كلمتي

جيش الوطن
إعداد: العميد الركن صالح حاج سليمان
مدير التوجيه

يعرف الجميع ما هي القرابة بين الجيش والشعب في بلادنا، اعتباراً من رأس المؤسسة الأم وصولاً الى عسكرييها كافة. ويعرف الجميع أنّ الجندي ما أن يغادر أباه وأمه ويلتحق بقطعته، حتى يلتقي هناك أخته وأخاه وأصدقاءه أنّى أقاموا، من هنا فهو ليس غريباً في أي مكان يحل فيه، وهو ليس بعيداً، ولولا مشكلات المواصلات في هذا الوطن الصغير، لأمكن اعتباره بأكمله مدينة متوسطة الحجم الجغرافي قياساً على المدن الكبيرة والمكتظة في العالم، والتي لا يعرف فيها المواطن زميله في المواطنية، لفرط الغربة ووسع المساحات.
انطلاقاً من هذه القرابة، فإن الجيش لم يحمل سلاحاً ضد مواطنيه، والمواطنون بدورهم لم يتوانوا عن مساعدة جيشهم والوقوف الى جانبه وتقديم العون والدعم والتأييد إليه. إضافة الى ذلك كله، يسلّم المواطنون بإجراءات جيشهم هذا، ولا يسائلون في قراراته، ويفتخرون بإنجازاته، ويبنون الآمال والأمنيات على حكمة قيادته، وتضحيات ضباطه ورتبائه وأفراده.
والجيش لم يتهاون يوماً في القيام بواجباته كاملة تجاه المواطن اللبناني، وقد استبسل عسكريوه، وأجزلوا العطاء في سبيله حتى الشهادة، ليس من أجل السيطرة على مقدرات الوطن، وهم أبناؤه المخلصون، إنما من أجل حماية ترابه وأمنه وازدهاره، ومسيرة الإعمار والبناء في أرجائه. وما الاستفتاء الوطني، الذي أعقب استشهاد اللواء الركن فرنسوا الحاج ومرافقه، إلّا الشهادة الحقيقية التي تعبّر عن مواقف المواطنين المفجوعين بالحادث الأليم الذي أصاب جيشهم، فجدّدوا وقوفهم الى جانبه واعلنوا انّ استشهاد بطل من أبطالنا هو إعلان لظهور ألف بطل، مما زاد في قوته ويقظته واستعداده لمواجهة أيدي الشر التي تتربص بهذا الوطن، وتحاول النيل من مؤسساته، وفي طليعتها مؤسسة الجيش.
هذا الجيش ليس محروماً من وطنه حتى يسعى للسيطرة عليه، وهو ليس غائباً عنه حتى ينقضّ عليه ما أن يقع تحت أنظاره. هل تحدّث مراقب في الدنيا، يا ترى، عن دبابات تحرّكت في أي مدينة لاحتلال مؤسسة ما بدلاً من أن تحميها وتيسّر شؤون العمل فيها؟ وهل افترض مراقب ما أنّ الجنود يربضون هنا وهناك مواجهين المصاعب والمتاعب والأخطار، في سبيل السيطرة على المساحات والأمكنة، بدلاً من أن يبسطوا السلم والأمن في دروبها؟

من الحالات النادرة في العالم أن ينطلق المواطنون الى الشوارع إضراباً وتظاهراً وغضباً واحتجاجاً، في فئة وفئتين وثلاث... وفي آراء مختلفة... وفي أيديهم، مع ذلك، الورود يقدّمونها للجنود. حصل ذلك عندنا نعم، لأن الجيش كان ولا يزال على مسافة واحدة من الجميع، ولأنه آمن بالتنوع، وحافظ على سلامة الأطراف كافة، ولأن قيادته آمنت أنّ في تعددية الأطراف تعبيراً واضحاً عن خصوصية الواقع اللبناني فكراً وثقافة.
إن الشهادات تتوالى وتزداد في المؤسسة العسكرية، في ما تعمل، وفي ما تزمع أن تعمل. هذه الشهادات لا تتسع لها جدران قلاع الشرف والتضحية والوفاء، ولا بد من تثبيت ما يفيض منها هناك فوق صخور الجبال، أوَلم يكن الصخر هو المؤرّخ الأول للحضارة في العالم منذ أقدم العصور؟