من الذاكرة

خفايا استقلال لبنان
إعداد: د. ألكسندر أبي يونس
باحث وأستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية

­تعدّدت الروايات حول مجريات أحداث تشرين الثاني 1943 والأزمة بين لبنان وفرنسا، إلّا أنّها أجمعت تقريبًا على اعتبار الرئيس بشارة الخوري وحكومة رياض الصلح بطلَي الاستقلال، في حين صُوّر سلوك إميل إدّه خارج الإجماع الوطني. إنّ الرواية الموثّقة التي سنوردها في ما يأتي من سطور تختلف كليًّا عن سابقاتها، لأنّها تعطينا نظرة جديدة عمّا جرى في تلك الأيام من تشرين الثاني 1943، والتي أفضت إلى استقلال لبنان، من دون التقليل من أهمية إرادة الشعب اللبناني التي التقت مع مصلحة البريطانيين والعرب. يُضاف إلى ذلك عامل آخر ليس له ما يبرّره، وهو إجراءات المندوب الفرنسي جان هلّلو في 10 و11 تشرين الثاني 1943 والتي يمكن اعتبارها إساءة لاستخدام السلطة.

يُعتبر لبنان من الدول الوحيدة في العالم التي أجرت انتخابات نيابية في آب وأيلول 1943 خلال الحرب العالمية الثانية، وذلك بعد إلحاح الإنكليز على الفرنسيين الأحرار. وفي 21 أيلول 1943، تمّ انتخاب رئيس لمجلس النواب للمرة الأولى من الطائفة الشيعية وهو صبري حماده، وفي اليوم نفسه تمّ انتخاب الشيخ بشارة الخوري رئيسًا للجمهورية من دون منافس. وفي 7 تشرين الأول 1943، نالت حكومة رياض الصلح الاستقلالية ثقة النواب ومن بينهم إميل إده. وعلى الفور بدأت الاضطرابات السياسية مع الفرنسيين، إذ عقد المجلس النيابي جلسة تعديل الدستور في 8 تشرين الثاني 1943 في حضور معظم النواب وممثّلين عن بريطانيا، والولايات المتحدة، ومصر، والعراق، لكن من دون إعطاء علم للفرنسيين الذين اعترضوا على هذا الإجراء. على الفور تُليَ مشروع القانون الدستوري المنوي تعديله في المواد 1 و5 و11 و52 و102، وإلغاء المواد 90 و91 و92 و93 و94 المتّصلة بالانتداب، وكانت الحكومة اللبنانية قد سبق لها أن شكّلت لجنةً فنيةً خاصّة لدراسة شكل العلم اللبناني الجديد قبل تعديل المادة الخامسة المتعلّقة به.
بعد المناقشة القصيرة التي استغرقت ساعتين فقط، طُرح مشروع تعديل الدستور على التصويت من دون إحالته إلى لجنة خاصة لدراسته، فوافق عليه 48 نائبًا من أصل 55، وسارع رئيس الجمهورية إلى نشره في الجريدة الرسمية صباح 9 تشرين الثاني 1943 قبل وصول هلّلو إلى بيروت. وفي الوقت نفسه الذي كان يعدّل فيه الدستور اللبناني لإنهاء الانتداب الفرنسي، وُجّهت دعوة إلى لبنان لحضور مباحثات الوحدة العربية.
 
مجريات 10- 11 تشرين الثاني 1943
وصل هلّلو إلى بيروت بعد ظهر 9 تشرين الثاني 1943، وكان التعديل الدستوري قد نُشر. فعمدت المندوبيّة الفرنسية في صباح 10 تشرين الثاني 1943 إلى سحب الدعوات التي كانت قد وجّهتها إلى أفراد السلطة اللبنانية لحضور حفل ذكرى الهدنة المصادف في 11 تشرين الثاني. فاحتجّ رئيس الجمهورية وتقرّر إرسال الملحقين العسكريين لحضور العرض العسكري فقط، كما قرّر الجيش التاسع الإنكليزي عدم المشاركة على الرغم من تحية تشرشل لفرنسا. في ذلك اليوم عيّن الرئيس بشارة الخوري الكولونيل سليمان نوفل قائدًا للدرك، والكولونيل نور الدين الرفاعي قائدًا للشرطة. وصدف أيضًا أن وصل ملك يوغوسلافيا إلى بيروت في اليوم نفسه، وقد أقام له سفير بريطانيا الجنرال إدوارد سبيرس عشاءً، وأكّد هلّلو لسبيرس خلال الحفل بأنّه لن يقوم بأيّ عمل فيه عنف، أو يعكّر الأمن والسلام.
لم يدرِ أحد بما خطّط له هلّلو الذي جهّز قرارين رسميين لكنه لم يعلنهما فورًا، بل نشرهما فجر 11 تشرين الثاني، الأول حمل الرقم 464 وشدّد على عقد معاهدة اتّحاد ومودّة فرنسية-لبنانية تكرّس نهائيًا استقلال البلاد، ولم يعترف بتعديل الدستور بل أبقى على مواده كما هي، وحلّ مجلس النواب اللبناني، وأوقف تطبيق الدستور على أن يُعاد العمل به بعد إجراء انتخابات نيابية جديدة. كما قرّر تعيين رئيس دولة وحكومة يمارس السلطة التنفيذية خلال فترة تعطيل الدستور ويؤازره وزراء دولة يعيّنهم هو ويكونون مسؤولين تجاهه. القرار الثاني حمل الرقم 465، عيّن بموجبه إميل إدّه رئيسًا مؤقتًا للدولة وللحكومة إلى أن يُعاد تطبيق الدستور، مع تخويله السلطات المحدّدة في القرار 464. وإميل إدّه لم يكن يعلم بهذا القرار لأنه كان في ليلة 10 تشرين الثاني يحضر مسرحية بالفرنسية في «الوست هول» في الجامعة الأميركية في بيروت.
أرسلت المندوبية الفرنسية فجر 11 تشرين الثاني وبالتوقيت نفسه، فرقًا عسكرية لاعتقال الرئيس بشارة الخوري ورياض الصلح والوزراء: كميل شمعون، وسليم تقلا، وعادل عسيران، والنائب عبد الحميد كرامي وأودعتهم في قلعة راشيا، كما أرسلت أنطوان رزق، أحد كبار موظفي المفوضيّة العليا، إلى إميل إدّه لينقل إليه رغبة هلّلو الاجتماع به. فتفاجأ إدّه إذ كانت الساعة الخامسة فجرًا، لكنّه ارتدى ثيابه وذهب للاجتماع بهلّلو من دون أن يكون لديه علم بما يحدث من اعتقالاتٍ لرجالات الدولة.

