالقول: “المشكلة تكمن في سكان المناطق المحتلة الذين لا يمكننا ان نفعل أي شيء ضدهم لاننا لا نملك هدفاً”.
وايدت يائيل تامير, الاستاذة في جامعة تل ابيب, ما اسمته “فك الاشتباك الاحادي الجانب”, من منطلق ان اسرائيل يجب ان تبقى “دولة يهودية وديمقراطية” لها حدود تفصل في ما بينها وبين الفلسطينيين([42]).
ورأت ان من ايجابيات هذا الفصل:
- حفظ الطابع اليهودي للدولة.
- المساهمة في تعزيز الامن الشخصي للإسرائيليين وفي تقليص احتمال نشوب الخلافات والاحتكاكات مع المواطنين الفلسطينيين ولو بصورة جزئية.
- يوجد لدى الاسرائيليين انطباعاً بأنهم يتحكمون بمصيرهم ويستطيعون رسم حدود لدولتهم.
اما السلبيات فهي:
- لايحل مشكلة القدس وسكانها.
- يستلزم اجلاء بعض اليهود عن بعض المستوطنات.
- يترك اكثر من ربع مليون فلسطيني تحت الحكم الاسرائيلي.
- يوجد انطباعاً بأن اسرائيل تنازلت وتراجعت امام “الارهاب”. والجدير بالذكر في هذا المجال ان نائب وزير الدفاع الاميركي دوغلاس فيث , عندما زار فلسطين المحتلة في شهر أيار الماضي من هذا العام, لام شارون على فكرة “الجدار الفاصل” معتبراً ذلك مؤشر ضعف, وقال لشارون حرفياً: “يجب على اسرائيل ان تهزم بالوسائل العسكرية فقط, اولئك الذين ينتجون الارهاب ضدها, واي فشل من جانبكم, لا سمح الله, سوف يشجع الارهاب الدولي على تصدير هذا المنتج الى كل مكان في الكرة الارضية”.
- يترك المجال امام تحول الاراضي, التي سيتم اجلاؤها من قبل الاسرائيليين, الى قاعدة انطلاق جديدة للمقاومة.
- خيار الفصل من شأنه ان يزيد من مشاكل العلاقات الثنائية الاسرائيلية الفلسطينية على صعيد المياه والخدمات الصحية والتجارة وسائر الشؤون الاقتصادية, التي من شأنها ان تلحق الضرر الكبير بالاقتصاد الاسرائيلي.
- خيار الفصل يوجد داخل اسرائيل جواً من الشقاق والاختلاف على مستوى الخطاب القومي الذي يصبح محكوماً بدينامية “نحن” و”هم”.
- يوجد الفرصة امام اعلان دولة فلسطينية من طرف واحد.
- يلغي اتفاقيات التسوية في اوسلو نهائياً.
- يؤدي الى زيادة تفاقم المقاطعة العربية.
- يزيد من حدة العنف على حدود الفصل الجديدة. ولذلك لا بد من تنسيق هذا الفصل مع بلدان عربية اخرى.
- يترك موضوعي القدس واللاجئين مفتوحين الى الابد.
- يثير اشكالات على مستوى القوانين الدولية وحقوق الانسان.
ويضيف باحثون اسرائيليون آخرون سلبيات عديدة ايضاً الى تنفيذ خطة الفصل بواسطة “الجدار الامني” من ضمنها:
- ارتفاع كلفة انجاز الجدار التي يمكن ان تصل حتى مليار دولار.
- ضرورة حمايته وحراسته وصيانته مما يستوجب, حسب تعبير دان كسبيت في هآرتس, جيشاً كجيش الصين لحمايته.
- يؤدي الى امكانية ارتكاب اخطاء قاتلة على صعيد أوامر اطلاق النار في نقاط المراقبة والتفتيش.
واخيراً, ومهما تكن حسابات السلب والايجاب الاسرائيلية المتعلقة بإقامة جدار الفصل, فإن هذا الجدار في الحسابات الفلسطينية والعربية ما هو سوى تعبير عملي اضافي, يؤكد عنصرية الكيان الصهيوني وشراهته التوسعية اللا محدودة القائمة على القضم التدريجي المتواصل للاراضي والحقوق الفلسطينية المنصوص عليها في قرارات الشرعية الدولية الكثيرة والتي تضرب بها اسرائيل عرض الحائط بفضل الدعم والتأييد العسكري والديبلوماسي والاقتصادي غير المحدود من جانب الدولة الراعية الام, الولايات المتحدة, لكل هذه الغطرسة المتناقضة تماماً مع حقوق الانسان وأبرزها حق تقرير المصير.
[1] موسوعة السياسة, الطبعة الاولى 1979, د.عبد الوهاب الكيالي, ج1 , ص 521.
[2] الحياة البيروتية ,24/6/2002 , اسرائيل وجدارها الواقي, سيريل تاوسند.
[3] المصدر نفسه.
[4] المصدر نفسه.
[5] أنظر في هذا الشأن مجلة الارض , العدد الاول, كانون الثاني 2002 ص 31 وما بعدها.
[6] مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 40, خريف العام 1999 ,ص153154 نقلاً عن الجيروزاليم بوست طبعة الانترنت في 24 و28/9/1999 من مقابلة مع باراك اجراها دفيد ماكوفسكي ودانا هرمان .
[7] المستقبل , بيروت, 21/10/1999.
[8] المستقبل بيروت 23/10/1999.
[9] هآرتس 3/11/2000 ص1, باراك يخطط للفصل, اورا كورين.
[10] مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 47, صيف 2001 ص99, 100.
[11] هآرتس 13/2/2001 اوري شافيط , المفاضلة بين عالمي شارون وباراك.
[12] المصدر السابق.
[13] المصدر نفسه.
[14] المصدر السابق ص176. وايضاً هآرتس 13/4/2001 من مقابلة اجراها الصحافي اوري شافيط مع شارون وردت ترجمتها على موقع ww.alkashaf.com
[15] الحياة 29/6/2002, هل ينجح الجدار الفاصل, علي بدوان.
[16] هآرتس 24/8/2001 شلوموافنيري, “اليسار والاله الذي خيب الرجاء”.
[17] يديعوت احرونوت , 16/9/2001, ايلي بن اليسار:”اتجاهات البلبلة”.
[18] مختارات اسرائيلية, رقم3, ص78, خطة الفصل الاسرائيلية, ليست جديدة, بيسان عدوان.
[19] هآرتس 13/4/2001, شارون هو ذاته, اوري شافيط.
[20] الحياة , 23/11/2000.
[21] محمد دراغمة , حزام امني غربي...وآخر شرقي, موقع اسلام اون لاين. نت 31/5/2002.
[22] المصدر السابق
[23] السفير 17/6/2002 اسرائيل تبدأ بناء السياج .
[24] المصدر السابق.
[25] المصدر نفسه.
[26] المصدر نفسه.
[27] الديار 20/6/2002 .
[28] المصدر السابق.
[29] المصدر نفسه.
[30] محمد دراغمة مصدر سابق.
[31] صحيفة تشرين السورية 25/6/2002 مخططات شارون.
[32] المصدر نفسه.