- En
- Fr
- عربي
رحلة في الانسان
لــكن ماذا عن الضجر خارج المألوف ؟
لزمن بعيد، احتار العلماء في تفسير شعور الضجر، خصوصًا وأنه أصبح اليوم حالة شائعة يعتبرها البعض طبيعية. لكن الأبحاث الحديثة بدأت تلقي الضوء على هذه الحالة وتضعها على لائحة الأمراض النفسية، وذلك في حال خروجها عن المألوف.
ما هي عوارض الضجر المرضي وما هي أبرز مسبباته، وكيف نتغلب عليه عندما يكون في إطاره الطبيعي؟
من منّا لم يختبر الضجر؟
جميعنا اختبر لحظات شعر خلالها بانعدام الاهتمام بما يدور من حوله، حتى في الأماكن التي تتوافر فيها جميع وسائل التسليّة. فقد نكون مدعويين إلى حفلة ساهرة تضج بالحضور، ونشعر خلالها بأننا غير سعداء، أو غير قادرين على مسايرة محيطنا. إنه الضجر الذي يفصلنا عن الواقع ويضعنا في حالة ضياع وتململ، ويسلبنا وضوح الرؤية والتفكير السليم.
الفيلسوف الألماني مارتن هانغر وصفه بقوله، «كأنه الغوص في وادٍ يلفه الضباب». وشبّهه كتّاب آخرون «بالغثيان» الذي يضفي على المرء شعورًا غريبًا لا يدرك كيف يتخلّص منه. أما آخر الأبحاث فأشارت إلى أن الضجر المزمن يترافق عمومًا مع مرض الاكتئاب، وعادة ما يظهر بشكل قلّة اكتراث، أو بشكل عصيبة وتمّلل، وقد يجمع الاثنين معًا.
ومن خلال دراسة شملت مجموعات من الأشخاص يعانون هذه الحالة، وخصوصًا المصابين بعاهات دماغية على أثر صدمات تعرّضوا لها، بدأ الباحثون بتحديد المناطق الدماغية التي تحرّك هذا الشعور.
إنّه شعور بدائي
من المؤكّد أن الضجر هو شعور فطري، والدليل أنه بطبيعته البدائية يلازم لحظات الانقطاع عن العمل أو القيام بما هو ممتع. لذا من الطبيعي أن يكون الإنسان الأول قد اختبره عندما كان ينقطع عن الصيد، والذي كان يثير رغبته ويملأ حياته بالتفتيش عن الطرائد. أما تفاقمه في الحياة المعاصرة التي تضج بالحركة، وبروزه بشكل مرضي، فيستلزم المزيد من البحث.
مع ذلك، يعتقد البعض أن الإنسان المعاصر وخصوصًا في المجتمعات الصناعية، أصبح يمضي وقتًا لا يستهان به في العمل. لذا، فهو عندما يعود إلى نفسه في أوقات الفراغ. (حتى ولو كانت ترفيهية)، قد ينتابه أحيانًا شعور بالفراغ والملل، وهو شعور يعتبر طبيعيًا.
من هنا يركز الباحثون حاليًا على الضجر المرضي الذي يسيطر على كل ما عداه، حتى بالنسبة للّذين يعملون بطريقة محدودة. وعلى هذا الأساس أجروا في الآونة الأخيرة عددًا من الدراسات تمكّنوا بنتيجتها من تحديد مدى تفاقم الضجر لدى البعض، وتصنيفه، ومن ثمّ البحث عن مصادره البيولوجية.
عوارض الضجر المرضية
في هذا السياق، تبين أن الضجر المرضي يترافق عادة مع رداءة في تأدية الواجبات إن في المدرسة أو العمل، بالإضافة إلى ضعف في الانتباه والتركيز.
ولوحظ أن المصابين به يفتقرون عمومًا إلى الحوافز وإلى صفة الترتيب، إذ يبعثرون أشياءهم كيفما اتفق، وهذا يعود إلى عدم اهتمامهم بكل ما يدور من حولهم.