الأمر الواقع
اجتمع إده في السراي الكبير بهلّلو الذي أطلعه على تقارير تقول إنّ الشيخ بشارة الخوري ورياض الصلح وعبد الحميد كرامي وكميل شمعون، يريدون أن يبدّلوا الانتداب الفرنسي بالانتداب الإنكليزي، وما نغمة الاستقلال إلّا تغطية على ذلك، وبالتالي أطلعه على القرارَين اللذين اتخذهما وهما من وحي ما جرى في العامين 1932 و1939، ومشدّدًا على عقد معاهدة تحالف وصداقة بين لبنان وفرنسا، تكرّس نهائيًا استقلال لبنان وتعطي امتيازًا لفرنسا. وتمادى هلّلو أكثر مع إدّه، محذّرًا إيّاه في حال رفض تسلّم المنصب، بأنّه سيعمد إلى تعيين ضابطٍ فرنسيّ، وليس حاكمًا وطنيًا، وعند ذلك سيصبح حُكمًا على الفرنسيين الخضوع للإنكليز بموجب اتّفاقية ديغول-ليتلتون الموقَّعة في العام 1941، عندها سيوضع لبنان تحت الحكم البريطاني. استطاع هلّلو أن يضع إميل إده أمام الأمر الواقع، ويضرب على الوتر الحساس في هذه المواضيع التي لطالما واجهها، بخاصةٍ عندما كان رئيسًا لمجلس النواب (1924-1925) ورئيسًا للحكومة (1929-1930).
هنا وصل إلى السراي النجل الأكبر لإميل إدّه لمحاولة إقناع والده برفض تسلّم الحكم من الفرنسيين. وتشاء الظروف الصعبة أن يصبح إميل إدّه داخل غرفة هلّلو عندما وصل نجله ريمون الذي لم يكن قد عرف بعد هو أيضًا بقصة الاعتقالات، فمرّر له من شق الباب رسالة صغيرة كتب عليها بالفرنسية refuse papa أي ارفض يا أبي. فردّ إميل إدّه من شقّ الباب نفسه برسالة جوابية قال فيها: c’est trop tard، أي فات الأوان، مع العلم أنّ إميل إدّه لم يكن قد اتّخذ قراره النهائي بعد. فقال ريمون لوالده: «إنّني أحذّرك من ارتكاب خطأ تاريخي. في الظروف الحالية من غير الممكن قبول السلطة من دون التعرّض لتهمة الخيانة. واقع المعركة كما هو الآن يمنع عليك قبول هذا المنصب، حتى وإن كنت في أعماق نفسك تفكّر في أنّك تقبل السلطة من أجل خدمة الأمّة. وأعرف أنّ ما يحصل الآن سيجعل كلّ من يتسلّم السلطة موضع اتّهام من الأمّة، وهم الذين سيصبحون الأبطال الكبار للاستقلال». أجاب إميل إدّه: «لا بد من إنقاذ الوضع الحالي مهما بلغ الثمن».
في صباح 11 تشرين الثاني، هرول أحد جيران بشارة الخوري من جوار القصر الجمهوري في القنطاري إلى بيت إميل إدّه في الصنائع بعدما شهد لحظات اعتقال الرئيس، ودخل على ريمون في غرفته، الساعة السادسة صباحًا مرتجفًا ليقول له: «أستاذ ريمون، أوقفوا الشيخ بشارة». سأله من؟ ردّ: «الفرنسيون». عاد ريمون إدّه إلى السراي في السادسة والنصف صباحًا، ودخل بالقوة لمقابلة والده في حضور هلّلو وقال له: «مررت في البسطة فوجدت الناس يشتمونك في غضبة شعبية كبيرة. لا تقبل بأيّ اقتراح من هلّلو. إيّاك أن تقبل بتسلّم السلطة». فقال الرئيس: «اذهب إلى البيت. لستُ ولدًا، ولن أرتاح إلّا بما يرتاح إليه ضميري». فأجاب ريمون: «أحذّرك من القيام بهذا العمل، لأنّ الفرنسيين سيتركوننا نقع في مشكلة كما يفعلون دائمًا».

 

