- En
- Fr
- عربي
وجهة نظر
الوزير ميشال إده: المشروع الصهيوني مني بضربة قاتلة وإسرائيل السائرة الى المجهول والهاوية تحاول جر العالم الى صراع دموي بين الأديان
اعتبر الوزير السابق ميشال إده إن إسرائيل لم تعد قادرة على الإنتصار وهي تتابع مسارها الإنحداري منذ منيت بالهزيمة التاريخية في لبنان. وجاء هذا الكلام في سياق محاضرة ألقاها إده في قاعة العماد نجيم في وزارة الدفاع الوطني, تحت عنوان “إسرائيل الى أين؟”. تقدم الحضور اللواء الركن فايز عازار ممثلاً قائد الجيش العماد ميشال سليمان, وحضر عدد كبير من ضباط الجيش وقوى الأمن الداخلي والأمن العام وأمن الدولة.
بعد النشيد الوطني, كلمة كانت للمقدم يوسف بزي الذي رحّب بالوزير إده, الذي استهل محاضرته قائلاً:
وســط هـذه الأنـواء السياسية والعسكريـة العاصفـة في المنـطقة, والمنـذرة بأوخـم العواقب فيما لو انتهت الحـرب التي تقـرع طبولها بإيقاعـات متصاعـدة الى الوقوع فعلاً, بكل مفاعيلها وتداعياتها التي سوف تتعدى حدود العراق حكماً, لتطول باستهدافاتها بالإخضاع والتفكيك والتدمير دولاً عربية عديدة أخرى, لن تتمكن إسرائيل على كل حال من الخـروج منتصرة. إنها لم تعد قادرة على الإنتصار, حتى فيـما هي تراهـن على هذه الحرب المحتملة أو الوشيـكة الوقوع المحتوم, والتي تشن بجانب منها بالنيابة عنها أو من أجل إنقاذهـا, بواحد من المعاني الأساسية التي تنطوي عليها هذه الحرب.
لا يغيّر بشيء من حقيقة أمر إسرائيل هذا, والتي تتابع مسارها الإنحداري منذ أن منيت بالهزيمة التاريخية في لبنان, تصاعد الخطاب الإنتصاري الطابع في الإعلام الصهيوني, وفي وسائل الإعلام العالمي الخاضعة لنفوذ اللوبي الصهيوني والمتأثرة به, والذي يظهر إسرائيل كما لو أنها منتصرة:
منتصرة في فرض إرادتها وخططها على الدول العربية, وفرض التسليم على هذه الدول قاطبة بإحكام قبضة السيطرة الصهيونية عليها.
فذلك الإعلام يظهر إسرائيل وكأنها قد انتصرت على الإنتفاضة الفلسطينية التي يصورها منكفئة على طريق التراجع والزوال, مروجاً في الوقت نفسه الحديث عن أزمة حادة آخذة بالتفجر داخل الصف الفلسطيني.
هذه المزاعم التي يجري تعميمها بصورة منهجية مركّزة, تستمد ذرائعها بالطبع من إمعان الجيش الإسرائيلي في تنفيذ سياسة شارون بالمجازر اليومية والبطش الوحشي البربري, وكل أشكال الضغوط العسكرية التي تنطوي عليها سياسة الأرض المحروقة هذه. لكنها بالتأكيد تستند كذلك الى شتى الضغوط السياسية المتصاعدة, المواكبة, بتصاعدها على الشعب الفلسطيني ومنظماته وفصائله المقاومة وقياداته, فيما يتصاعد قرع طبول الحرب.
في سياق هذه الحيثيات, تندرج الدعوة التي وجهها رئيس الحكومة البريطانية طوني بلير أخيـراً لما سّمـي بـ “المعارضة الفلسطينية” الى الإجتماع في بريطانيا من أجل أن توحد صفوفها ضد رئيس السلطة الوطنية ياسر عرفات, ولتتوصل الى قيادة بديلة تدير شؤون الفلسطينيين وهذا أسوة بالدعوة التي وجهت الى المعارضين العراقيين, على أساس يتقصد معاملة ياسر عرفات كصدام حسين.
هل هو غباء أم هو تغاب متعمد, ما يطبع هذا السلوك السياسي, في النظر وفي العمل, تجاه القضية الفلسطينية والملف الفلسطيني؟
من هي المعارضة الفلسطينية حقاً للسيد ياسر عرفات؟ إنها حماس, والجهاد الإسلامي, والجبهة الشعبية, والجبهة الديموقراطية, والجبهة الشعبية القيادة العامة, كتائب شهداء الأقصى والتنظيم اللذان هما تنظيمان معارضان من داخل فتح بالذات.
جميع هذه الفصائل إنما هي معارضة لإسرائيل, ومقاومة للإحتلال الإسرائيلي. واختلافها مع ياسر عرفات إنما هو إختلاف على مدى ودرجة وكيفية ووتيرة بعض أشكال الصراع مع الإحتلال الإسرائيلي, حيث يؤخذ على عرفات من قبل غالبية هذه الفصائل إعتداله المفرط الذي تعتبره هي غير ذي جدوى.
ليس من المستغرب أن يكون رئيس الحكومة البريطانية قد أقدم على توجيه هذه الدعوة بغرض التحري عن حل ما آخر, غير الصيغ التي طالما جربتها إسرائيل عبثاً, بحكوماتها المتعاقبة للخروج من نفق مأزقها الوجودي الكياني المتفاقم, بغرض سبر طريق أخرى تجرّب إسرائيل سلوكها بغية التوصل الى الحل العنصري التوسعي العدواني الإرهابي, في تصفية الوجود الفلسطيني شعباً وحقوقاً وقضية, وفي فرض التسليم به على العرب أجمعين.
وهذا, بعد ورغم كل عناصر التأزم والإنهيار الممسكين بخناق إسرائيل, بسبب تمسك شارون وأقرانه من غلاة التطرّف الصهيوني بالحل الصهيوني بالذات, وبالمشروع الصهيوني أصلاً. وهنا يكمن المغزى الأبعد الذي ينطوي عليه تبجح شارون بنجاحه في ما أسماه إيصال إسرائيل الى نقطة “اللا رجوع” أي الى استئناف حرب 1948 حتى التصفية النهائية للقضية الفلسطينية.
