- En
- Fr
- عربي
اقتصاد ومال
أعقبت “باريس 2” تدابير مالية عدة من ضمنها خفض الفوائد بهدف خفض العجز في الموازنة. وفي هذا الإطار تمّ تدوير سندات الخزينة التي استحقت فرست الفائدة بالليرة اللبنانية على 3.7 في المئة مسجلة إنخفاضاً مقداره نحو 7 درجات, كما تم الإتفاق مع جمعية المصارف على خفض الفائدة في ما يتعلق بمحفظة القطاع المصرفي, إضافة الى الإتفاقيات مع مصرف لبنان القاضية بتخفيض حجم دين المصرف المركزي للدولة وإعادة هيكلة ديونه الباقية بفوائد متدنية.
إزاء هذا الواقع أسئلة عديدة تطرح نفسها اليوم, أهمها, هل ستساهم هذه الخطوات الحكومية في التخفيض من عجز الموازنة وبالتالي من الحد من تطور الدين العام؟ ما هي النسبة التي سوف تستقر عليها الفوائد على العملات لبنانية كانت أم أجنبية؟ وماذا سيكون تأثيرها على الإقتصاد؟ وماذا سيحل بمساهمات “باريس 2” المالية؟
مجلة “الجيش” حملت هذه الأسئلة الى كل من الخبير في المالية العامة الدكتور غسان العياش, وأمين عام غرفة التجارة الدولية الدكتور لويس حبيقة.
د. العياش: نسبة الفوائد تحددها إعتبارات مختلفة
الدكتور غسان العياش (خبير المالية العامة) قال: إن الرسالة الأساسية التي انبثقت عن لقاء “باريس 2”, هي في جوهرها إيجابية, وقد أثارت إرتياحاً لدى اللبنانيين في السوق النقدية على وجه الخصوص.
وبنظري فإن جوهر الرسالة سياسي إقتصادي لأنه يتضمن موقفاً واضحاً يعبّر عن الإهتمام الدولي بلبنان وموقعه ووجوده وإستقراره. أما إذا نظرنا الى موضوع “باريس 2” في مقاربة عملية تستند فقط الى تحليل الأرقام, نجد إن الهدف الإقتصادي الذي تتوخاه الحكومة, هو الحد من تطور الدين العام وتخفيض عجز الموازنة وحصة الدين العام من النفقات العامة.
ومن دون أدنى شك, إن الهدف الأهم هو تحقيق نمو إقتصادي مستدام وتخفيف حدة المشاكل الإجتماعية. ونأمل أن تستفيد الدولة من الفرصة التي قدمها لقاء “باريس 2” وأن تحقق الآلية العامة إنفراجاً أكبر في النظامين الإقتصادي والإجتماعي.
وأضاف: بكل تأكيد إن هذا التخفيض في معدلات الفائدة على أدوات الدين الحكومية سيساهم في خفض عجز الموازنة في لبنان. وإذا اطلعنا على المخطط أو السيناريو الذي قدمته الحكومة الى “باريس 2”, يتبيّن لنا أن خفض الفائدة على سندات الخزينة بمختلف العملات, هو الوسيلة الأساسية التي ستعتمدها الحكومة اللبنانية لتحقيق هذا الإنقلاب الجذري في أوضاع المالية العامة.
ومن جراء خفض الفوائد والتقشف في الإنفاق تأمل الحكومة هبوط خدمة الدين العام البالغة حالياً أكثر من 18 في المئة من الناتج المحلي القائم, الى حدود6.5 في المئة سنة 2007. وهذا سيؤدي الى توازن النفقات والواردات سنة 2005 وتكوين فائض في الموازنة بعد هذا التاريخ. من هنا نفهم الإجراءات السريعة التي اتخذت في أعقاب “بارس 2” لخفض الفوائد والتي تمثلت بصورة خاصة بما يلي:
1- إصدار سندات خزينة بفوائد منخفضة تقل بـ7 نقاط عن فوائد السندات المصدرة قبل “باريس 2”.
2- الإتفاق مع جمعية المصارف على خفض الفائدة على محفظة القطاع المصرفي.
3- الإتفاق مع مصرف لبنان على تخفيض حجم دين المصرف المركزي للدولة, وإعادة هيكلة ديونه الباقية بفوائد متدنية.