أسباب تسلّم إميل إده السلطة
بعد أن غادر ريمون، وجّه إميل إدّه سؤالًا إلى هلّلو إذا كانت الاعتقالات صحيحة؟ فأكّد له صحة ذلك. اعترض إدّه على عملية الاعتقالات، وحاول إقناع هلّلو بأنّ المعارضة تكون في المجلس النيابي الذي هو بحاجة إلى 17 نائبًا لكي يتمّ تعطيل الجلسات فتتمّ العودة عن بعض المواد المعدّلة في الدستور، أو إعادة تصويبها بشكلٍ يتلاءم مع مصلحتي لبنان وفرنسا. لم يقتنع هلّلو بخاصةٍ أنّ إدّه لم يستطع إحالة مشروع تعديل الدستور إلى لجنةٍ خاصة، وأنّ نوابًا من الكتلة الوطنية وافقوا على التعديل، أبرزهم كمال جنبلاط. عندها اشترط إدّه الإفراج عن المعتقلين لكي يقبل بالتعيين المؤقّت، فوعده هلّلو بذلك.
لماذا وافق إميل إدّه على تسلّم السلطة في هذا الظرف الحرِج، وهو عَلم في اللحظة الأخيرة باعتقال رئيس الجمهورية ووزراء ونواب؟ يعود السبب الأول إلى إرادة إدّه التوقيع على معاهدة دفاعية بين فرنسا ولبنان على غرار معاهدة 1936 تحمي لبنان كيانيًا ووجوديًا من الأطماع، وتعطي مركزًا ممتازًا لفرنسا على غرار مركز بريطانيا في العراق ومصر، خصوصًا أنّه استشرف الخطر الإسرائيلي. فتشرشل قال سنة 1941 إنّ «اليهود طالبوا الحكومة البريطانية بأن يُضَمّ الجنوب اللبناني الذي يجري فيه نهر الليطاني إلى فلسطين». والصهيونية تريد ابتلاع جنوب لبنان بكامله بعدما أخذت سهل الحولة، بمساعدة الإنكليز الذين يخلقون الصعوبات أمام الفرنسيين لإجبارهم على تسهيل مهمّة الصهاينة التوسّعية. أمام الأطماع الإسرائيلية في جنوب لبنان وبخاصةٍ مياه نهر الليطاني، والرغبة في ضم الأقضية الأربعة إلى سوريا، أدرك إدّه مدى الأخطار المحدقة بمصير لبنان في حال لم توقّع معاهدة دفاعية مع فرنسا التي هي وحدها على الصعيد الدولي، قادرة على حماية الكيان اللبناني. ومع بدء مفاوضات الوحدة العربية في تشرين الثاني 1943 بدعمٍ من الإنكليز، تخوّف إدّه من فقدان لبنان أراضي كثيرة، بخاصةٍ أنّ هدف بريطانيا والولايات المتحدة هو إلغاء النفوذ الفرنسي في الشرق الأوسط، وتحديدًا في لبنان. لذلك رأى إميل إده أنّ وجود دولتين متوازنتين، أفضل من قيام دولة واحدة حاكمة لمنطقة الشرق الأوسط وأنّ لبنان بحاجةٍ إلى ضماناتٍ دولية، وإلى أن يكون صديقًا لجميع الدول.
وقد شرح إميل إدّه لألبير مخيبر بإسهابٍ هدفه من تولّي السلطة في تشرين الثاني 1943 قائلًا: «إنّ كلّ دول العالم، تسعى إلى ضمان أمنها وسلامة أراضيها وتجارتها، وذلك عبر معاهدات، لذا على لبنان أن يوقّع معاهدة دفاعية مع فرنسا، تضمن الإبقاء على قواعد عسكرية فرنسية من أجل المدافعة عن لبنان في حالة الحرب. وهذه القواعد العسكرية لا تنتقص من سيادة الدولة واستقلالها كما زعم البعض، ولو كانت كذلك، لكانت القواعد العسكرية الأميركية والبريطانية والفرنسية والروسية وغيرها المتمركزة في العديد من دول العالم انتقصت من سيادة هذه الدول. لماذا إذًا يُسمح بوجود قواعد عسكرية أجنبية في العالم العربي ولا يُعدّ وجودها انتهاكًا لسيادتها، في حين أنّ وجود قواعد عسكرية فرنسية في بلدٍ صديقٍ لها كلبنان يُعتبر انتقاصًا للاستقلال ولا يُسمح بها؟»
وافق إميل إدّه على تعيينه رئيسًا مؤقتًا للدولة، إذ اعتبر أنّ تكليفه أتى كتعيين ألفرد نقّاش، وأيوب تابت، وبترو طراد، ما بين 1941 و1943، ومن الوجهة القانونية فإنّ دوره مؤقّت، فعندما يُعاد إجراء انتخابات نيابية وتنبثق عنها سلطة جديدة يستقيل إدّه من منصبه، وهو سبق أن استقال من رئاسة الجمهورية في 4 نيسان 1941 عندما كان رئيسًا منتخبًا (1936-1941). وبالتالي أتت موافقة إدّه على تسلّم السلطة نتيجةً لرفض الفرنسيين تعيين لبنانيّ آخر، وهدّدوا بأن يؤول حكم لبنان إلى الفرنسيين مباشرةً. لهذه الأسباب، أعطى إدّه لهلّلو موافقته المشروطة بالإفراج عن المعتقلين. لكن ألم يخطر هنا لإدّه بأنّه لم يستطع إقناع الفرنسيين بالتوقيع على معاهدة 1936 طوال عهده الرئاسي، فكيف سيستطيع في تشرين الثاني 1943 عقد معاهدة بين لبنان وفرنسا، بعدما تغيّرت الظروف الدولية والإقليمية لمصلحة الإنكليز، وخسرت فرنسا نفوذها في المشرق، وفازت القوى المحلية المتخاصمة معه في الانتخابات النيابية والرئاسية، وشكّلت حكومةً، وعدّلت الدستور من دون موافقة الفرنسيين؟ لقد أخطأ إميل إده التقدير في تسلّمه السلطة في ظروف تشرين الثاني 1943، على الرغم من أنّه كان محقًّا في الدوافع التي أملت عليه اتّخاذ هذا القرار من أجل إنقاذ لبنان.

 

خطأ هلّلو ومسؤولية ديغول
ألقى هلّلو خطابًا من راديو الشرق الساعة 8,30 صباح 11 تشرين الثاني، أعلن فيه التدابير التي اتّخذها والقرارات التي أصدرها، من دون أن يعلن عن اعتقال بعض السياسيين ومكان احتجازهم، مبرّرًا ذلك بلجوء السلطة اللبنانية منفردةً إلى تعديل الدستور، وعدم انتظارها بضع ساعات لمعرفة مقترحات اللجنة الفرنسية. لكنّ إجراءات هلّلو بحقّ أركان الدولة لم يكن لها ما يبرّرها، وهي خطأ كبير يتحمّل مسؤوليته هو وجميع أعضاء اللجنة الفرنسية. أمّا اتّهام إميل إدّه بالوقوف خلف الاعتقال والتخطيط له مع الفرنسيين، فليس سوى إشاعة ردّ عليها الدستوري منير تقي الدين الذي كشف أنّ من دبّر خطّة الاعتقال هم «نفر من كبار موظفي المندوبيّة»، وهم بيلين رئيس الغرفة السياسية، وبوغنر مساعده، وغوتييه مدير الأمن العام، والكولونيل بواسو. وقد اعترف هلّلو سنة 1946 في مذكّراته بمسؤوليته الشخصية عن حوادث لبنان في تشرين الثاني 1943. وعندما اتّهم الإنكليز ديغول بالوقوف وراء الاعتقال، صرّح هلّلو بأنّ لا إميل إدّه ولا ديغول كانا يعلمان، غير أنّ الجنرال لمّا علم، وبّخه، لكنّه غطّاه سياسيًا كونه أقدم على فعلته.