إسرائيل “بلا عيون”
لكن ثمة اليوم في إسرائيل من يصفها هي ذاتها بأنها باتت مصابة بداء العمى. فالكاتب الصحافي جدعون ليفي مثلاً في “هآرتس” يعتبرها وقد أضحت “بلا عيون”. لا ترى ما الذي تفعله تلك السياسة الإسرائيلية التي لا إنجازات لها سوى اقتراف سفك الدماء, وتدمير الحياة, وارتكاب أبشع المجازر وأشدها إجراماً وبربرية.
وإذا كان للصهاينة أن يتملكهم الوهم اليوم بما قدروا عليه في الولايات المتحدة من التأثير, الى حد فعّال, بوجهة السياسة الأميركية لصالح مشروعهم, فالإسرائيليون يعلمون تماماً, بأن ثمة أحداثاً نوعية أساسية, مفصلية, جوهرية, قد ألحقت بإسرائيل ضربات مميتة أعطبت الكيان الصهيوني وعطّلت المشروع الصهيوني الأصلي, حيثما كان عليه أن ينجح, وأن ينمو بإطراد في جغرافية المنطقة التي طالما كدّست إسرائيل من الإنتصارات العسكرية للتوسع فيها, واغتصاب المزيد من الأراضي العربية فيها, ما لم يؤمن لها تصفية فلسطين من الوجود, وتسييد الكيان الصهيوني على العالم العربي.
بل إن إضطرار الصهاينة للكشف عن مخططاتهم, وممارسة ضغوطاتهم السافرة على الولايات المتحدة بغية التحكم بقرارها السياسي, ليست, في هذا المعنى, سوى تعبير عن عجزهم على أرض المعركة الطبيعية المباشرة, بالنسبة للمشروع الصهيوني, أي داخل كيانهم ذاته, وفي الأراضي الفلسطينية المحتلة, وفي لبنان وسوريا, وهذا, رغم كل النجاح غير البسيط أبداً الذي أحرزوه في فرض التطبيع على عدد من الدول العربية, فضلاً عن إتفاقي السلام المنفرد اللذين انتزعتهما إسرائيل من مصر والأردن.
ولكن هل يمكن لهذا “الإنجاز” الصهيوني, الآني في الولايات المتحدة, أن يعوّض عن العجز الصهيوني, وأن يخرج الكيان الصهيوني من الهزيمة التاريخية التي مني بها في لبنان ومن تداعياتها المتحولة الى هزيمة مضاعفة تتابع فصولاً على إسرائيل في أرض فلسطين؟
التحول النوعي
منذ أن اشتعلت نار المقاومة الوطنية والإسلامية في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي في لبنان, عقب إجتياح صيف 1982, بدأ فعلاً العد العكسي بالنسبة لمصير إسرائيل.
أجل, بدأ التحوّل النوعي لغير صالح المشروع الصهيوني في لبنان بالذات, الذي طالما اعتبرته إسرائيل لقمة سائغة لها, وهدفاً دائماً في مخططاتها للاجهاز عليه بإعتباره نموذجاً مجتمعياً نقيضاً, بتنوعه الديني وعيشه المشترك, لأحاديتها العرقية الدينية العنصرية. وتوهمت إسرائيل جعله وطناً بديلاً بتصفية القضية الفلسطينية في ربوعه وعلى حسابه, عن طريق فرض مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين عليه, وتفكيكه والقضاء عليه بتهجير المسيحيين منه وبإقامة المعازل المذهبية والمناطقية المتناحرة أبداً.
لبنان هذا كان الموقع الأمامي الأول الذي تصدى للإحتلال الإسرائيلي ودحره, وأسقط إسرائيل عسكرياً وسياسياً في أرضه, وحوّل هزيمتها العسكرية الى أزمة سياسية كيانية داخل كيانها بالذات, ودقّ المسمار الأول في نعش المشروع الصهيوني الذي أجبره على الإنكفاء والتراجع, أي أوقفه عن التمدد. وهو مشروع بحكم طبيعته يقتات من تمدده كي يستمر قيد الحياة, إذ في توقفه موته. لبنان كتب هذه المواجهة على إمتداد ثمانية عشر عاماً بلحمه الحي, والمتوجة بالنصر التاريخي المبين في 25 أيار 2000, على يد المقاومة في حرب غير نظامية, هي حرب الأنصار, التي يستحيل على أي جيش نظامي محتل أن يمنع الإنتصار فيها للشعب المحتلة أرضه, مثلما أكدت أمثولة حرب التحرر الوطني التي انتصرت فيها المقاومة في تجربتي الجزائر بوجه الجيش الفرنسي, وفيتنام بوجه الجيش الأميركي.
وما كان لهذه المقاومة أن تجترح هذا النصر لولا كل الدعم والحماية من الجيش اللبناني الباسل, وكل المؤازرة والحماية من الدولة, ومن الشعب اللبناني الذي تعززت وحدته وترسخت بالالتفاف حول المقاومة. ولولا استناد المقاومة, في تطورها وارتقاء عملياتها الكفاحية, الى دعم سوريا المطلق التي امّنت لحرب الأنصار هذه قواعد الإنطلاق, ووفّرت لها كل أسباب التعزز والإستمرار والفعالية. وهذا في هدي نهج الصمود الذي أرساه الرئيس الراحل حافظ الاسد, والذي أدرك باكراً الأهمية الستراتيجية الحيوية القصوى للمقاومة في لبنان, عندما تيقّن, بتجربة حرب تشرين, من أن الإنتصار الكامل على إسرائيل في حرب نظامية أمر ممنوع على العرب بقرار دولي, بعد أن حرم الجيشان السوري والمصري من قطف ثمار الإنتصار العسكري الذي تحقق على أرض المعركة.
وعلينا هنا أن نتوجه بتحية الإعتزاز والتقدير الكبير الى الجيش اللبناني, قيادة وضباطاً وجنوداً, والى شهدائه البررة الذين قدّمهم في أرض المعركة, في سياق الدور الوطني الحاسم الذي اجترحه وما يزال يتابعه في حماية المقاومة ودعمها والتنسيق معها, وفي الوقوف صفاً منيعاً واحداً متراصاً في مواجهة المخططات الصهيونية من موقعه, وبتواجده الراسخ حيث ينبغي له بما يعزز وضعية صمودنا في المعركة. ويتعين الإنتباه هنا الى أن الإمكانات المتوفرة للجيش النظامي عندنا كما عند البلدان العربية الشقيقة لا توفّر له عناصر مواجهة نظامية تقليدية ناجحة مع الجيش الإسرائيلي الذي تغدق عليه أعتى أشكال التسلح وأعقدها تطوراً تكنولوجياً, وكلّها محظّر على الجيوش العربية إقتناؤها.