وقد تمكن الباحثون من الربط بين الضجر المرضي المزمن ومرض الاكتئاب، لكنهم لاحظوا أن الضجر لا يعتبر دليلًا على وجود الاكتئاب، خصوصًا وأن أدوية الاكتئاب لم تفلح في مداواته. لذا يمكن القول إن الضجر المرضي يحتل مكانة خاصة به على لائحة الأمراض النفسية.
ولوحظ أيضًا أن الضجر المرضي نوعان، وكل منهما ينبع من آليات دماغية مختلفة. والمعطيات التي تمّ جمعها في هذا المجال في دراسة أجريت خلال العام 2001 ونشرتها «مجلة العلوم الأميركية»، تشير إلى أن النوع الأول يتمثل بكون المعني به يشعر بشيء من التوثب أو الاكتفاء الداخلي، لكنه يعجز عن تنفيذ كل ما يحلم به. أما النوع الثاني، فيتمثّل بإحساس تام بالفراغ. ويؤكد المصابون به أنهم لا يجدون متعة في كل ما يقومون به، وكأنهم سجناء ظروف لا يعرفون كيف يتخلصون منها، لكنهم يتمكنون أحيانًا من الاستمتاع ببعض المحفّزات الخارجية والتي تفرحهم للحظات وجيزة. وهؤلاء كما ثبت يعانون أعراضًا اكتائبيّة. إلى ذلك تمّ التأكد من أن الحوادث والصدمات التي تحدث أضرارًا دماغية، تتسبب لأصحابها بضجر مرضي يلازم حياتهم، وهذا يعود إلى عدم مقدرتهم على التفرقة بين ما هو مهم وبين ما هو تافه. من هنا يربط الباحثون بين هذه الحالة والحالات السابق ذكرها ليؤكدوا أن الضجر المزمن ينجم عن مشاكل دماغيّة تستوجب العلاج.
الضجر حتى الموت
في ما يخص تأثير الضجر على الصّحة، توجد براهين قاطعة على أنّه يتسبب في معظم الأحيان بأمراض مميتة في مقدّمها الأمراض القلبية.
في هذا السّياق، أجريت دراسة في المملكة المتّحدة على مجموعة أشخاص يعانون الضجر المرضي، والذين تمّت مواكبتهم لأعوام. وجاءت النتيجة أنهم جميعًا كانوا معرّضين، لمخاطر إصابات في القلب والشرايين، وأن بعضهم توفّي نتيجة الإصابة بذبحة صدرية. إلى ذلك، ثبت أن الذين يعانون الضجر المقرون بالعصبيّة والتململ، يلاقون حتفهم باكرًا نتيجة الأضرار الفادحة التي يلحقها هذا النوع من الضجر بصحّتهم.
هذه المعطيات أدّت إلى الاستنتاج أن الضجر المقترن بأعراض اكتئابية في مقدّمها اللاّمبالاة، يؤدي إلى إهمال المعنيين لياقتهم البدنيّة وطعامهم الصحّي ما يتسبّب بمرضهم. إلى ذلك، فهو يدفعهم إلى إدمان الممارسات غير الصحّية كالتدخين ومعاقرة الخمرة. ولا ننسى كونه عاملًا أساسيًا وراء الخمول الذي يحول دون سلامة العيش والفكير.
إن جميع الدلائل التي أتينا على ذكرها تشير إلى أن الضجر عامل لا يجب إغفاله. إنه شكل من أشكال الاكتئاب الذي يدمّر الحياة والصحّة ويحرم لذة العيش. لذا من الأفضل التخلّص منه حتى ولو كان غير مرضي، وهذا يتم بالتعرف إلى أسباب هيمنته من وقت إلى آخر، ومحاولة تعئبة الوقت بما هو مفيد. أما في حال وجود الضجر المرضي، فمن الأفضل اللجوء إلى الاختصاصيين النفسيين.