 

الوزيران الطليقان
لم يعتقل الفرنسيون الوزيرين حبيب أبي شهلا والأمير مجيد أرسلان، فتضاربت المعلومات حول سبب ذلك، فمنهم من قال بأنّ الفرنسيين أرادوا اعتقالهما لكنّهم لم يجدوهما في منزلهما فجر 11 تشرين الثاني، وآخرون أجمعوا على عدم إرادة الفرنسيين باعتقالهما لأنّ أبي شهلا صديق إميل إدّه ويُعدّ أحيانًا من كتلته، والمير مجيد أرسلان ينتمي إلى الطائفة الدرزية، والفرنسيون لا يريدون أن يثور الدروز كما فعلوا في العام 1925.
فشل إميل إدّه بتشكيل حكومة في 11 تشرين الثاني بعد أن رفضت معظم الأطراف التعاون معه. وشكّل الوزيران الطليقان حكومة، وأصدرا المرسوم رقم 1 في 11 تشرين الثاني الذي نصّ على ممارسة صلاحيّات رئيس الجمهورية مؤقتًا، على أن يكون حبيب أبي شهلا رئيسًا مؤقّتًا لتلك الحكومة مع قيامه بمهمات عدّة وزارات.

 

العلم اللبناني
الحدث الأبرز الذي حصل في 11 تشرين الثاني، والذي كان لإميل إدّه يد فيه، وقد أغفلته معظم المصادر والمراجع، هو موقفه المؤثّر في تغيير العلم اللبناني في الجلسة النيابية التي انعقدت برئاسة صبري حماده وضمّت 7 نواب فقط، بسبب تعذّر وصول الباقين. والنواب الحاضرون كانوا: سعدي المنلا، هنري فرعون، صائب سلام، رشيد بيضون، مارون كنعان، محمد الفضل، وخليل تقي الدين، بالإضافة إلى كاتبين من كَتَبة المجلس، وضارب على الآلة الكاتبة العربية، ومفوّض شرطة المجلس حليم غرغور. وقرّر الجميع رسم علم لبناني جديد مستقلّ عن علم فرنسا مثلث الألوان وفي وسطه الأرزة. تناقضت الآراء حول شكل العلم لكنّ النواب السبعة توصلوا إلى صيغة توفيقية فتمّ تحديد شكل العلم وألوانه: الأحمر رمز دماء شهداء الحركة الاستقلالية، والأبيض رمز السلام، والأرزة تكرّس خلود لبنان. رسم سعدي المنلا العلم على ورقة بيضاء مع تلوين بدائي، بعد أن جيء بقلم رصاص وبقلم أحمر، ولم يجد النواب قلمًا أخضر، فرسموا الأرزة بالقلم الرصاصي العادي، ثمّ وقّعوا بإمضاءاتهم على الرسم وعلى الاقتراح، ووقف رئيس المجلس والنواب، وأقسم الجميع على أن تكون هذه الألوان علمًا للبنان المستقلّ على أن يُقرّ في المجلس النيابي بعد الإفراج عن المعتقلين.

 

الاستقالة المعلّقة في ظلّ الصراع الدولي
لم يفِ هلّلو بوعده لإدّه بالإفراج عن المعتقلين، فأقدم هذا الأخير على تقديم استقالته من رئاسة الدولة والحكومة في 12 تشرين الثاني، لكن هلّلو استمهله يومًا لكي يتباحث مع قيادته في الجزائر. هنا لجأت حكومة حبيب أبي شهلا إلى بشامون وتمّ تأليف الحرس الوطني، وطلبت بريطانيا من الفرنسيين إطلاق سراح المعتقلين، واستدعاء هلّلو. وقال تشرشل: كيف يمكن لفرنسا أن تفسّر رغبتها في إجلاء الأجنبي عن أراضيها وهي تبشّر بالاستعمار في غير بلادها؟ فردّ الفرنسيون بسؤال تشرشل ما إذا كان يقبل أن يتصرّف الفرنسيون في فلسطين مثلما يتصرّفون هم في لبنان؟ وقال تشرشل بأن «شدّة وقساوة حوادث الشرق قد خلقت لنا الفرصة السانحة أمام الرأي العام العالمي لنبحث جدّيًا أمر ديغول ولنوقفه عند حدّه. وبرأيي يجب إطلاق سراح جميع المعتقلين وإعادتهم إلى مراكزهم. فإذا رفض ديغول هذا الحلّ نبادر إلى إلغاء اعترافنا باللجنة الوطنية الفرنسية، ونوقف تسليح القوى العسكرية الفرنسية الموجودة في أفريقيا. وقد أصدرتُ أوامري للجنرال ويلسن بأن يكون على استعداد لفرض النظام والهدوء في لبنان». عندها نسّق الإنكليز والأميركيون موقفهما من فرنسا، فتلقّى القنصل الأميركي في بيروت تعليمات من حكومته تطلب منه عدم إجراء أيّ اتصال مع نظام إميل إدّه. وسارعت ألمانيا إلى انتقاد إجراءات ديغول في لبنان، محذّرةً لبنان في الوقت نفسه من تضييق الخناق البريطاني عليه.

