في بيوت الشهداء

حكايات وجع وشجاعة وإيمان

استقلال 2022

 

تمر السنوات ويظل الحزن محتفظًا بمساحته في الأعماق. تستمر الحياة لكنها تسير مضمخة بوجعٍ لا يبهت. يسألهن صغارهن عن «البابا» الذي لا يأتي لأخذهم من المدرسة، عن «البابا» الذي بات صورة في صدر البيت. فيرويْن لهم حكايات أبطال غابوا ليظل الآباء الآخرون قادرين على الاهتمام بأولادهم. يكبر الصغار وفي قلوبهم من الفخر ما يجعل حزنهم النبيل مصدرًا للنجاح، وحافزًا على التزام مسيرة الوالد. يكبر الصغار في غياب «البابا الشهيد» الذي يظل حاضرًا يوجه الخطوات، ويرعى شؤون العائلة من خلال مؤسسة قدّم لها حياته.

 

في بيوت الشهداء تصبح الأم فجأة أكثر من أم وأب، فكيف تُدير خسارتها لتربح أولادها؟ ومن أين تستمد القوة لمواجهة الشدائد بعد أن فقدت الشريك والسند؟ هنا حكايات ثلاث نساء كنّ على مستوى شجاعة أزواجهن، فلم تستطع الخسارة كسرهن. وقفن في وجه الألم بشموخٍ وعزة، ورسّخن في نفوس أبنائهن مبادئ آمن بها أزواجهن، واستشهدوا من أجلها.

 

لو تأخر قليلًا...

كانت غريس أبو عبدو زوجة المقدم الشهيد عبدو جاسر تتمنى لو تأخر قليلًا ذلك اليوم وشرب معها القهوة... لكنه مضى إلى قدره مستعجلًا، نهض باكرًا ومشى، فلديه عمل كثير. بعد ساعات قليلة، أتى الخبر الصاعق: استشهد في كمين بينما كان يُنفّذ مهمة. حصل ذلك في العام ٢٠١٠ في منطقة البقاع. لكن السنوات الاثنتي عشرة ليست مساحة تبدد الحزن، أو تخفف وقع الخسارة. الذكريات حاضرة كأن الأمر حصل بالأمس.

«اثنتا عشرة سنة أيامها صعبة وطويلة» تقول الزوجة، وتقر، مررنا بصعوباتٍ كثيرة، لكننا تقبّلنا الوضع لاحقًا وأكملنا الطريق. لدي ثلاثة أولاد، كان علي أن أنهض من أجلهم، وأن أحافظ عليهم وأحتضنهم من أجله. حافظت على المبادئ التي زرعها فينا، وفي طليعتها محبة الوطن والمؤسسة العسكرية... كان موجودًا دائمًا في المنزل، لم يغِب عنا ولا لحظة، وكذلك المؤسسة، فهي لم تغِب عنا في أي مناسبة.

وتتابع حكايتها: «ربيت أطفالي على المحبة، والصدق، وبزة الجيش. كانوا صغارًا، أكبرهم في العاشرة والنصف من عمره. لم يتمكنوا من استيعاب ما يحصل. كنت أصلي ليمنحني اللـه القوة ويساعدني. ثلاثة وقفوا إلى جانبي: اللـه، المؤسسة العسكرية وبالطبع زوجي عبدو الذي ظل حاضرًا في عائلتنا رغم غيابه».

تؤمن السيدة غريس أنّ كل مصيبة تصادف الإنسان تقوّيه، وهذا ما حصل معها. تقول: «كان بين يديّ ٣ وردات، ٣ أولاد من عبدو، منحوني القوة وكانوا دعمًا لي. وعدت زوجي أن أضعهم في عيوني وأربّيهم دائمًا بأفضل ما يمكنني، تمامًا كما كانت رغبته. من دونهم لا معنى للحياة لا شيء في الحياة. صحيح أنّني تعبت معهم ولكنّ هذا التعب، تعب الأم، يفرح قلبها وينسيها الصعوبات. اليوم أصبح روي مهندس بترول ويتخصص في حفر الآبار، ورالف مهندس ميكانيك وبيرلا سنة أولى طب. أفتخر بهم كما أفتخر بوالدهم وبنفسي، وكل ما نقوم به هو بفضل دعم عبدو لنا». «البابا تركلكُن كل شي»، هذا ما تقوله لهم دائمًا.

 

أنتظر يومًا...

تنتظر غريس أن يقول لها يومًا أحد أبنائها إنّه يرغب بالانخراط في المؤسسة العسكرية، فهم قد تربوا على حب المؤسسة، والبزة، ومبادىء الشرف والتضحية والوفاء، إنّهم أولاد شهيد. وتُسر إلينا: قالت لي بيرلا: «ربما ترينني يومًا مرتدية البزة العسكرية كطبيبةٍ في المؤسسة، ورالف أيضًا...»

أخيرًا ترى غريس أنّ زوجات الشهداء وعائلاتهم لا يمكن أن يتخلوا عن المؤسسة التي قدّم لها الشهداء أعظم ما لديهم. تقول: المؤسسة هي عائلتنا، بفضلها استطعنا الصمود. كان أزواجنا سندًا لها والآن هي سند لنا. أطلب من الله أن يحميها، وأن تبقى هذه البزة شامخة مثل الأرزة.