ويجدر بنا جميعاً أن ندرك هنا حقيقة الخطة الإسرائيلية الجوهرية التي تسعى, مستميتة, الى استدراج الجيش اللبناني, بشتى المحاولات الاستفزازية الى فخ حرب تقليدية تنتصر فيها حكماً بفعل تفوّق ترسانتها الهائلة. أي هي تسعى الى أن تتخذ مواجهتنا لها طابع حرب تقليدية بديلة من المقاومة الممسكة بتلابيب الجيش الإسرائيلي والتي يستحيل على هذا الجيش النظامي المحتل أن ينتصر فيها.
إن الجيش اللبناني, بالموقف الذي يتبعه في مواجهة إسرائيل, إنما يجهض خطتها تلك ويعزز بذلك صمود لبنان ومنعته.
إننا لفخورون بهذا الدور الذي أدّاه ولا يزال يؤديه الجيش اللبناني, وبهذه الروحية الكفاحية, في وقت نجد فيه الجيش في بعض البلدان العربية الشقيقة ينساق وللأسف الشديد الى مواقع وأدوار تعقّب وقمع المناضلين والمقاومين للعدو الإسرائيلي, وحتى المواطنين المقاومين مدنياً أشكال التطبيع المفروض في تلك البلدان.
هزيمة إسرائيل في لبنان راحت تتحوّل هزيمة إسرائيلية مضاعفة على يد المقاومة الفلسطينية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولنتذكر هنا أن دحر جيش الإحتلال من الجبل عام 1983, ومن ثم من شرق صيدا في العام 1985, وإجباره على الإنكفاء آنذاك الى المنطقة الحدودية, كان له الأثر العميق على إندلاع إنتفاضة أطفال الحجارة الفلسطينية الأولى في الضفة والقطاع عام 1987, أي بعد سنتين فقط من دحره في شرق صيدا.
أما دحره النهائي مذعوراً ذليلاً مجرجراً أذيال الخيبة والإنهيار الى داخل إسرائيل في 25 أيار 2000 فقد كان له الأثر الأكبر في إندلاع الإنتفاضة الفلسطينية الثانية بعد أربعة أشهر فقط, في 29 أيلول من العام ذاته, والمستمرة حتى يومنا هذا.
إسرائيل في شباك الإنتفاضة
هاتان الإنتفاضتان هما على درجة بالغة من التلازم العضوي بحيث يصح إعتبارهما إنتفاضة واحدة.
فعلى أساس هذا التواصل العضوي, تتهافت تلك المزاعم التي تضخها أبواق الإعلام الصهيوني عن إنطفاء جذوة الإنتفاضة الفلسطينية حالياً تحت وطأة بطش شارون وسياسته الدموية بكل جرائم الحرب التي يقترفها جيش الإحتلال.
إن إستمرار الإنتفاضة بذاته يكذّب هذا “الإنتصار” المزعوم الذي يُنسب الى سياسة شارون. فانتفاضة الأقصى حلقة أو مرحلة, نوعية بالتأكيد, في تاريخ الشعب الفلسطيني وتاريخ كفاحيته ومقاومته. وهي إسهام نوعي في متابعة هذه الكفاحية وتطويرها, في سياق حرب التحرر الوطني التي يخوضها هذا الشعب الصابر الصامد البطل.
لكن هذه الحرب سيرورة مستمرة حتى تنتفي الأسباب التي أدّت الى اندلاعها, اي حتى انتزاع الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة. وعلى هذا فالانتفاضة لا تختزل في وتيرة وعدد عملياتها فقط, ولا في عدد الخسائر التي تنزلها بالعدو, ولا في شكل قتالي معين بذاته. إنها بفعلها المستمر, في إبقائها إسرائيل, كياناً وجيشاً ودولة, عالقة في شباك الإنتفاضة, في دوامة من اللااستقرار والذعر المقيم والقلق الدائم.
وهكذا, فإن اشتعال الكفاح الفلسطيني في وجه إسرائيل المحتلة, واستمرار حالة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي, أنهيا وضعية الإستقرار الذي تستميت إسرائيل لإرسائه واستمراره, وهي التي تدرك أن إنتفاءه وزواله يشكل مقتلها الأول.
لقد استمرت انتفاضة 1987 ست سنوات متواصلة, من 1987 الى 1993. وهذا من دون أن تكون قائمة آنذاك سلطة وطنية فلسطينية ما, ولا أي حكم ذاتي. ولم يكن الوضع العربي في ذلك الحين بأقل تدهوراً مما هو عليه الآن, من حيث تضعضع الإرادة والقدرة والعمل المشترك دعماً لتلك الإنتفاضة.
ورغم ذلك لم يتمكن الإسرائيليون من إيقافها بسياسة البطش الدموي العنصرية الإرهابية التي اعتمدتها حكوماتهم المتعاقبة. كما أنهم لن يتمكنوا اليوم أيضاً من إيقاف الإنتفاضة الحالية حتى في حال تمكنهم من القضاء على ياسر عرفات, وعلى السلطة الفلسطينية ومؤسساتها ورموزها, وحتى لو تمكنوا من فرض إحتلالهم على كامل أراضي الضفة والقطاع.
خدعة أوسلو
ما أوقف إنتفاضة 1987 قل تخديرها بالأصح كان عملية الخداع المسماة “إعلان مبادئ أوسلو”, والذي استدرج ياسر عرفات ومنظمة التحرير للقبول به آنذاك, بكل ما تضمنه ذلك الإعلان جوهرياً من مساومة إستسلامية على حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وعلى نضال وحياة أبنائه وأبطاله المقاومين. أي أن الإسرائيليين عجزوا عن إيقاف إنتفاضة 1987 بأنفسهم, رغم كل إرهاب الدولة العنصري الموصوف الذي ما انفكّت إسرائيل تمارسه, ولم يتسن لهم ذلك إلا على قاعدة موقف فلسطيني قابل مؤات. بعدما تمكنوا من إنتزاع رضى فلسطيني معيّن, ومشاركة فلسطينية معينة, بالخداع والتضليل, وإغداق الوعود بحل سياسي مزعوم, والتي ظلّت حبراً على ورق.