 

لبنان بين حكومتين
أصبح لبنان مقسّمًا بين حكومتين، حكومة إميل إدّه وحكومة حبيب أبي شهلا، اللتين باتتا تصدران مراسيم متناقضة. حاول هلّلو الوفاء بوعده لإده بالإفراج عن المعتقلين، فاتّصل بألفرد نقّاش طالبًا منه التوسّط مع سامي الصلح بشأن قضية المعتقلين، فرفض الصلح بسبب التزامه موقف رجال الاستقلال. وحاول هلّلو تشكيل حكومة برئاسة عمر الفاخوري المعروف بانتمائه إلى الحزب الشيوعي. وهذه المحاولة أتت كون الاتحاد السوفياتي لم يعلن موقفًا من أزمة لبنان، وكون الفرنسيين عمدوا إلى تعليق صور ستالين إلى جانب صور ديغول في بيروت لإيهام الإنكليز والأميركيين بأنّ الروس إلى جانب فرنسا.
بعدما وصل هلّلو إلى حائط مسدود، اتّصل باللجنة الفرنسية في الجزائر التي رفضت استقالة إدّه وطالبته بالبقاء في منصبه، وقرّرت إيفاد الجنرال كاترو لتسوية القضية. أبلغ هلّلو الرئيس إدّه برفض استقالته، وبعد أن علم إدّه بتسوية الجنرال كاترو، وهاله قرار ديغول بإمكان رحيل فرنسا نهائيًا عن لبنان، قرّر البقاء في منصبه بعد 13 تشرين الثاني لكي يحاول التوقيع على معاهدة دفاعية بين لبنان وفرنسا. ولتحقيق هذا الهدف، عمد إلى تشكيل حكومة من المديرين والمحافظين. فردّت حكومة أبي شهلا بثلاثة بلاغات، دعت بموجبها مأموري الدولة إلى عدم التعاون مع إميل إدّه، لأنّ حكومته غير شرعية. كما منعت مصرف سوريا ولبنان من دفع أي مبلغ كان من أموال الخزينة اللبنانية إلى حكومة إدّه، وأمرت أمين صندوق الخزينة بعدم دفع أي مبلغ إلّا بأمرٍ تصدره الحكومة المتمثّلة بأبي شهلا-أرسلان. هنا وقع لبنان بين حكومتين تدّعي كل منهما الشرعية. فمجلس إدارة مصرف سوريا ولبنان اعتبر حكومة أبي شهلا-أرسلان هي الشرعية وبالتالي يجب الإذعان لها، في حين أنّ أمين صندوق الخزينة أذعن لقرار مدير المالية باعتبار حكومة إميل إدّه شرعية. هنا انقسمت دوائر الدولة بين الحكومتين. وانقسم المطارنة الموارنة بين الفريقين أيضًا، فالنائب البطريركي المطران بولس عقل أيّد إميل إده، في حين عارض مطران بيروت اغناطيوس مبارك الفرنسيين، فيما اعتمد البطريرك الماروني الحياد وقال: «لقد جرى تسرّع من الطرفين: من حكومة لبنان ومن احتدام هلّلو». ترافق هذا الانقسام مع تزايد التظاهرات الشعبية، فتضامن حزبا النجادة والكتائب برئاسة الشيخ بيار الجميل بين 14 و22 تشرين الثاني 1943، وتعرّض إميل إده لمحاولة اغتيال ورمي قنابل على منزله.

 

تهديدات بريطانيا ومحورها
في 14 تشرين الثاني، اجتمع كاترو في القاهرة بالقائم بأعمال بريطانيا في الشرق ريتشارد كايزي Richard Casey الذي استعجله معالجة الوضع المتأجّج نظرًا لأنّ الإساءة التي حصلت بحقّ استقلال لبنان تمسّ بشرف بريطانيا باعتبارها كفيلة لهذا الاستقلال. وأكّدت قيادة الجيش الإنكليزي التاسع أنّها غير موافقة على اعتقال رجال السلطة في لبنان، وأنّها ستضطرّ إلى التدخل للإفراج عنهم في حال لم تفعل ذلك فرنسا. وبالفعل، وصلت طلائع فرق عسكرية بريطانية من فلسطين إلى لبنان. وفي السياق نفسه، أعلنت العراق بأنها لن تقف مكتوفة اليدين في حال لم يتمّ الإفراج عن المعتقلين. كذلك الأمر، كان موقف إمارة شرق الأردن، ومصر، والأمير عبد العزيز بن سعود، فيما طالبت سوريا بمعالجة قضية لبنان بحكمةٍ وروِيّة.
في هذا الوقت كانت الحرب الإعلامية على أشدّها بين طرفي النزاع، إذ إنّ معظم الصحف المحليّة أضربت تضامنًا مع المعتقلين، أو إنّها أجبرت من قبل الفرنسيين على الاحتجاب، ورُميت قنابلُ على مركز جريدة البشير الأمر الذي دفع بجريدة البيرق إلى الاحتجاب عن الصدور لأيامٍ. وتمكّن الثوار من إصدار جريدة من دون اسم حملت علامة الاستفهام(؟). وإذ أقبل الناس على شرائها عمدت المندوبية الفرنسية إلى خداعهم، فأصدرت جريدةً مماثلة تحمل العلامة ذاتها، وذلك لكي توصل إلى القرّاء وجهة نظرها وتحمل إلى الشعب دعايتها المعاكسة للحركة الوطنية. أمام هذا الواقع، اضطرّت جريدة الاستفهام الأصلية إلى إضافة علامة فارقة بارزة لا تستطيع المندوبيّة الفرنسية تقليدها وهي وضع علامتي استفهام(؟؟) وإلى جانبهما عبارة «ليسقط إميل إدّه».
سلّم إميل إده بالأمر الواقع في 15 تشرين الثاني، ولكن بسبب عدم سماح الفرنسيين له بالاستقالة ريثما يصل كاترو، وجّه رسائل إلى جميع الأفرقاء اللبنانيين مفادها أنّ مهمّته على رأس الحكومة تنحصر بالأمور الإدارية والمعيشية البحتة بمعزل عن الناحية السياسية المرتبطة بعودة المعتقلين إلى مراكزهم في السلطة. غير أنّ هذه المحاولة أجهضتها المندوبية الفرنسية باقترافها خطأً فادحًا بمهاجمة قوّاتها مركز حكومة بشامون مساء 15 تشرين الثاني فردّتها وحدات الحرس الوطني. عاود الفرنسيون الهجوم في 16 تشرين الثاني، ففشلوا أيضًا وسقط سعيد فخر الدين شهيدًا، عندها منع الإنكليز الطائرات الفرنسية من التحليق في أجواء لبنان.