ورداً على سؤال حول الوسيلة التي تمكّن من خلالها مصرف لبنان تخفيض حجم دين المصرف للدولة وما إذا كانت الخزينة قد سددت ديوناً للمصرف عليها, قال الدكتور العياش, “انه من أجل خفض ديون المصرف المركزي, جرى إعتماد طريقة محاسبية, أنا شخصياً لست مقتنعاً بها بتاتاً, وكنت أتمنى ألاّ تحصل مع أن القانون يفرض إجراءها, وهي تقضي بتحويل أرباح دفترية ناجمة عن الفرق بين سعر الشراء وسعر تقويم الذهب والعملات الأجنبية, علماً إن هذه الأرباح غير حقيقية”.
وعن النسبة التي سوف تستقر عليها الفوائد على الليرة وعلى العملات الأجنبية, إعتبر د. العياش إنه لا يمكن التكهن بالحد الأدنى الذي ستقف عنده الفوائد سواء بالنسبة لليرة اللبنانية أو للعملات الأجنبية, إلا ان لمصرف لبنان ووزارة المالية إعتبارات مختلفة حول تحديد الفوائد أهمها:
- مصلحة الإقتصاد من تدني الفوائد.
- إنعكاس ذلك على تشجيع المودعين والقطاع المصرفي على إقراض الدولة.
- ضرورة المحافظة على فرق ملموس بين الفوائد على الليرة وعلى العملات الأجنبية, للحد من عمليات تحويل أموال من الليرة الى الدولار.
- كلفة الفوائد على الخزينة.
وأضـاف: كل هذه الإعتبارات فـي آن, تقـرر سعــر الفائـدة فـي نهايـة المطاف, وليـس هناك من نهاية مطـاف, لأن السياســات تتغيّـر دائمـاً مـع تغـيـير الظـروف.
واعتبر أخيراً إن “القرارات تأتي متأخرة في لبنان, فيزول جزء كبير من مفعولها بفعل التأخير, ولا أغالي إذا قلت إن التدابير التي تتخذ هذه الأيام, لو كانت اتخذت قبل ثماني سنوات مثلاً, لأدت الى إلغاء الدين العام كلياً وإبقاء فائض بحوزة الدولة كان بالإمكان إنفاقه في مشاريع إستثمارية.
د. حبيقة: تخفيض الفوائد قد يسهم في ترحيل بعض الأموال
أمين عام غرفة التجارة الدولية الدكتور لويس حبيقة أكد بدوره أن لبنان حصل عبر مؤتمر “باريس 2” على مساهمات ميسّرة جديدة تقدر بـ4.4 مليارات دولار, معظمها يذهب الى المالية العامة لتخفيض كلفة الدين, والباقي يحوّل مشاريع إقتصادية إجتماعية حيوية.
وأضاف: من غير المتوقع أن يشكل الوفر المالي من جراء إستبدال الدين القديم بالجديد أكثر من 10 في المئة من مجموع خدمة الدين العام. أما المشاريع الجديدة فأهميتها تكمن في تأثيرها على الواقع اللبناني وفي إمكانية جعلها بديلاً عن جزء من الإنفاق العام. ومن الأفضل عدم التلاعب بالتوازن الموجود حالياً بين الدين المحرر بالليرة اللبنانية والآخر بالعملات الأجنبية, لأن الحفاظ على هذا التوازن يصبّ في مصلحة لبنان على المدى المتوسط والطويل, إذ تمر المنطقة في ظروف أمنية وسياسية خطيرة, ولا يمكن للوفر المالي الحالي مهما كبر أن يتقدم على الإستقرار الإقتصادي والإجتماعي.
واعتبر حبيقة إن إنخفاض الفوائد لن يدوم إذا لم تبدأ الدولة بتنفيذ برامجها, ولن يكون هناك “باريس 3” إذا لم نحسن استثمار ما حققه “باريس 2”, وإذا لم نقم بالإصلاحات المطلوبة, حتى لو حصل “باريس 3” فلن نستطيع النجاح فيه كما نجحنا اليوم. من هنا طلبُ المؤتمرين عقد إجتماعات دورية أولها بعد 6 أشهر, للتأكد من حسن تنفيذ ما وعدت به الحكومة اللبنانية خلال “باريس 2”. ويقوم
صندوق النقد بهذا الدور المتخصص مشكلاً صلة وصل بين الدول المساهمة والحكومة اللبنانية. ومن الممكن أن تقتنع عندها الدول التي لم تساهم بعد, كألمانيا وإسبانيا واليابان وحتى أميركا بجدوى المساهمة الفاعلة. فنحن بحاجة الى إعادة بناء ثقة المجتمع الدولي بسياساتنا ودولتنا, وذلك عبر تنفيذ عدد من الإجراءات وأهمها حسب رأيي:
1- ترشيد الإنفاق العام.