على هذا الأساس فقط, تمكنت إسرائيل من أن تستعيد أنفاسها باستعادة فترة من الإستقرار الذي منحتها إياه عملية إعلان مبادئ أوسلو تحديداً. وكان هذا من أسوأ ما أسفر عنه إعلان المبادئ هذا, بعدما خلق وعمّم الإنطباع, إسرائيلياً, ويهودياً, وعالمياً, وحتى عربياً كذلك وللأسف, بأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي قد انتهى, وبأن الصراع العربي الإسرائيلي بات تالياً بحكم المنتهي, ومن البوابة الفلسطينية بالذات.
فعلى أساس الإستقرار المستعاد لوقت بخدعة أوسلو, انتعشت الآمال الصهيونية باستقدام يهود جدد الى كيانها بعدما كانت الهجرة الى إسرائيل قد تراجعت وضمرت إثر إنتفاضة 1987 بدأت تتدفق على إسرائيل الرساميل الضخمة, وإنتعش الإقتصاد الى درجة تضاعف معها الناتج القومي الداخلي الإسرائيلي بفترة لا تتجاوز السبع سنوات. كما تمّ استقدام مليون يهودي أتوا من روسيا وغيرها من بعض جمهوريات الإتحاد السوفياتي سابقاً, ظناً منهم أن الإستقرار والإستثمارات المتدفقة الى إسرائيل سوف تحوّل الكيان الصهيوني, في أنظارهم, الى عاصمة النعيم البرّاق في العالم.
غير أن ذلك الإنتعاش المؤقت الذي شهدته الهجرة الى إسرائيل تكفّلت انتفاضة الأقصى بتبديده وإسقاطه.
فبعدما تملك اليأس الشعب الفلسطيني من مهزلة المفاوضات من أجل المفاوضات, وتمثيلية الإتفاقات المفسّرة للإتفاقات, على أساس إعلان أوسلو الرامي الى تكريس الحل الإستسلامي وفرضه على الشعب الفلسطيني, اندلعت هذه الإنتفاضة لتنهار معها ومع إستمرارها بصورة نهائية الأحلام الموهومة بصدد الإزدهار, وبصدد الهجرة الى إسرائيل التي لم تضمر وحسب, بل توقفّت تماماً, وتحوّلت الى هجرة معاكسة, هجرة اليهود الإسرائيليين من إسرائيل نفسها.
المشروع الصهيوني مني بطعنة قاتلة
على هذا الصعيد تحديداً, مني المشروع الصهيوني المبني على هدف تجميع اليهود في إسرائيل بطعنة قتّالة في الصميم.
ليست ظاهرة الهجرة المعاكسة, والآخذة بالتفاقم, هي المؤشر الأوحد على ما بات ينتاب إسرائيل من إنهيار حقيقي شمولي الطابع, بحيث بات الإسرائيليون يميلون الى التيقّن بأنه لا مستقبل لأبنائهم في هذا الكيان الصهيوني الذي بات يتراءى لهم معدوم الأفق.
فالإنتفاضة الفلسطينية التي نقلت حرب الأنصار الى الأراضي الفلسطينية المحتلة والى عقر الكيان الصهيوني ذاته, حطّمت أسطورة الأمن والإستقرار الإسرائيليين, ودفعت بالإقتصاد الإسرائيلي الى التراجع, فالركود, فالكساد, فالتأزّم. ناهيك عن تفاقم ظاهرة التفكك المجتمعي المتعدد الأوجه وتنامي ظاهرة التمرد العلني في صفوف ضباط وجنود الإحتياط في الجيش الإسرائيلي, وازدياد إنخراط فئات متسعة باستمرار من أبرز المثقفين والفنانين والأكاديميين, في تعبيرات ملموسة متنوعة عن رفض حرب الإبادة التي يشنها الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني بأمر مباشر من شارون وسياسته العنصرية البربرية المسعورة.
وبدل أن يقصم شارون ظهر الإنتفاضة بمئة يوم حسبما أخذ عهداً على نفسه أمام الإسرائيليين, إذا بالإنتفاضة تقصم هي ظهر حكومته بالذات, وتسقطها بعد ستمائة يوم على قيامها. وما مصير هذه الحكومة سوى المصير ذاته الذي أسقط حكومات إسرائيل السابقة تباعاً, من رابين الى بيريز الى نتنياهو الى باراك, وذلك قبل إنتهاء الولاية الدستورية لكل منها. وما استتبع ذلك من إنتخابات مبكرة متكررة للكنيست قبل إنتهاء ولايته الدستورية, منذ أن منيت إسرائيل بهزيمتها في لبنان, ومنذ أن تعمّقت هذه الهزيمة بإندلاع الإنتفاضة وإستمرارها بحيث تفاقمت أزمة الكيان الصهيوني السياسية وبحيث ظهرت إسرائيل وقد باتت عاجزة عن حكم نفسها بنفسها.
قدمت جريدة “معاريف” في عددها الصادر في 21/11/2002 صورة بيانية بليغة عن واقع الحال الإسرائيلية منذ إندلاع الإنتفاضة في 29 أيلول 2000, مشيرة الى أن عدد القتلى الإسرائيليين بلغ 669 قتيلاً عسكرياً ومدنياً.
وإذا قارنّا هذه الأرقام بعدد الشهداء الفلسطينيين الذين بلغوا حتى تاريخه, 2600 شهيد تقريباً, فإن معدل القتلى الإسرائيليين هو بمثابة كارثة بالنسبة لإسرائيل.
إن من شأن هذه اللوحة المفصلة أن تظهر شارون, الذي أوتي به على وعد إستعادة الأمن والإستقرار وإيقاف الإنهيار, عاجزاً بدوره كسالفيه, عن إيقاف الإنهيار, بل هو إنتهى الى مفاقمته بحيث أصبح وسياسته جزءاً من مشكلة إسرائيل الكيانية وليس قطعاً جزءاً من حلّها الذي يبتعد ويمعن في الإبتعاد.
ولا بد من الإشارة هنا, الى تبدّل نوعي أخذ يطبع سياسة إسرائيل الراهنة.