 

مساعي كاترو لإيجاد تسوية
في 16 تشرين الثاني، وصل كاترو إلى بيروت حيث مكث في حي سرسق وليس في قصر الصنوبر، لعلمه أنّ ما من لبناني يرضى بالمجيء إليه. استهلّ كاترو اتّصالاته بالاستماع إلى رأي الذين قاموا بعملية 11 تشرين الثاني، وهاله تمزيق صور ديغول فيما بقيت صور تشرشل سليمة. عندها أدرك أنّ فرنسا بتعدّيها على استقلال لبنان، فقدت مركزها المرموق الذي كانت تحتلّه في كثير من القلوب، وصار مغضوبًا عليها، بينما ارتفعت أسهم بريطانيا لأنّها دعمته. وهكذا ظهر هلّلو في وجه مستعمر، وسبيرس في وجه محرّر. اعتبر كاترو أنّ هلّلو وحّد اللبنانيين بإجراءاته التي اعتبروها امتهانًا لكرامتهم الوطنية.
زار كاترو السراي لمقابلة إدّه فوجدها شبه خالية، فطلب هذا الأخير من كاترو الإفراج عن المعتقلين فورًا. فجاوبه بأنّ ذلك غير ممكن قبل استقصاء الحقائق من مختلف الأطراف اللبنانية، وطلب منه البقاء في منصبه ريثما يصدر قراراته النهائية بشأن تلك الأزمة. عندها عرض عليه إدّه نصّ المعاهدة التي أعدّها بين لبنان وفرنسا. بعد ذلك اجتمع كاترو في بكركي بالبطريرك أنطون عريضة الذي حمّل المسؤولية للطرفين، فأدرك كاترو أنّ عليه إيجاد تسوية، بخاصةٍ بعد لقائه في صباح 17 تشرين الثاني سبيرس الذي طالبه باستدعاء هلّلو، والإفراج عن المعتقلين، وإلّا تدخّلت بريطانيا عسكريًا. وطلب سبيرس من كاترو أن يسمح له بزيارة المعتقلين، فرفض هذا الأخير. عندها وصل جنود بريطانيون من مصر إلى شواطئ بيروت. في المقابل، كان هناك رأيٌ آخر داخل بريطانيا يطالب بطمأنة لجنة التحرّر الفرنسية كونها صديقة لها، وانتقد هؤلاء حكومة بلادهم لأنّ «تشرشل اتّبع السلوك نفسه الذي اتّبعته فرنسا عندما فاتح رئيس حكومة الهند، بريطانيا، في أمر منح بلاده نظام الدومينيوم. وقد قالت بريطانيا الشيء نفسه للهند، ورفضت القبول بأيّ تعديل في الدستور خلال الحرب. واعتقل البريطانيون الزعماء السياسيين وأطلقوا النار على المتظاهرين في الهند، كما فعلت فرنسا تمامًا في لبنان!».

 

لقاء كاترو - بشارة الخوري وارتداداته
استمرّ كاترو بمساعيه لحل الأزمة، فبعث في 17 تشرين الثاني قائد الدرك سليمان نوفل إلى الرئيس بشارة الخوري المعتقل في راشيا، ليبلغه بأنّ الجنرال سيقابله في 18 تشرين الثاني. اجتمع الرجلان في بيروت وفق بشارة الخوري الذي رفض جميع المقترحات التي عرضها كاترو عليه، مثل إخراج المعتقلين من السجن، وعودته إلى رئاسة الجمهورية وتعيين حكومة جديدة، أو إصدار رياض الصلح بيان اعتذار إلى السلطات الفرنسية والتراجع عن تعديل الدستور، على أن يعدّل مرةً أخرى بالتفاهم مع الفرنسيين. عندها وعد كاترو بالإفراج عن الرئيسين ورفاقهما في 21 تشرين الثاني، مع العلم أنّ لجنة الجزائر بقيت ممانعة لعودة الحكومة. أسفر هذا اللقاء عن السماح للمعتقلين بالتواصل في ما بينهم بعدما كان ذلك ممنوعًا عليهم.
في صباح 19 تشرين الثاني، التقى بشارة الخوري برياض الصلح وأطلعه على المقابلة التي جرت بينه وبين كاترو، الأمر الذي يبرهن على أنّ الخوري قابل الصلح قبل أن يقابل هذا الأخير كاترو، وبالتالي فإنّ هذا اللقاء سمح لهما بتنسيق مواقفهما، ومن البديهي أن يقول الصلح لكاترو ما قاله الخوري له. وفي صباح ذلك اليوم أيضًا، عقد كاترو في قصر سرسق مؤتمرًا صحافيًا حضره حوالي 20 مراسلًا عسكريًا، وأكّد خلاله أنّ القضية هي لبنانية-فرنسية ومن الضروري عقد معاهدة دفاعية بين البلدين تكون بمنزلة وثيقةٍ لاستقلال لبنان مع حفظ بعض الحقوق لفرنسا. حاول كاترو عقد المعاهدة مع حكومة بشامون لتكون بمنزلة مقايضة على إخراج المعتقلين من راشيا، فرفضت هذه الحكومة وطالبت بالإفراج عن جميع المعتقلين وعودتهم إلى مناصبهم قبل الشروع بأيّ مفاوضة. عندها حاول تشكيل حكومة برئاسة سامي الصلح، فقال له: «أنوي أن أُعيد الشيخ بشارة الخوري مثل ملكٍ بلا تاج، لكن من دون رياض الصلح، وفي نيّتي أن تؤلّف حكومة بالاتّفاق مع الرئيس الخوري من جميع الرؤساء السابقين ويعهد برئاستها إليك»، فرفض سامي الصلح.

