- En
- Fr
- عربي
نحن والقانون
ما هي عناصرها والى أي مدى تصل عقوبتها؟
كلمة افتراء مشتقة لغوياً من كلمة فريّة، ومرادفها الكذب والاختلاق بهدف الصاق تهمة شائنة كاذبة بأحد الناس. أما الإفتراء قانوناً فيعني أن شخصاً افترى على آخر فألصق به زوراً جريمة لم يرتكبها. فالإفتراء هو اعتداء على الانسان لما يشكّله من مساس بكرامته وسمعته وشرفه، ولما قد يسببه من احتمال صدور حكم قضائي مبني على وقائع غير صحيحة نتيجة الشكاية المفترية، فتنزل عقوبة بحق إنسان بريء مما نُسب اليه. إضافة إلى ما قد يسببه الإفتراء من تواتر الأخبار عن الشخص المفترى عليه بشكل يحطّ من قدره وكرامته وسمعته واعتباره بين أهله ومجتمعه، ما قد يدفعه إلى الهجرة إلى مكان آخر غريب عنه بعيداً عن عائلته وأهله، أو قد يدفعه إلى الانتحار أحياناً يأساً من عجزه عن مواجهة ما نسب اليه من جرائم مشينة هو منها براء، إذ أن حكم الناس والرأي العام يكون أحياناً أشد إيذاء وقسوة من حكم القضاء، فلا يرحم ولا يغفر ولا يمحى حتى ولو ظهرت براءة المفترى عليه بحكم قضائي مبرم.
كما أن الإفتراء يعترض حسن سير العدالة القضائية، فيسيء إلى صدقيتها ونزاهتها، ويؤدي إلى تغيير اتجاهها السليم، لأن الكذب المقصود واختلاق الجرائم من بعض المدعين أو الشاكين أو المخبرين قد يحدثان الخلل والاضطراب في تحقيق العدل نتيجة تأثير تلك الإفتراءات والأكاذيب في أعمال التحقيق والحكم وتقدير القضاء.
إن اهتمام الشرائع والقوانين بجريمة الإفتراء والمعاقبة على اختلاق الجرائم قديم في التاريخ، والقانون اللبناني أحد القوانين التي جرّمت الافتراء واختلاق الجرائم، حيث نصت المادة 402 من قانون العقوبات على أنه «من أخبر السلطة القضائية أو سلطة يجب عليها إبلاغ السلطة القضائية عن جريمة يعرف أنها لم تقترف ومَن كان سبباً في مباشرة تحقيق تمهيدي أو قضائي باختلاقه أدلة مادية على جريمة كهذه، عوقب بالحبس مدة لا تجاوز الستة أشهر وبغرامة لا تزيد على مئة ألف ليرة أو بإحدى العقوبتين». كما نصت المادة 403 من قانون العقوبات على أنه «من قدّم شكاية أو إخباراً إلى السلطة القضائية أو إلى سلطة يجب عليها إبلاغ السلطة القضائية فعزا إلى أحد الناس جنحة أو مخالفة يعرف براءته منها أو اختلق عليه أدلة مادية على وقوع مثل هذا الجرم، عوقب بالحبس من شهر إلى ثلاث سنوات. وإذا كان الفعل المعزو يؤلف جناية عوقب المفتري بالأشغال الشاقة المؤقتة عشر سنوات على الأكثر. وإذا أفضى الإفتراء إلى حكم بالاعدام أو بعقوبة مؤبدة فلا تنقص عقوبة الأشغال الشاقة عن عشر سنوات ويمكن أن تصل إلى خمس عشرة سنة».
التمييز بين جريمة الإفتراء وجريمة اختلاق الجرائم
إن الفارق بين جريمة اختلاق الجرائم المنصوص عليها في المادة 402 عقوبات وبين جريمة الإفتراء المنصوص عليها في المادة 403 عقوبات، يقوم على أن جرم اختلاق الجرائم يتناول الإخبار عن جريمة لم تقترف أو اختلاق أدلة على جريمة كهذه من دون نسبة ذلك إلى شخص معين، في حين أن جرم الإفتراء ينطوي على إسناد واقعة غير صحيحة تستوجب العقاب إلى شخص معين أو ممكن التعيين وفقاً لما تضمنه الإخبار أو الشكوى من معطيات وأوصاف من شأنها توجيه التحقيق إلى هذا الشخص فتجعله قابلاً للتعيين.