فقبل الإتيان بهذا السفّاح, كانت سياسة الحكومات الإسرائيلية السابقة تتركز على فرض الحلول الإستسلامية على الشعب الفلسطيني. أما شارون, فلم يكن جديده غير رفض القبول حتى بالحل الإستسلامي ذاته. إنه لم يعد يسعى إلا الى إقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه وإن على مراحل, بمن في ذلك عرب 1948 الصامدون داخل الكيان الصهيوني.
ولم يكن ارتماء إسرائيل في أحضان شارون كما لو أنه “المنقذ”, سوى انسياق أعماه اليأس والخوف, وراء مشروع هدفه الأوحد زجّ الإسرائيليين في حرب إبادة عنصرية حقيقية على الشعب الفلسطيني, تستهدف إلغاءه من الوجود, سياسياً وبشرياً, عن طريق الإقتلاع والترحيل المموّه بتسمية “الترانسفير” (أي النقل) الصهيونية.
فالحلول الإستسلامية ذاتها باتت مرفوضة من قبل شارون ومن قبل قوى التطرّف, لأن من شأنها أن تثبّت, في إعتبارهما الصهيوني العنصري, الوجود البشري الفلسطيني أياً كانت صيغته, سواء في الأرض الفلسطينية المحتلة أو في داخل الكيان الصهيوني. ولذا, فلقد اعتبر شارون أن أي إستقرار يُمنح للفلسطينيين وإن في ظلّ حل إستسلامي يرضخون له, سرعان ما سوف ينتهي بذاته الى إغراق إسرائيل. لماذا؟
القنبلة الديموغرافية
لأن النمو السكاني الفلسطيني الطبيعي الذي تسميه عنصرية الصهاينة “القنبلة الديموغرافية” بات يشكّل للإسرائيليين عنصر ذعر أساسياً. وباتت حقائقه العددية تُطرح من قبلهم, كقضية مصير بالنسبة إليهم, لا سيما بمقابل ظاهرة الهجرة المعاكسة العارمة التي بدأت تطعن الكيان الصهيوني في الصميم, كما سبق وأشرت.
وبكلام آخر, فالمشروع الصهيوني لم يعد بقادر على ضمان بقاء من لم يهاجر بعد من يهود إسرائيل الى خارجها إلا باقتلاع الشعب الفلسطيني وإبادته, وشطبه من الوجود. لأنه يعتبر مجرد وجود الفلسطينيين المتنامي عدداً يشكل بحد ذات
ه خطراً على بقاء ومستقبل اليهود الإسرائيليين نظراً لانخفاض نسبة الإنجاب عندهم. ناهيك عن إنعدام الأمل بهجرة جديدة مستقبلية الى إسرائيل, نظراً لعدد اليهود المتضائل باستمرار في العالم, والذين لن يستبدلوا نعيم عيشهم المستقر المزدهر في بلدان كالولايات المتحدة وفرنسا وإنكلترا والبرازيل وكندا, بمخاطر عيش يومية في أرض مغتصبة, مقابل شعب يقاوم من أجل تحرره الوطني.
أما الوجه الملازم الآخر لخطة الإقتلاع والترحيل هذه فاستهداف لبنان بخاصة ليكون هو الوطن البديل لمئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين الموجودين أصلاً بالإضافة لأفواج اللاجئين الجدد الذين تقتلعهم, بما يعني العمل على تغيير تركيبة لبنان المجتمعية وتهجير المسيحيين, أي تفكيك لبنان والإجهاز عليه وإنجاز المشروع الصهيوني الأساسي الذي كان وراء اشتعال لبنان في 1975.
ومرّة أخرى, يتعين على جميع اللبنانيين أن يدركوا بشكل قاطع إن الوقوف الى جانب حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في أرضه ووطنه إنما هو وقوف الى جانب لبنان ذاته وحمايته وصون كيانه ووحدته وبنيانه المجتمعي.
أما بالنسبة للمستوطنات, فإن قطعان المستوطنين إنما تستخدمهم سياسة التطرّف الصهيوني من أجل أن يثبتوا نهائياً وضعية ما يسميها شارون بـ “نقطة اللارجوع”. والتي على قاعدتها تتهاوى تباعاً كل محاولات الحلول, حتى تلك المجتزأة, والمشوّهة, أوروبية كانت, أو أميركية. من هنا الإجهاض المنهجي لكل المحاولات الأميركية بخاصة, وخطط المبعوثين الأميركيين من أجل إقفال الملف الفلسطيني بأي طريقة كانت للتخلص منه.
“خريطة الطريق”
في هذا السياق, فإن ما سمي مؤخراً بـ “خريطة الطريق” الأميركية, والتي قدمتها الولايات المتحدة بإعتبارها الصيغة نفسها, من حيث الجوهر, لمقترحات اللجنة الرباعية, يصعب جداً جداً, إن لم نقل يستحيل, أن تشكل بديلاً مقبولاً من قبل حكومة شارون. وهذا ناهيك عن فقدانها أصلاً للعناصر الأساسية الكفيلة بأن تجعلها تمهيداً حقيقياً على طريق الحل. لا سيما بعد أن فرضت مؤخراً ومجدداً ضغوطات شارون والصهاينة على الإدارة الأميركية تعديل هذه الخطة بتضمينها شروطاً تعجيزية تجعلها مستحيلة, وتلغيها من أساسها. فكما داس شارون على تقرير ميتشيل الأميركي وعلى توصياته, وكما أجهض خطة تينيت بعدما علكها وبصقها, وكما أنهى مهمة أنطوني زيني ومهمة وليم بيرنز الأولى بتدمير استباقي لكل الخطوات التي كان يتم التوافق عليها, فإن الخطة التي أوفد بيرنز مجدداً لتسويقها تبيّن مؤخراً, وعلى لسان الإدارة الأميركية نفسها كذلك, أن مصيرها هو سوء المصير ذاته الذي ألحقته إسرائيل بسائر التخريجات الأميركية السالفة.
لكن سياسة شارون هذه, ورغم كل الإمكانات والأدوات والأسلحة المتنوعة التي وضعت في تصرفها, عجزت عن إيقاف الإنتفاضة. عجزت عن وقف الإنهيار الذي بات يضرب عميقاً في أساسات الكيان الصهيوني.
