كلمتي

حوار الساحات
إعداد: العميد الركن صالح حاج سليمان
مدير التوجيه

ليس أجمل من المطر ناقراً على سطوح القرميد كما يشاء، لكنه حين يطوف في الحديقة، يقتضي تنظيمه وتوزيعه في أقنية وسواقٍ تؤدي به إلى الحقول يرويها، وإلى مصبات البرك يغذيها ويمنع عنها النضوب.
وليس أطرب من الأنغام منبعثة من بين الأوتار والأبواق، لكنها حين تتنوع وتزداد وتتداخل، يجب أن يتم تأمين المؤالفة في ما بينها ضماناً لفرح السامع ونشوته وهدوء مشاعره وهناء عقله، إذ لا يمكن أن تستمر الموسيقى وتتطور بنغم واحد وصوت واحد وآلة واحدة، لكننا بالمقابل لا يمكن أن نضمن غناها بتعدد الأنغام وحده، وتراوح الأصوات ومجاورة الآلات، ما لم يحصل بينها ذاك التفاهم الفني المدروس الذي لا يختلف حوله اثنان من ذوي العلم والتجربة.
لعل هذا ما ينطبق على الحوار بين الناس، وبالتالي بين المواطنين، حين يزدادون عدداً ويتنوعون أفكاراً ومطالب وآراء. كان أجدادنا في ما مضى ينتهون إلى التلاقي في ساحة الضيعة يتسامرون أو يتلهون أو يتخاصمون، ويحتدّ الخلاف بينهم صراخاً وسباباً... إلى أن يتدخل أوّلو الأمر ويفصلون في ما بين أطرافهم، ويصلحون الأمر، ويعيدون الصلح إلى نصابه، ويعطون لكل ذي حق حقه، متوخين في كل ذلك مصلحة ضيعتهم التي تفوق كل مصلحة.
أما في المدينة، متسعة كبيرة ممتدة، فكانت هناك ولا تزال ساحات عديدة، منها للفرح، ومنها للترح، ومنها للتسوق، ومنها للتخاصم والتظاهر ومواجهة الأعاصير.
إن حرية التعبير مصونة في كل مكان، يضمنها القانون قولاً وكتابة وبثاً، لكنها تشمل الجميع، وحرية أي جهة تنتهي عند حرية الجهة الأخرى. من هنا وجب تنظيـمـهــا في المجتمع، تماماً كما يتم تنظيم حركة الطيران في فضاء الدنيا، حيث يســمح لـكــل طــائــرة أن تعــــبر الأجواء في الليـــل وفي النهار، وفي رحلة قصيرة أو طويلة، لكن طائرة أخرى يجب أن تعبر أيضاً، وطائرة ثالثة وطائرة رابــعــة، ويجب أن يتم تنظيــم الحركة أمام الجميع.
في ظل الحوار يجب إلغاء النية المسبقة لإلغاء الآخر، وعند الإصرار على تلك النية تنتهي الحاجة إلى الحوار، وإلا وجب الانتظار حتى يتمكن طرف من القضاء على الطرف الآخر، ويكتفي عندها بالحوار مع نفسه من دون غيرها.
صحيح أنّ الحوار لا يصلح ولا يكتسب حيويته إلاّ إذا انطلق من الساحات حيث سعة التعبير وشموليّة الآراء والمطالب، لكنه لا ينتهي إلى النتائج المرجوة إلاّ إذا تمّ «تدجينه» على الطاولات وفي القاعات، وإلاّ فقدت حناجره النطق، وحُرمت آذانه السمع، وانتحر في العراء.