وخلافاً لجرم اختلاق الجرائم، فإن جرم الإفتراء يستوجب أن يكون الإخبار أو الشكوى موجهين من شخص إلى آخر. حيث تشدد المادة 403 عقوبات على عبارة «من عزا إلى أحد الناس»، ولو كان الحال على غير ذلك لأصبح نص المادة 403 عقوبات تكراراً لنص المادة 402 عقوبات، الأمر غير الجائز قانوناً.
عناصر جريمة الإفتراء
يستفاد من نص المادة 403 عقوبات أن جريمة الإفتراء تتحقق بتوافر العناصر الآتية:
1- تقديم شكاية أو إخبار:
وهو عنصر أساسي، بل هو جسم جريمة الإفتراء فلا تستقيم بدونه، إذ يجب أن يكون المفتري قد تقدّم ضد المفترى عليه بشكوى جزائية أو إخبار. وقد اختلف الفقه والاجتهاد حول شكل الشكوى أو الإخبار، فاعتبر البعض أنه يشترط تقديم الشكوى أو الإخبار خطياً إذ لا تتوافر فيها الصفة القانونية ما لم تكن خطية، ولا قيمة لها إذا بقيت في حيّز الأقوال المجرّدة فقط، لأن الإفتراء لا يتم إلا بوجود الإخبار المنظّم وفقاً للأصول، فلا يعتبر شكوى أو إخباراً رسمياً ما أقدم عليه شخص بإعلام دركي شفهياً بما أخبره به شخص آخر بشأن رشوة رئيس المخفر. لكن يمكن أن يتحقق شرط الخطية مباشرة كما في حال الرسالة أو العريضة أو المذكرة، كما يمكن أن يتحقق بصورة غير مباشرة، كتنظيم محضر في مخفر الدرك يتضمن إدلاء المبلّغ بأقواله ولو لم يوقّع عليه. إلا أن السند الخطي لا يخضع لأي شرط شكلي، فلا يشترط أن يكون الإخبار أو الشكوى محررين من صاحبهما أو موقعين منه بل يكفي ثبوت صدورهما عنه. أما البعض الآخر فاعتبر أن القانون لم يتطلب شكلاً معيناً للشكوى أو للإخبار، فجميع صوره سواء، ويستوي أن يكون أن يكون كتابياً أو شفوياً، علنياً أو سرياً، صريحاً أو ضمنياً.
ويشترط في الشكوى أو الإخبار ان يقعا تلقائياً أو عفوياً، أي أن يكونا صادرين بصورة تلقائية عن الفاعل بمبادرة منه هادفة إلى ابلاغ السلطة القضائية، من دون ضغط أو إكراه أو إيعاز أو إيحاء من أحد، حيث يستدل بأن المفتري قد أمعن في التفكير والتدقيق ومراجعة الذات بروية وهدوء من دون خوف أو قلق أو اضطراب أو تردد، إنما تصرف عن سابق إصرار وتصميم في توجيه الاتهام. ولا افتراء إذا حصل الإخبار أو الشكوى في معرض الاستماع إلى إفادة أو شهادة في تحقيق أو محاكمة، ولا يعتد بالصفة التلقائية للإخبار أو الشكوى إلا في وقت تقديمهما، فالمعلومات التكميلية التي يمكن أن يقدمها الشاكي أو المخبر بعد ذلك لا تؤلف جرم الإفتراء.
2- تقديم الشكاية أو الإخبار إلى سلطة قضائية أو إلى سلطة يجب عليها ابلاغ السلطة القضائية:
تشترط المادة 403 عقوبات تقديم الشكاية أو الإخبار إلى سلطة قضائية أو إلى سلطة يجب عليها ابلاغ السلطة القضائية، كأن تقدم الشكوى إلى النيابة العامة أو إلى قاضي التحقيق أو إلى القاضي المنفرد الجزائي، أو رجال الضابطة العدلية كمساعدين للنيابة العامة. كما يعتد بالادعاء أمام سلطة إدارية عادية يكون من واجبها إبلاغ السلطة القضائية من دون اقتصار الموضوع على الملاحقة المسلكية. أما إذا جرى تقديم الشكوى أو الإخبار إلى غير السلطات المذكورة فلا يكون احد عناصر جرم الإفتراء متوافراً.
وتقتضي الإشارة إلى أن تاريخ تقديم الشكاية أو الإخبار هو تاريخ ارتكاب جرم الإفتراء، فتبدأ مهلة مرور الزمن من تاريخ ارتكاب الفعل أي من تاريخ تقديم الشكوى أو الإخبار، لكن مهلة مرور الزمن هذه تتوقف حكماً طوال المدة التي يستغرقها التحقيق والبت بالشكوى أو بالإخبار توصلاً إلى ثبوت صحته، أي يتوقف مرور الزمن على جرم الإفتراء حتى صدور قرار نهائي يثبت عدم صحة الشكوى، مهما طالت فترة النظر بالدعوى الاصلية.