التصعيد تعويضاً عن العجز
في سياق التعويض عن عجز إسرائيل هذا, عمد الصهاينة في إسرائيل وخارجها الى أقصى تصعيد سياسي ممكن. ولقد تجلّى هذا التصعيد بتسويق أمرين متلازمين كاستراتيجية استماتوا بكل ما يملكون من وسائل ونفوذ الى تحقيقها, بل وقطع أشواط ناجحة على طريق إنجازها:
الأمر الأول, إطلاق وتعليب وتعميم صفة الإرهاب على مقاومة الشعب الفلسطيني للإحتلال, بتشويه طبيعة كفاحه الذي هو حرب تحرر وطني. وفُرض هذا التوصيف حقيقة واقعة في غالبية قاموس التداول الدولي, في وسائل الإعلام العالمي, وفي مواقف السياسات الرسمية لمراكز القرار في عواصم العالم الكبرى كما في معظم بلدان المعمورة. ولا يجب أن يغرب عن بالنا هنا أن شارون, منذ حزيران العام 2001, أي قبل ثلاثة أشهر من وقوع العملية الإرهابية في 11 أيلول 2001, بدأ يصف ياسر عرفات بالإرهابي ويسميه بن لادن الفلسطيني. وبأن المقاومة الفلسطينية وإنتفاضة شعبها ليست سوى إرهاب بإرهاب يتعين على العالم المتحضر أن يستنفر ضده, وأن يتوحد في عملية التصدي له والقضاء عليه!!
لكأن الإرهاب الذي تعرض له مبنيا مركز التجارة الدولية في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن, جاء شحمة على فطيرة شارون, قائد الإرهاب الصهيوني العنصري.
أما الأمر الثاني المتلازم مع الأول, والذي يتفسر بالأول, فهو سعي الصهاينة وإسرائيل الى نقل معركتها الى خارج الكيان الصهيوني والأرض المحتلة, بعدما ثبت عجزها عن الإنتصار فيها. بحيث تتوسع وتصبح ساحتها كونية فعلاً, بدءاً بجعلها تشمل جغرافية البلدان العربية قاطبة, وصولاً الى فتح جبهاتها السياسية والعسكرية في كل أرجاء العالم ضد العرب جميع العرب, وضد الإسلام ديانة وحضارة وبلداناً, وضد المسلمين أينما وجدوا.
إنه السعي ذاته المتجلي أصلاً بوضوح ما بعده وضوح باستثارة الصراع داخل الإدارة الأميركية, وبحملها على تبني الطروحات الصهيونية وقادة إسرائيل, بأن تصبح البلدان العربية بأسرها, بدءاً بالعراق, مسرحاً لهذه المعركة الواحدة, وفي ذلك تحاول إسرائيل أن تشعل, وأن تحمل آخرين على أن يشعلوا معها أوسع تفجير يطول بنيرانه كل المنطقة, ويتيح لإسرائيل أن تمرر, في إطاره, عملية إقتلاع الشعب الفلسطيني وتهجيره وإبادته, كشعب, وكوجود بشري وسياسي, وكهوية وقضية. والإنتقام من مقاومة لبنان وإنتصاره بالإجهاز عليه, وبزعزعة سائر البلدان العربية وإخضاعها تباعاً.
في هذا السياق, تقرأ الحملة المسعورة على العراق وحرب تدميره وتفكيكه. وعلى المملكة العربية السعودية لتعطيل دورها, ومصادرة قرارها المستقل والتحكم بثرواتها. وعلى مصر نفسها رغم معاهدة السلام المنفردة التي تربطها بإسرائيل. وعلى الأردن التي لن تنجو من مخالب الصهاينة, وهم الذين لم يشطبوها بعد من مخططهم كمكان آخر إضافة الى لبنان تهجّر إليه إسرائيل من ينجو من عملية إبادتها للشعب الفلسطيني. وعلى سوريا ولبنان ولإسقاط صمودهما, خصوصاً بعدما بات الصهاينة يعتبرون الإجهاز على الصمود السوري هو البوابة لإسقاط الإنتفاضة وإقتلاع الشعب الفلسطيني. وهو السد المنيع الذي من دون إسقاطه يستحيل على الصهاينة ¬ كما يدركون ¬ أن يبسطوا سيطرتهم وهيمنتهم على المنطقة. وفي هذا الإطار, يندرج “قانون محاسبة سوريا” الذي يحاول اللوبي الصهيوني تسويقه في الولايات المتحدة, مستهدفاً سوريا والتحريض عليها وتهديدها, مثلما يستهدف في الوقت نفسه إستمرار تعويل الإدارة الأميركية بالذات على دور سوريا الأساسي في مسيرة السلام, والذي من دونه لا سلام ولا إستقرار تنعم به المنطقة.
إنه الزلزال الذي سوف يضرب المنطقة بأسرها بمجرد شنّ الحرب على العراق, وهو ما سوف يعني الإنتقال بكل بلد عربي الى التفتيت القطري, والى إعادة تركيبه على أساس المزيد من التفكيك, بالتركيز على الفوارق, أو التعدد الأتني والمذهبي والطوائفي, والدفع بها الى مستوى المعازل المتفاصلة المتناحرة.
محاولة إستنفار العالم وتحريضه
في هذا السياق من محاولة إستنفار الولايات المتحدة الأميركية والعالم بأسره وتحريضهما ضد الإسلام, بدءاً من البلدان العربية الإسلامية, لا يعدم الصهاينة أصواتاً أميركية متصهينة الى جانبهم من أمثال ريتشارد بيرل وبات روبرسون وفولويل وفيث الذين يعلنون بأن الخطر الأساسي على الولايات المتحدة إنما هو الإسلام.
فلكي ينجح الصهاينة في إضفاء الطابع الكوني على حربهم العنصرية الإرهابية, فهم يعمدون الى جعلها مواجهة دينية, وصراعاً دموياً بين الأديان, يحاولون في خضمها أن يستدرجوا المسيحية والبلدان التي يعتنق مواطنوها الدين المسيحي, الى الوقوف بجانب اليهودية التي يصورونها رأس حربة الدفاع عن اليهودية والمسيحية معاً, بمواجهة ما يدّعون كونه هجمة الإسلام على الديانتين المسيحية واليهودية.
