- En
- Fr
- عربي
قضايا اقليمية
يتم توصيف المزاج الشعبي العام في إسرائيل اليوم, من خلال وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها, بأنه “سيئ للغاية, وكئيب, والمعنويات مهزوزة, والإحساس بالخوف وفقدان الأمن الشخصي شائع ومنتشر ويتم التعبير عنه بكل جرأة ووضوح, والأمل بمستقبل أفضل, سواء على الصعيد الشخصي أم على صعيد الدولة, يتآكل بالتدريج . هذا رأي مختصر ومفيد بشأن الأوضاع الإجتماعية والمعنوية والنفسية التي يعيشها مجتمع المستوطنين, الوافدين من مختلف أصقاع الدنيا, ليس من منطلق عقيدي أو ريادي على الأغلب, بل من منطلق المنفعة والمصلحة والبحث عن فرصة أفضل للعيش. فهذا المجتمع لا جذور له في عمق الأرض الفلسطينية المغتصبة, وهو من أجل ذلك معرض في كل لحظة من لحظات الغضب والإضطراب وعدم الإستقرار, من جراء المواجهة الدموية اليومية ما بين أصحاب الأرض والمحتلين, للإهتزاز وإعادة التشكل من جديد, خاصة إذا كانت الخسائر اليومية التي يدفعها هذا المجتمع, لا تقتصر فقط على الجوانب المادية والإقتصادية, بل تطال أيضاً العنصر البشري, ما يستوجب إعادة الحساب من جديد أكثر من مرة, على صعيد البقاء أو عدم البقاء في هذه الأرض الملتهبة, والتي تبين للجميع أنها ليست ولا يمكن أن تكون جنة عدن الموعودة, طالما بقي فيها الإحتلال الغاشم يعيث فتكاً وإفساداً وظلماً.
من هنا كان من البديهي أن يفكر الكثير من المهاجرين اليهود أو المتهودين حديثاً بدافع الطمع, في النزوح عن هذه الدولة المصطنعة والمركبة تركيباً مزجياً عشوائياً, بحثاً عن حياة عادية آمنة ووديعة لهم ولأولادهم في دولة أخرى طبيعية.
في هذا السياق أفاد استطلاع خاص أجراه معهد “موتغيم” لملحق جريدة “هآرتس”, أن المهتمين بالنزوح عن إسرائيل يشكلون حالياً 14% من الجمهور اليهودي الراشد. وهؤلاء لا توجد لهم خصائص سياسية محددة, أو حتى جغرافية, بل تجمعهم حداثة السن. أما بالنسبة للذين تجاوزوا سن الـ65 سنة فلا يوجد بينهم سوى نسبة ضئيلة فقط تفكر في النزوح والعودة الى بلدانها الأصلية. وبالتالي تبين أن الكتلة البشرية المهتمة أكثر من غيرها بالنزوح, تتراوح أعمار أفرادها ما بين 25 و43 سنة. وهم عادة من الإسرائيليين الذين ما يزالون في بداية طريقهم المهني, وعلى عتبة تأسيس عائلة, أو أنهم آباء لأطفال صغار.
والجدير بالذكر أن هذه الشريحة الإجتماعية تتحمل النصيب الأساسي من أعباء خدمة الإحتياط, وهي بوجه العموم تواجه صعوبات في شراء منزل أو في تسديد الرهونات العقارية, كما وأن لديها معرفة وإضطلاعاً بالأحوال التفصيلية للأوضاع المعيشية في العديد من دول العالم, خاصة تلك الدول المعنية باستقطاب هجرات خارجية ذات صفات نوعية معينة.