 

كان يعلم

استُشهد الرائد فادي عبدالله في معارك نهر البارد، كانت زوجته السيدة ساميا مشيك حاملًا بابنتهما رين، أما ابنهما عدنان فكان طفلًا ليس له من العمر إلا نحو سنتَين ونصف. تؤكد: «مثل أي عسكري يتطوع للخدمة في المؤسسة كان يعلم أنّه مشروع شهادة، لكنّه كان مندفعًا لا يهاب المخاطر ولا يقف في وجهه عائق. قبل نهر البارد شارك في حرب تموز. من جهتي كنت أشجعه وأسانده، وإذا اقتضى الأمر أنا مستعدة للدفاع عن وطني مثله. وإذا رغب ولداي بالانضمام إلى المؤسسة العسكرية مثل والدهما فلن أمانع. وتضيف: «هما يدركان أنهما أولاد بطل. وللمؤسسة فضل في ذلك فمن خلال النشاطات التي تنظمها سمحت لهم بأن يعرفوا أكثر عن مسيرة والدهم، عن مسؤولياته وتضحياته».

 

استمدينا منهم القوة

أنا أفتخر اليوم بشهادة زوجي تقول ساميا، وتتابع قائلة: أفتخر بابني الذي يدرس الطب، قدّره اللـه أن ينخرط في صفوف المؤسسة ويخدم فيها كطبيبٍ فيكمل مسيرة والده. ابنتي لم تعرف والدها لكنها تقف أمام صورته وتكلّمه». وتبوح، مررت بظروفٍ صعبة، طلبت المساعدة من رب العالمين ثم من فادي. قلت له: «إنت كون معنا وقاف معنا»، وبالفعل شعرت بأنّه كان معنا.

تتحدث عن عائلات جمعتها بها المعاناة الواحدة، وتؤكد، استمدينا القوة والإرادة من أزواجنا، فاستطعنا النهوض بعائلاتنا، وزرعنا الفخر في نفوس أولادنا، وكانت المؤسسة العسكرية دائمًا إلى جانبنا جميعًا تحمينا وترعانا، لا تمييز بين عائلة ضابط وعائلة رتيب أو فرد.

قبل أن تختتم حديثها تؤكد من جديد: حلمي أن يكون ابني أو ابنتي من أبناء هذه المؤسسة، ليس لأنّ والدهم من أبنائها فقط بل لأنني أحبها...

 

«أنا زوجة شهيد»

تحت وطأة القلق والخوف، تمنّت السيدة صونيا سجد زوجة العريف المجند الشهيد عباس المصري لو يهرب زوجها ولا يستمر في القتال في نهر البارد. فاتحته بالأمر لكنّه أجابها بأنّ ذلك مستحيل. فهو لن يرضى أن يوصم بالعار. قال لها: «أُفضّل ألف مرة أن أصبح شهيدًا للوطن على أن يُقال لابني والدك هرب من المعركة».

تقول: «عندما استشهد زوجي كانت الأمور صعبة، لدي طفلان، بنت عمرها سنة و٤ أشهر وصبي عمره ثلاثة أشهر. لكنّ عندما سمعت عبارة «شهيد الوطن»، ورأيته ملفوفًا بالعلم، شعرت بالقوة. ندمت لأنني تمنيت عليه أن يهرب. أشعر بالفخر وأرفع رأسي، أنا لست أرملة، بل زوجة شهيد. إنّه الفخر رغم الخسارة، إنّه وسام شرف نلته. من أكثر لحظات حياتي تأثرًا، كانت لحظة قدّموا له التحية العسكرية».

تُخرج صونيا بزة مضمخة بالدماء، تقول: «هذه هي البزة التي استشهد فيها زوجي، دمه ما زال عليها. احتفظت بها لأريها لابني، ولأحتفظ بدماء زوجي. حلمي أن يرتدي ابني هذه البزة».

 

ليش ما عندي بابا؟

تصمت قليلًا ثم تتابع: ابنتي كانت صغيرة جدًا، عندما بدأت تكبر صارت تسأل عن أبيها أكثر. ثمة حادثة مؤثرة حصلت معنا. مرضت رفيقة ابنتي في المدرسة فحضر والدها وأخذها. فجأة صارت ابنتي تمرض وترتفع حرارتها من دون أي سبب عضوي. سألتها عما بها فقالت لي: «أنا بدي بابا يجي ياخدني من المدرسة ليش أنا ما عندي بابا». قلت لها إنّ والدها استشهد حتى يستطيع والد رفيقتها أن يأخذها، من دون والدك لما بقي وطن ولا شيء. ابنتي تفتخر بأبيها، ومذ كانت صغيرة لا ترضى أن يُقال عنها يتيمة، تقول: «أنا ابنة شهيد».

 

إخوة الجرح

وتؤكد صونيا: «زوجي يحمينا ويعيش معنا. ومنذ استشهاده أصبح أولادنا أولاد مؤسسة الجيش. عشنا كأهلٍ نحن وجميع عائلات الشهداء، لا يفرّق بيننا دين أو مركز أو أي أمر آخر، نحن أخوة الجرح نفسه. وكل قائد لهذه المؤسسة هو بمنزلة الأب لنا، لذلك عندما نتألم أو نمر بصعوباتٍ نتوجّه إليه...

هذا بعض من حكايات الوجع والفخر في بيوت الشهداء، بيوت فيها الكثير من ألم الخسارة، لكنّه ألم يقترن بالإيمان والشجاعة والأمل ليُسهم في بناء شباب وصبايا يقدسون التضحية، يفتخرون بآبائهم ويفتخر بهم الوطن.