في هذا السياق خصوصاً, تندرج مسألة البروز المفاجئ للوهلة الأولى, لظاهرة المسيحانيين الصهيونيين في الولايات المتحدة الأميركية خصوصاً, والذين هم ثمرة عملية تبشير مسيحاني وليس تبشيراً مسيحياً, توجه بداية, ومنذ أواخر القرن التاسع عشر, أي مع ولادة وترسّخ الحركة الصهيونية, الى ما اعتبر “تنصير اليهود” المهاجرين والوافدين الى الولايات المتحدة الأميركية. أما في حقيقة الأمر فهو تبشير بالطروحات والتأويلات الصهيونية والترويج لما تدعيه من ضرورة إلهية (كذا !!) لاستعادة دولة إسرائيل ولدورها المزعوم في تحقيق المشيئة الإلهية (كذا !!). وفي التهيئة لمجيء “المسيح المنتظر” (كذا !!), وفي إعتبار خلاص الإنسانية رهناً بقيام مملكة إسرائيل, وسوى ذلك من التخريجات والتخرّصات الصهيونية السياسية المفضوحة بمضمونها واستهدافاتها.
ويجدر الإنتباه هنا الى بدعة ما بعدها بدعة, يحاول الصهاينة تكريسها, ذلك أن السيد يسوع المسيح الذي أتى من أجل خلاص البشرية جمعاء, لا علاقة مطلقاً له بمن يدعى بـ “المسيح” الذي ينتظره اليهود ليخلّص إسرائيل فقط ويحكمها على العالم.
وعلى كل حال, فإن الكنيسة الكاثوليكية الأميركية التي تعاني الأمرين اليوم في الولايات المتحدة من هذه الظاهرة المسيحانية ومن تفشي حضورها وبروزه المتفاقم في مراكز القرار السياسي والإعلامي والإجتماعي الأميركي, تقاوم بكل ما تملك من إمكانات هذه المغامرة المدمرة التي يحاول الصهاينة والمسيحانيون المندرجون تحت معطفها أن يزجوا بالولايات المتحدة والمسيحيين الأميركيين والشعب الأميركي في غمارها ولُجّة أخطارها الكارثية على العالم. وهذا ما عبّر عنه الكاردينال ماك كري رئيس أساقفة شيكاغو, خلال زيارته لبنان منذ بضعة أسابيع.
وهذا, ناهيك عن أن الكنائس البروتستانتية الأميركية بأغلبيتها الساحقة تتبرأ من هذه الظاهرة المسيحانية الصهيونية. وقد وجّهت رسائل رسمية الى الرئيس بوش تؤكد فيها أن مواقف وتصرفات بعض الجماعات المسيحانية المتصهينة لا تعبّر عن الموقف المسيحي الحقيقي.
لا بديل عن الإنتفاضة
في ضوء كل هذه المعطيات, ورغم كل المصاعب والمخاطر التي تربك الإنتفاضة وتحدق بها, فالإنتفاضة من جهتها لا يسعها أن تدع نفسها تموت. وهي لن تتوقف ما لم تنتف الأسباب التي أدت الى اندلاعها. إنها حركة شعب بأكمله, لم يطلقها ولم ينظمها, ولم يبرمجها, وليس بقادر تالياً على إيقافها, قائد, ولا حزب, ولا فصيل, ولا منظمة, ولا حركة معينة, ولا تحديداً ياسر عرفات نفسه.
لا بديل من الإنتفاضة, بالنسبة الى الشعب الفلسطيني الذي لا يملك إلا أن يستمر فيها. فهو لا يجد أمامه من خيار آخر إلاّها, في مواجهة المشروع الصهيوني الذي يخيّره إما بالموت إنتحاراً, وإما بالموت إغتيالاً أو إقتلاعاً أو إبادة. والإنتفاضة هي ما يعبد فعلاً طريق السلام العادل والشامل, بإجبارها إسرائيل على إدراكه الحل الأوحد للصراع العربي الإسرائيلي.
إن إنتصار المشروع الصهيوني أمر مستحيل, حتى لو نجحت إسرائيل في إضفاء الطابع الكوني لحربها, بل خصوصاً بسبب من هذا الطابع الكوني. ولن يكون مصير حربها هذه, عليها أولاً, سوى المصير ذاته الذي جلبه وتسبب به لألمانيا مشروع نازية هتلر في حربه الكونية.
هل بدأ الإسرائيليون بالإنتباه الى هذه الحقائق الكارثية التي تظهرها حقائق إنهيار كيانها المتأزم؟
هل بدأ الإسرائيليون يدركون إن أزماتهم في انعدام الأمن, ودوام اللا استقرار, واهتزازهم الإقتصادي والمالي, والمجتمعي, والإضطرابات والأمراض النفسية بما يشبه الوباء المتفشي, إنما هي وثيقة الإرتباط بإحتلال إسرائيل للأراضي الفلسطينية في الضفة والقطاع والقدس, وبالإبقاء على المستوطنات؟
ثمة مؤشرات جديدة على رفض متنام للسياسة الإسرائيلية الرافضة أي حل آخر غير الحل العسكري الشاروني التصفوي بإبادة الفلسطينيين وترحيلهم.
فللمرة الأولى, بعد إغتيال رابين وتدهور أوضاع إسرائيل المتلاحقة, تبرز ظاهرة عمرام ميتسناع, الزعيم الجديد لحزب العمل, بطروحات سياسية مختلفة نوعياً, ومتعارضة كلياً, عمّا كانت تتمسك به حكومات إسرائيل المتعاقبة حتى الآن.
فهو يدعو صراحة الى حل سياسي يقوم على الإعتراف بالدولة الفلسطينية, وبإزالة غالبية المستوطنات, وبانسحاب إسرائيل من الأحياء العربية في القدس, كما يعلن قراره بالإنسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة وإن من طرف واحد, إذا اقتضى الأمر.
مؤشرات الإنتصار الحقيقي
ومنذ أيام, خاطب ميتسناع الإسرائيليين بالقول حرفياً: “ان التصويت لليكود إنما هو تصويت للجريمة المنظمة”. وأضاف واصفاً شارون وأعوانه بكونهم “عصابة من المجرمين”, وهي تعابير تظهر للمرة الأولى في الخطاب السياسي الإسرائيلي.
بروز ظاهـرة ميتسناع لا يمـكن ردّها فقط الى دواع إنتخابية وحسب, في إطار التنافس على زعامة حزب العمل المتراجع, وإبعاد بنيامين بن اليعازار أو حاييم رامون عن هذه الزعامة. مثلما لا يمكن ولا يجوز المراهنة على ميتسناع, واعتباره الوعد الأكيد بجنوح إسرائيل القاطع الى الخيار الستراتيجي بالسلام المنشود.