2- اعتماد الخصخصة.
3- تحصيل كل الضرائب والرسوم, لأن الدولة غير القادرة على ذلك أو المتقاعسة في هذا المجال غير جديرة بالمساعدات والمساهمة الميسّرة.
وعن خفض الفوائد وإنعكاساته, قال د. حبيقة: من المعروف أن المصارف اللبنانية إستفادت سابقاً من سندات الخزينة ذات الفوائد المرتفعة, بسبب السياسة النقدية التي إعتمدتها الدولة, ولا يمكن أن يشكل هذا الأمر سبباً لتكتتب اليوم بسندات خاسرة أي ذات فائدة حقيقية سلبية. ومودعو المصارف لم يستفيدوا في الماضي أكثر من مساهميها, لذا ليس هناك أي مبرر لحمل المودعين اليوم على التضحية والقلق. كما ان المصارف لا تقرض أموال أصحابها بل أموال الناس, من هنا أهمية التنبه الى شروط الإقراض.
وأضاف: إن الرقابة المصرفية التي نفتخر بها في لبنان وجدت أصلاً للتنبه الى سلامة الإقراض والمصارف, وبالتالي أموال المودعين. إن إكتتاب المصارف بعشر ودائعها في سندات من دون فوائد ولسنتين, يعني توظيف أموال المواطنين الأبرياء في أدوات مالية خاسرة. من المنطقي أن تخطو المصارف خطوة إيجابية نحو الدولة وأن تردّ لها الجميل, ولكن ليس على حساب المواطن أي على حساب سلامة المؤسسات وأموال المودعين.
وبرأيي لا مانع من إصدار سندات خزينة تغطي فقط التضخم والكلفة التشغيلية للمصارف, ولكن من غير المنطقي القبول بتوظيفات مصرفية خاسرة سلفاً. كما أنه من الخطورة بمكان أن تشرك الدولة المصارف أكثر في آلامها وتجعلها شريكة كاملة في هذه الظروف الإنتقالية الصعبة. فمن واجب الدولة إبقاء المصارف مستقلة قوية وسليمة, إذ أنها شكلت وتشكل العمود الفقري للإقتصاد اللبناني.
إن المصارف ليست جمعيات خيرية وهي تأمل بما تفعله اليوم إنقاذ الإقتصاد العام, وبالتالي الإستفادة لاحقاً منه, أي أنها توظّف للمستقبل. إلا ان التوظيف في السندات الجديدة لا يمكن أن يعطي مفعوله إذا لم تخفض الفوائد على المودعين والمقترضين في الوقت نفسه. وهذا التوظيف سينعكس حكماً إنخفاضاً في أرباح المصارف التي تأمل بنقل جزء منه الى المودعين عبر تخفيض الفوائد على ودائعـهم. وهـذا لن يحل المشكلة الإقتصادية العامة, فأحد الأسباب الرئيسية للركود الحالي هو إرتفـاع الفوائـد على الإقراض, أي الكلـفة العاليـة للتمويل. فإذا خفّـضت المصارف فوائـد إقراضها لمساعدة الإقتصاد العام, تعود مشكلة الربحية الى طرح نفسها من جديد.
إن الخطر الاساسي في ما تفعله المصارف اليوم هو أن تتسبب في ضعف الثقة بها, وبالتالي تحويل أموال كبيرة الى الخارج فالمودعون يأتون الى مصارفنا للإستفادة من فوائد أعلى, وأي تخفيض لهذه الفوائد اليوم, يمكن أن يرحّل بعض هذه الأموال. فلماذا تعقيد الأمور في هذه الظروف الصعبة التي تمرّ بها كل المنطقة والمخاطرة في إمكانية إضعاف الثقة التي هي أساس كل نظام مصرفي؟ وماذا يؤكد على مقدرة كل مصرف على الإكتتاب في هذه السندات؟ فهل المصارف الصغيرة راغبة وقادرة على هذه التوظيفات؟
والمعروف أيضاً إن للمصارف قروضاً غير قابلة للتحصيل وأخرى صعبة الإسترداد, والإعلانات القضائية دليل واضح على هذه الحقيقة. فمصارفنا اليوم ليست بحاجة الى إضافة توظيفات خاسرة إليها. أما إقراض مصرف لبنان للدولة فهو أقل خطورة, إذ تبقى الأموال, ضمن القطاع العام شرط حسن الإستعمال من قبل الدولة والبدء بتنفيذ الحلول الصحيحة والصعبة التي وحدها تكفل بناء إقتصاد سليم.