 

الإنذار البريطاني
وصل كايزي إلى بيروت ظهر 19 تشرين الثاني، واجتمع فورًا بكاترو وسلّمه إنذارًا من حكومة لندن، طالبًا تعيين مندوب بدل هلّلو وإطلاق سراح جميع المعتقلين. وفي حال لم تتم تلبية مطلبي الحكومة البريطانية قبل الساعة العاشرة من نهار الإثنين الواقع في 22 تشرين الثاني، يُعلن الوزير المقيم في الشرق الأوسط الحكم العرفي في لبنان لاعتباراتٍ عسكرية. والحكم العرفي يعني إخضاع البلاد لسيطرة القائد العام للقوى البريطانية في الشرق الأدنى أو لسيطرة مندوبه قائد الجيش التاسع، وفي تلك الحالة تتولّى القوات البريطانية تحرير المعتقلين. وقد أكّد وزير خارجية سوريا، جميل مردم بك، بأنّ تشرشل طلب المساعدة من الأميركيين على إخراج فرنسا من الشرق، فضغطا سويًّا على فرنسا الحرّة لمنح استقلال لبنان، وإلّا فلن يعترفا باللجنة الوطنية الفرنسية للتحرير. هنا ضُربت فرنسا الحرّة على الوتر الحساس، لأنّه في حال لم يتمّ الاعتراف بها من قبل أكبر قوّتين، فستواجه صعوبة بتحرير أرضها، والمهم بالنسبة إليها بالدرجة الأولى كان تحرير فرنسا من الألمان وليس البقاء في لبنان. فور معرفة ديغول بالإنذار البريطاني، أمر كاترو بإطلاق سراح بشارة الخوري ووزرائه بحسب الاتّفاق معه، على أن يجمع في أحد المرافئ الموظفين والقوات الفرنسية ويعود بهم إلى أفريقيا في حال نفّذت بريطانيا تهديدها بالاستيلاء على السلطة في لبنان.

 

لقاء كاترو - الصلح وخلاف كاترو - ديغول
في مساء 19 تشرين الثاني اجتمع كاترو برياض الصلح، وقد سمع منه الأجوبة نفسها التي سمعها من بشارة الخوري، لكنه حصل منه على ضمانات بعدم الانتقام من إميل إدّه. وفي 20 تشرين الثاني اقترح كاترو على اللجنة الفرنسية الإفراج عن المعتقلين، وأعلم بشارة الخوري بنيّته الإفراج عنهم في 21 تشرين الثاني بانتظار جواب اللجنة الفرنسية في الجزائر التي قرّرت إعادة رئيس الجمهورية وحده إلى منصبه، الأمر الذي أدى إلى استياء الشعب اللبناني الذي حاصر السراي ودار البلدية ومراكز الشرطة، ودخلها وطرد الفرنسيين، ورفع عليها العلم اللبناني الجديد.
عاودت لجنة الجزائر دراسة الأزمة اللبنانية، وأبرقت تعليماتها إلى كاترو بتاريخ 21 تشرين الثاني 1943 وطالبته بأن يكون الحل فرنسيًا-لبنانيًا من دون أيّ تدخّل بريطاني، معتبرةً أنّ الانتداب يظل قائمًا حتى توقيع معاهدة لبنانية-فرنسية. يبدو أنّ اللجنة الفرنسية لم تفهم تهديد الإنكليز واحتجاج اللبنانيين ونصائح كاترو وكأنّها بذلك تعيد الأمور إلى نقطة الصفر. رفضت بريطانيا هذه القرارات، لكن السؤال المستغرب كان: لماذا ترفض لندن استمرار الانتداب الفرنسي على لبنان، فيما تريد استمرار انتدابها على فلسطين؟ تفاجأ كاترو بقرار ديغول، فأخذ على عاتقه معالجة الأمور واعتذر من اللجنة على عدم تلبية تعليماتها، بخاصةٍ بعدما بدأ الإنكليز باستقدام تعزيزات عسكرية من مصر لإعلان الحكم العرفي في لبنان وإطلاق سراح المعتقلين. وبعد أن دعا نوري السعيد إلى تدخّل عسكري مشترك للدول العربية دعمًا للبنانيين، سارع كاترو إلى الإعلان عبر راديو الشرق بأنّ بشارة الخوري ورياض الصلح سيتمّ إعادتهما إلى منصبَيْهما، وأنّ الحياة الدستورية ستُعاد كما كانت قبل 11 تشرين الثاني.
أمام هذا الواقع، قرّرت اللجنة الفرنسية العمل باقتراح كاترو، وإجراء مفاوضات من أجل إبرام فرنسا معاهدة مع العهد الاستقلالي اللبناني، كما رغبت بتوجّه هلّلو إلى الجزائر. لكن هذا القرار كان ملتبسًا في بعض بنوده، لأنّه أكّد على الإفراج عن الرئيس بشارة الخوري وعودته إلى منصبه في حين لم يتمّ ذكر عودة أعضاء الحكومة إلى مناصبهم، ما يبرهن أنّ ديغول يريد حكومةً جديدةً عكس كاترو. كما أنّ ديغول ذكر إطلاق سراح المعتقلين الذين كانوا في الحكم قبل 8 تشرين الثاني، الأمر الذي يدلّ على أنّ لجنة التحرير الفرنسية لا تعترف بالتعديل الدستوري الذي حصل، عكس كاترو الذي اقترح إعادة جميع المعتقلين إلى مناصبهم قبل 11 تشرين الثاني.