3- توجيه الشكاية أو الإخبار ضد شخص معين:
ورد في نص المادة 403 عقوبات عبارة «فعزا إلى احد الناس»، ويستدل من ذلك أن المادة المذكورة تشترط في جريمة الإفتراء أن يوجه الاتهام ضد شخص معين، سواء أكان في معرض شكوى أو اخبار، أي يجب تحديد هوية الشخص المفترى عليه بشكل كافٍ. لكنه ليس من الضروري تسمية المشكو منه وبيان كامل هويته ومكان سكنه وعمله، بل تكفي الاشارة اليه ولو على سبيل الاشارة أو الغمز أو التلميح بشكل يسمح بتحديده ومعرفته من دون التباس أو غموض. فإذا تقدم المفتري بشكواه أمام النيابة العامة ضد مجهول وكل من يظهره التحقيق لكن مضمون الشكوى كان يفيد بصورة غير مباشرة أن المفترى عليه هو الشخص المقصود بالشكوى، كان عنصر تعيين الشخص متوافراً في جريمة الإفتراء. ويمكن ان يكون المفترى عليه شخصاً طبيعياً أو شخصاً معنوياً، كشركة أو حزب أو هيئة أو جمعية...
4- أن تتضمن الشكاية أو الإخبار واقعة جرمية كاذبة:
تشترط المادة 403 عقوبات أن يعزو المفتري إلى المفترى عليه جنحة أو مخالفة أو جناية يعرف براءته منها أو اختلق عليه أدلة مادية على وقوع مثل هذا الجرم، أي يجب أن يكون موضوع الشكوى أو الإخبار واقعة معينة تقع تحت طائلة الملاحقة والمعاقبة الجزائية وفقاً لنصوص قانون العقوبات. ويفترض أن تؤدي الشكوى أو الإخبار إلى ملاحقة المفترى عليه جزائياً بالجريمة المعزوّة اليه من المفتري. ولكن ليس من الضروري أن تؤدي إلى النتيجة القانونية المترتبة على المفترى عليه بصورة حتمية، بل يكفي أن يكون من شأنها أن تؤول إلى ذلك ولو لم يحصل هذا الامر. كأن يقدم شخص شكوى جزائية ضد شخص آخر يتهمه بارتكاب جريمة سرقة أو يختلق أدلة مادية تدل على ان المفترى عليه هو من ارتكبها توسلاً لإدانته بها. واعتبر الاجتهاد انه يجب تعيين الفعل الجرمي بصورة محددة، فلا يجوز أن تتناول الشكاية جرائم بصورة عمومية شاملة، بل يجب أن تحدد ماهية الفعل المشكو منه.
ويجب أن يكون من شأن ذلك تعريض المفترى عليه للعقوبة الجزائية في حال صحة ما نسب اليه. كما يجب أن تكون الواقعة الجرمية مختلقة من المفتري. فالاختلاق هو أحد الاركان الاساسية لقيام جريمة الإفتراء، أساسه «فبركة» الوقائع من خيال المفتري وتزييف الادلة، واسباغ ظروف معينة تشوّه الحقيقة وتغفل تفاصيل مهمة حول كيفية وقوعها. ويعتبر الباحثون أن الحقيقة المحرّفة هي أحياناً أخطر من الواقعة الكاذبة، إذ يسهل اكتشاف الاخيرة بينما يصعب اكتشاف الاولى.
ولإثبات كذب الواقعة المدلى بها موضوع جريمة الإفتراء، يجب أن تعلن السلطة القضائية المختصة عدم صحتها للافساح في المجال أمام المفترى عليه للتقدم بدعوى الإفتراء. ويبقى للمحكمة الواضعة يدها على دعوى الإفتراء، في ضوء حقها المطلق في تقدير الوقائع والأدلة عليها، أن تتصدى لمسألة صحة الواقعة ذاتها تأكيداً أو نفياً لحصولها، وما إذا كانت الأدلة عليها مصطنعة أم لا. أما إذا كانت الواقعة المدلى بها في الشكوى أو الإخبار صحيحة انما لا تتوافر فيها عناصر الجرم المدعى به أو كان النزاع مدنياً، فلا تكون جريمة الإفتراء متحققة لعدم توافر احد عناصرها، كأن يصدر الحكم بكف التعقبات لعدم توافر عناصر جرم الاحتيال ولأن الوقائع المدلى بها تشكل خلافاً مدنياً.