الملاحظ أيضاً أن حركة النزوح عن إسرائيل, كانت قد انخفضت كثيراً عن معدلاتها المعهودة, منذ لحظة توقيع إتفاق أوسلو عام 1993. ولكنها ما لبثت أن عادت الى الإرتفاع بشكل ملحوظ منذ اغتيال رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق اسحق رابين عام 1995, وتولي السلطة بعده من قبل نتنياهو ثم باراك ثم شارون, واندلاع انتفاضة الأقصى منذ نهاية العام 2000. حيث نجد أن العديد من الإسرائيليين باتوا يعيشون الضائقة بكل أبعادها ومعانيها الإقتصادية والإنسانية بل وحتى السياسية. والشجاع منهم لا يقول: أريد أن أستقل الطائرة غداً, بل يقول: أريد أن أحتفظ بجواز السفر في جيبي تحسباً ليوم عاصف. فهؤلاء يعتبرون أن الحياة في إسرائيل, كل إسرائيل, باتت خطرة, وثمة خوف من نشوب حرب كبرى في المنطقة, ما يجعلهم يتخوفون أكثر على أولادهم. وهؤلاء تقول عنهم الصحافة الإسرائيلية: “إنهم يريدون أن يكونوا واثقين من أنه سيكون باستطاعتهم ركوب آخر طائرة, إذا تكررت قصة سايغون”, خاصة وأن محصلة التفكير السياسي لهؤلاء الناس, قد اقتادتهم الى نقطة اليأس المطبق والنهائي من إحتمال وجود فرصة لتحقيق سلام, بين الإسرائيليين والعرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً.
في هذا المجال, يقول رئيس أركان الجيش الإسرائيلي اللواء موشيه يعلون: “أنا أدعي منذ مدة بأن الفلسطينيين, على الرغم مما يبدو لديهم من ضعف, قد يشكلون تحدياً على مستوى التهديد الوجودي لإسرائيل”. ويضيف “لا يتوجب قياس قوتهم بعدد البنادق الموجودة بحوزتهم فقط, أو في حقيقة أننا نتفوق عليهم عسكرياً بعشرات الأضعاف. بل يتوجب علينا أن نفهم ما يعتبرونه هم عمقهم الإستراتيجي, وهو العالم العربي. يجب أن نحكم على قوتهم الإحتياطية الكامنة, النابعة من أنهم يمسكون بالثقاب الذي قد يشعل المنطقة, ويجب أن نحكم على قوتهم, في مجال الشرعية الدولية, التي ما تزال تعتبرنا محتلين, وتعتبرهم واقعين تحت الإحتلال. وكل هذه الأمور تتمخض عن ضرورات واستحقاقات لا يستهان بها بالنسبة لنا”.
وفي ضوء هذه الآراء والمواقف, تأتي نظرية الفصل ما بين الإسرائيليين والفلسطينيين, لتحاول إحتواء وامتصاص, الكثير من النتائج السلبية التي أفرزتها حركة الصراع والمواجهة ما بين إسرائيل, التي تمارس أبشع أنواع إرهاب الدولة, وصولاً الى إرتكاب جرائم إبادة جنس, وبين الشعب الفلسطيني صاحب الحق والأرض الذي يدافع عن وجوده ومستقبل أجياله. وما من شك في أن من بين أهم هذه السلبيات, حالة التفكير بالنزوح, كحل سياسي وإجتماعي وأمني من طرف واحد. لا سيما بالنسبة للمهاجرين الوافدين حديثاً, الذين تحتفظ غالبيتهم بجوازات السفر الأجنبية, وهؤلاء ليسوا بحاجة الى المرور بإجراءات بيروقراطية معقدة وطويلة كي يغادروا إسرائيل.
أما بالنسبة للبلدان المفضلة للنازحين, فنشير من بينها الى تورنتو كندا, حيث أسعار العقارات متدنية نسبياً, وحي منهاتن في الولايات المتحدة بالرغم من إرتفاع الأسعار فيه, وأيضاً فلوريدا, ودول أوروبية مثل هنغاريا وتشيكيا خصوصاً بعد انضمامهما الى الإتحاد الأوروبي, وكذلك هولندا وإسبانيا ولا سيما منطقة كوستا دل سول وحي سان جرمان في باريس.
أخيراً, من الصعب أن نقدّر الآن كم من الإسرائيليين الذين فكّروا ويفكرون بالنزوح, قد نفذوا نواياهم, أو يعتزمون تنفيذها عما قريب. ولكن ما هو مؤكد وموثوق به, هو صورة الوضع التي تثير قلق المسؤولين الإسرائيليين والتي يستحصلون عليها من السفارات, وهي تبلّغ عن وجود تزايد ملحوظ في عدد الإسرائيليين الذين يطلبون الحصول على جوازات سفر وتأشيرات إقامة دائمة. فإلى جانب السفارة الكندية, سجل أيضاً في السفارة البريطانية ارتفاع مهم بنسبة 12% في عدد طلبات جوازات السفر خلال العام 2001 مقارنة بالعام الذي سبقه.