لكن الذي لا ريب فيه أنه لو أقدم صاحب هذه الطروحات على طرحها علناً قبل عام من الآن, لكان قتل, ولقي المصير نفسه الذي تعرّض له يتسحاق رابين.
أما اليـوم, فإن مبادرته العلنية الى هـذه الطروحات, إنما تدلل بذاتـها على بداية تحوّل نوعي في الرأي العام الإسرائـيلي. حتى وإن اعترضته تهديدات بالقتل. وهذا ما أكدته “يديعوت أحرونوت” في عددهـا بتاريخ 9/12/2002, قائلة: “منذ إنتخاب عمرام ميتسناع لمنصب رئيس حـزب العمل, وصلت تهديدات للمس به بسـبب مواقـفه الحمائمية, ووصـل الأمر الى حد القيام برسم شعارات على غرار: “رابين بانتـظار ميتسنـاع”.
وفعلاً, فإن تأكيد استطلاعات الرأي الجارية حالياً على قدم وساق في إسرائيل, والمشيرة الى تقدم ميتسناع, وإن تواتر الأخبار في صحافة إسرائيل عن تزايد أعداد الضباط والجنود الإسرائيليين المتمردين على الخدمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة, وإن إعلان الموقعين على رسالة رفض الخدمة الذين شكلوا جمعية “شجاعة للرفض” عن استعدادهم للانطلاق بحملة إعلامية جديدة بعد عدة أشهر من الهمود الشعبي الإسرائيلي, معربين بذلك عن إرادتهم بأن يكونوا جهة سياسية ذات أهمية وازنة في مواجهة المستوطنين (هآرتس ¬ 9/12/2002). إن ذلك كله يؤشر فعلاً على تنامي ظاهرة جديدة داخل إسرائيل, بعد كل تلك الآمال العريضة التي عقدت على شارون, وعلى نتنياهو وباراك من قبل. وهو ما يؤكد, في النهاية, فعل الإنتصار الحقيقي الذي حققته الإنتفاضة باستمرارها.
سوف لا ينتصر ميتسناع بالتأكيد في الإنتخابات المقبلة, وهو قد جرى تطويقه أصلاً ضمن حزب العمل ببن اليعازر والتيار المستعد للتعاون مجدداً مع شارون. والأرجح, إن لم نقل من الأكيد, أن يكون النجاح في الإنتخابات المقبلة حليف التطرف: وهو ما يعني إقتراع إسرائيل لاستمرار الأزمة وتفاقمها.
وليس من شك في أن الذين سيحكمون إسرائيل الى جانب شارون في حال إنتصاره بالإنتخابات لن يكونوا سوى مجموعة من مجرمي الحرب أمثال شاوول موفاز, وموشي أيالون, وإفّي أيتام وغيرهم ممن سيقودون إسرائيل الى المزيد من الإنهيار, وبأقصى أشكال العنصرية والفاشية السافرة. وسيكون علينا أن نتوقع تبعاً لذلك سنوات أربع على الأقل صعبة جداً. ذلك أن التغيرات الجدية في الخارطة السياسية الإسرائيلية لن تحدث إلا بعد أن يستنفد الإرهاب الصهيوني المتطرّف وقواه في إسرائيل كل قدراته.
هذه التطورات المحتملة تستدعي, بداهة, عملاً عربياً مشتركاً, في مواجهة الإرهاب الصهيوني وقادة إسرائيل الآخرين الذين فقدوا صوابهم.
سوريا ومعها لبنان هما اللذان يتابعان المواجهة الصحيحة, في الصمود وعدم التفريط بالحقوق الوطنية والقومية, في رفض التخلي عن السلام العادل والشامل وإستبداله بالإستسلام للمشيئة الصهيونية, وفي تمسكهما الدائم بقرارات الشرعية الدولية المتمثلة بقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن, في ما يتصل بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني, وإجبار إسرائيل على تطبيق القرارات الملزمة لها بالإنسحاب من الأراضي الفلسطينية والعربية التي تحتلها.
سوريا ولبنان يتابعان فعلاً سعيهما للوصول بالمنطقة الى السلام العادل الذي هو الحل الأوحد لإخراج المنطقة وبلدانها وشعوبها من دوّامة الحروب والكوارث التي تتسبب بها إسرائيل برفضها المنهجي للسلام, وبإمعانها بإجهاض كل فرصه.
ورغم كل تلك “الإنتصارات” المزعومة التي تتبجح إسرائيل بتسجيلها لصالح سياستها الإرهابية المدمرة, داخل الإدارة الأميركية, فإن التعويل الأميركي على دور سوريا, ما زال قائماً.
بل إن الغرب عموماً, ما يزال يتعامل مع نهج سوريا وسياستها باعتبارها تشكّل العنصر الأساس الذي من دونه لن يتوفّر أي حل جدي, حقيقي, عادل, قابل للحياة في المنطقة.
وهـذا ما يؤشـر عليه مؤخـراً الإستقـبال الحافـل من قبـل رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير والرئيس الفرنسي جاك شيراك للرئيس الأسد, والذي يتقدم دليلاً على الإقرار بصحة السياسة السورية المنسقة, المستقـلة فعـلاً, والتي يتابـع الرئيـس الأسـد انتهاجها وتطويرها بثبات.
إنها المرحلة الأخطر علينا نحن كذلك في لبنان. وهو ما يستوجب المزيد والمزيد من توفير أسباب التماسك والمنعة لوطننا ولمؤسساتنا, والمزيد المزيد من الحرص الشديد على وحدة شعبنا, ونبذ كل ما من شأنه أن يمس هذه الوحدة بأقل ضرر. والمزيد المزيد من تشديد التضامن مع سوريا, ونبذ كل ما من شأنه أن يسيء الى هذا التضامن, أو أن يرمي بصورة مباشرة أو مداورة الى إبعادنا عنها, والإنتقام والنيل من صمودنا المستند الى صمودها.
إنه لفي ذلك, استفرادنا وعزلنا, للإنقضاض على لبنان والقضاء عليه.
إسرائيل الى أين؟
إنها سائرة الى المجهـول والهاويـة, في حين أن طريقنـا نحن واضحة برفـض الإستـسلام رغـم وعورتـها وصعابها وشدائدهـا. وهي التي تقودنـا, بالصمود, الى مستقبـلنا فـي التطـوّر والإستـقرار والأمـن والحرية.