ويجب أن يكون القرار القاضي بإعلان براءة المفترى عليه نهائياً ومبرماً غير قابل لأي طريقة من طرق الطعن، وأن يكون حاسماً لجهة انتفاء الادلة بصورة مطلقة، إذ أن البراءة للشك أو إبطال التعقبات لعدم كفاية الادلة أو لعدم توافر العناصر الجرمية أو لأن النزاع مدني، لا تكفي لقيام جريمة الإفتراء.
5- علم المفتري ببراءة المفترى عليه:
تشترط المادتان 402 و403 عقوبات علم المفتري بعدم صحة الشكاية أو الإخبار الذي تقدم به لدى المرجع المختص، وانصراف ارادته على الرغم من هذه المعرفة إلى اتهام المفترى عليه عن سابق تصور وتصميم، وأن يتمثل القصد الجنائي الخاص بسوء نية الفاعل من خلال قصد إلحاق الضرر بالمفترى عليه وتعريضه لإمكان الملاحقة الجزائية، مع ما يترتب عليها من نتائج قانونية واجتماعية خطيرة وجسيمة. فيجب لتحقق جرم الإفتراء إثبات أن الشاكي كان على علم ببراءة المشكو منه عند تقديم شكواه، وأنه تقدم بها عن سوء نية بقصد الاضرار بالمشكو منه. ويعود تقدير توافر سوء النية أو عدمه لقضاة الاساس، وعليهم تبيان الوقائع والأدلة التي استندوا اليها توصلاً للتحقق من توافر سوء النية، تمكيناً لمحكمة التمييز من اجراء رقابتها القانونية على ما انتهوا اليه. ولا يكفي لتحقق سوء النية في جرم الإفتراء أن تكون النيابة العامة قد قررت حفظ الشكوى لعدم توافر الأدلة، بل يجب توافر النية الجرمية من خلال إثبات أن المفتري قد اختلق ادلة مادية أو قدّم شكواه وهو عالم ببراءة المفترى عليه مما نسبه اليه. فإذا تبين للمحكمة أن الواقعة المدلى بها في الشكوى أو الإخبار قائمة وصحيحة على الرغم من عدم توافر عناصر الجرم المدعى به، وان المدعى عليه لم يكن سيء النية في شكواه، لا يكون القصد الجرمي لجريمة الإفتراء متحققاً. كما لا يتحقق جرم الإفتراء إذا تبين للمحكمة ان المدعى عليه لم يختلق واقعة يعرف أنها غير صحيحة ولم ينسب إلى المدعي جرماً يعرف براءته منه لأنه استند في شكواه إلى أخبار وصلت اليه بالتواتر ثم عاد وأسقط شكواه عندما عرف بعدم صحة تلك الأخبار.
عقوبة الإفتراء
إذا تنـاول الإفتـراء جنحـة أو مخالفـة، كانـت العقوبة هي الحبس من شهر إلى ثلاث سنوات. وإذا كان الفعل المعزو للمفترى عليه يؤلف جناية عوقب المفتري بالاشغال الشاقة المؤقتة عشر سنوات على الاكثر. وإذا أفضى الإفتراء إلى حكم بالاعدام أو بعقوبة مؤبدة فلا تنقص عقوبة الاشغال الشاقة عن عشر سنوات ويمكن أن تتخطاها إلى خمس عشرة سنة (م 403 عقوبات). وإذا رجع المفتري عن افترائه قبل أية ملاحقة تخفف العقوبة المذكورة وفقاً لاحكام القانون (م 404 عقوبات).
هوامش:
• استئناف جنح المتن، قرار 1050/2000، تاريخ 25/10/2000، مجلة العدل 2006.
• المحامي فريد الزغبي: جريمة الإفتراء، مجلة العدل، 1987.
• تمييز جزائي، غ6/قرار رقم 255/2001، تاريخ 8/11/2001، مرجع حمورابي الالكتروني رقم 36241.
• د. محمود نجيب حسني: شرح قانون العقوبات، القسم الخاص، بيروت، 1992.
• قاضي التحقيق الاول في لبنان الشمالي، تاريخ 22/2/1999، مجلة العدل، 1999.
• د. عاطف النقيب: أصول المحاكمات الجزائية، بيروت، 1993.
• الهيئة الاتهامية في جبل لبنان، رقم 428/2002، تاريخ 14/5/2002، مرجع حمورابي الالكتروني رقم 36156.
• استئناف جزاء النبطية، تاريخ 5/2/1998، مرجع حمورابي الالكتروني رقم 36097.