 

22 تشرين الثاني 1943
ها هو صباح 22 تشرين الثاني قد حلّ، الموعد الذي حدّده البريطانيون، ولم يبقَ أمام كاترو سوى ساعاتٍ لاتّخاذ الإجراءات المناسبة التي تحفظ ماء وجه الفرنسيين بغضّ النظر عن مصير إميل إدّه. في ذلك الصباح، بعث كاترو برقيةً إلى لجنة التحرير، أبدى فيها اقتناعه بعدم تخييب آمال اللبنانيين لكي لا تنجرّ فرنسا إلى مغامرات خطيرة، وقرّر عدم تنفيذ تعليمات ديغول التي وضعها لمجابهة الادّعاءات البريطانية، من دون إقامة أيّ اعتبار للعوامل النفسانية والبشرية، لكنه لم يلغِ المادة الأولى من قرار هلّلو رقم 464 التي نصّت على اعتبار التعديل الدستوري الذي أزال مرتكزات الانتداب في الدستور باطلًا وعديم المفعول. ما يعني أنّ فرنسا الحرّة ما زالت تعتبر الانتداب قائمًا إلى حين توقيع معاهدة مع لبنان تمنحها مركزًا ممتازًا. على هذا الأساس، أفرجت فرنسا عن المعتقلين قبل ظهر 22 تشرين الثاني 1943، وعيّنت Yves Chataigneau مندوبًا عامًا بالوكالة بدل هلّلو الذي عاد إلى الجزائر. وبعد ظهر 22 تشرين الثاني، أصدر شاتينيو القرار رقم 483 الذي ألغى قراري هلّلو (464 باستثناء المادة الأولى منه، و465). وهكذا بدا كاترو مسهمًا في صناعة الاستقلال اللبناني وله الفضل على حدّ قول بشارة الخوري. وبالتالي حلّت ذكرى الاستقلال في 22 تشرين الثاني محلّ ذكرى العيد الوطني في الأول من أيلول، أي إنّ اللبنانيين باتوا يحتفلون بذكرى الإفراج عن المعتقلين في راشيا بدل الاحتفال بذكرى تأسيس دولة لبنان الكبير. وبعدها تمّ رفع العلم اللبناني الجديد على مبنى السراي ومركزي الشرطة والبلدية، من دون تغيير النشيد الوطني اللبناني الذي وُضع سنة 1927. وقد تمّ الحصول على الاستقلال بفضل إرادة اللبنانيين ودم الجرحى والشهداء الذين سقطوا وبفضل الظروف المؤاتية إقليميًا ودوليًّا.

 

عودة الحياة الدستورية
بقيت مسألتان عالقتان في 22 تشرين الثاني هما الحكومة والتعديل الدستوري، وقد أبلغ كاترو ذلك لبشارة الخوري وطلب منه مهلة 24 ساعة لكي يعالجهما مع ديغول. عندها طالبت بريطانيا بانعقاد جلسة فوريّة للحكومة، مهدّدةً الفرنسيين مجدّدًا بجيشها. حاول ديغول التقرّب من الإيطاليين الذين اهتمّوا بالمسألة اللبنانية، غير أنّه سرعان ما أدرك عدم جدوى تحفّظه على عودة الحكومة اللبنانية والتعديلات الدستورية، لأنّ الهدف الأسمى للفرنسيين أصبح إعادة فرنسا إلى مكانتها الدولية وتحريرها من الألمان. لذلك أبلغ كاترو في 24 تشرين الثاني بموافقته على عودة الحكومة والتعديلات الدستورية، بخاصةٍ بعدما أعلن ملك بريطانيا عن بدء تحرير فرنسا. وفي اليوم نفسه، خطب كاترو من راديو الشرق، مبديًا ثقته بأنّ لبنان سيحترم تراث فرنسا الأدبي ومركزها فيه. ثم زار الرئيسان الخوري والصلح الجنرال كاترو، كما زارا البطريرك الماروني ومفتي الجمهورية والمطران مبارك. بالإضافة إلى ذلك، كرّم رئيس الجمهورية في منزله الجنرال كاترو بتاريخ 26 تشرين الثاني، فأَوْلَم له في حضور رياض الصلح وحكومته، وفي حضور شاتينيو.
بعد عودة الحياة الدستورية، عقد المجلس النيابي جلسته الأولى في 1 كانون الأول 1943، وتمّ تعديل المادة الخامسة من الدستور المتعلّقة بالعلم اللبناني، ليبدأ عهد الاستقلال وتبدأ معه مرحلة أفول الانتداب وبداية صفحة جديدة من تاريخ لبنان.

 

من المصادر والمراجع
- أرشيف بكركي، محفوظات البطريرك أنطون عريضة، ملف رقم 14، 18، 69، 122.
- محاضر مجلس النواب اللبناني لسنة 1943.
- Ministère des affaires étrangères (M.A.E.), Guerre (1939-1945), Alger CFLN, V. 1009 (1943); et Archives diplomatiques, Nantes, fonds Beyrouth-Ambassade, carton n0 1543 (1943);  dossier no 804;
- Services Historiques des Armées de Terre (S.H.A.T.), Vincennes-Paris, (1943- les rapports du service secret).
- أبي يونس، ألكسندر: إميل إدّه (1883-1949) قدّة الجمهورية اللبنانية، بيروت، 2019.
- الخوري، بشارة: حقائق لبنانية، ج 2 و3، الدار اللبنانية للنشر الجامعي، ط. 2، انطلياس، 1983.
- تقي الدين، منير: ولادة استقلال، دار النهار، ط. 2، بيروت، 1997.
- تويني، غسان؛ وسلام، نواف: كتاب الاستقلال بالصور والوثائق، ط.3، دار النهار، بيروت، 2001.
- ديغول، شارل: مذكرات الحرب، ج 2: الوحدة (1942-1944)، تعريب عبد اللطيف شرارة، منشورات البحر المتوسط وعويدات، ط. 2، بيروت وباريس، 1982.
- سالم، يوسف: 50 سنة مع الناس، بيروت، 1975.
- سبيرس، اللايدي: قصة الاستقلال في سوريا ولبنان، تعريب منير البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، 1947.
- عوض، وليد: أصحاب الفخامة رؤساء لبنان، بيروت، 1977.
- مزهر، يوسف: تاريخ لبنان العام، د.ن.
- CATROUX (Général): Dans la bataille de Méditerranée; Egypte – Levant – Afrique du nord 1940-1944, Témoignages et commentaires, Julliard, Paris, 1949.
- CHURCHILL, Winston: The second world war, volume 5; Closing the Ring, Cassel and Company, London, second edition, 1964.
- SPEARS, Edward: Fulfillment of a mission; Syria and Lebanon 1941-1944, Leo-Cooper, London, 1977.
- الصحف العائدة لشهر تشرين الثاني 1943 (البشير- البيرق- النهار)