- En
- Fr
- عربي
رحلة في الإنسان
فلنحافظ على «الصديق ليوم الضيق» وباقي الأيام
حظيت الصداقة منذ القِدَم باهتمام الفلاسفة والمثقفين. فهي برأي الجميع ضرورة ملحّة لما توفره من بهجة وشعور بالراحة والاطمئنان. مع ذلك، بقيت بمنأى عن التحليل العلمي، إلى أن خصّتها الدراسات الحديثة بالتفاتة خاصة، ودعمت معطياتها بحجج علميّة مدروسة.
ما هي الصداقة بنظر العلم، وما هو الدور الذي تؤديه في حياتنا؟
نظرة أوليّة
الأجوبة المطروحة عن هذا السؤال تبدو بديهيّة للوهلة الأولى وفي غاية البساطة. فهي تؤكد كّون الصداقة طاقة مستمدّة من دوافع إجتماعيّة وبيولوجيّة حتّمها التعايش الحضاري. والدليل أنها موجودة على نطاق واسع يشمل المجموعات البشريّة على اختلاف ثقافاتها.
ولكن، إذا ما نظرنا بعمق إلى هذه الميزة العلائقية، نرى أنها موجودة في حياة مخلوقات أخرى. ما يعني أنها تتخطى البشر إلى الحيوانات، وخير دليل على ذلك المشاهد الحيّة التي رصدتها الدراسات بين مجموعات من الحيوانات وفي مقّدمها القردة. وهي مشاهد تظهر بوضوح الراحة التي يضفيها التآلف بين حيوانات لا تجمعها أواصر الجنس ولا العائلة، وفق العالم النفساني الأميركي لوري برندت، الذي أكد وجود صداقات حميمة خارج المجتمع البشري. وهذا برأيه دليل على وجود قاعدة جينية ترتكز عليها النزعة البشريّة والحيوانيّة، لتؤمن وجود هذه العلاقة الضروريّة للحياة.
فالصداقة علاقة فريدة تصهر في بوتقتها أفرادًا غرباء تجمعهم الإلفة، وتلفّهم السعادة والراحة النفسيّة. وعلى هذا الأساس يؤكد برندت أن الحرمان من الصداقة يؤذي الصحّة النفسيّة والجسديّة، ويدعم قوله ببراهين تثبت أن الاجتماعيين والمحاطين بالأصدقاء، يستمتعون بحياة أطول وأكثر عطاء.
ما سبق يعني أنّ للصداقة جذورًا وراثية تطوّرية، وهذا يجعلها بنظر الباحث النفساني الأميركي روبيرت سيثارث، نزعة فطريّة تحتّمها الحاجة إلى الحياة الاجتماعية، فهي إذن ليست مجرّد تسلية أو ترف اجتماعي، بل حاجة طبيعيّة قسريّة.
كيف تصنّف العلاقات؟
لم يتطرّق الباحثون إلى دراسة التآلف خارج نطاق العائلات إلاَّ منذ فترة وجيزة. لقد كان من الصعب وضع حجج وبراهين تثبت وجود أسس جينيّة تطوّرية لعلاقات الصداقة. وعندما بدأت الدراسة حول العلاقات الفرديّة بالمعنى العلمي، تمحورت بداية حول العلاقات العائلية. ولكن عندما بدأ الأمر يتّجه إلى تحليل التآلف بين غرباء لا ينتمون إلى محيط عائلي واحد، ولا تجمعهم علاقات جنسيّة، أصبح الأمر مختلفًا، ومن هنا صعوبة تصنيف الصداقة. هل هي شعور بالراحة مع شخص نمضي معه أوقات الفراغ، أم حالة تجمع التفاعل والتعاون والإلفة، وتبعد شبح الوحدة والشعور بالنقص؟
إنها في الواقع تفاعل بين شخصين أو أكثر، يتمّ من خلالها تأكيد الذات من مبدأ المشاركة والتصدّي، ورؤية الحياة من منظور التوازن والاستقرار العلائقي. والأهم أن الصداقة هي حالة ثابتة وطويلة الأمد. ما يعني أن الصديق شخص نبقي على علاقتنا به مدى العمر في معظم الأحيان، وهذا لا يمنع من بناء علاقات وطيدة مع أصدقاء جدد.
الصداقة في عالم الحيوان
في المقابل فإنّ الأبحاث التي أجريت على الحيوانات كان لها الأثر الأهم في المبدأ الذي ترتكز عليه العلاقات الاجتماعية ذات الأصول التطورية. وعلى الرغم من صعوبة تفسير النظريّات التطَّوريّة في عالمي الإنسان والحيوان، إلاَّ أن عدّة تجارب كانت قد صُمّمت من أجل اختبار هذه النظّريات، ليس فقط على مجموعات معيّنة، بل أيضًا على أجيال متحدرة من سلالاتها. ومع أن حياة الحيوان هي أقصر من حياة الإنسان بشكل عام، الاَّ أن المقارنة بينهما تصبح أكثر سهولة في حال قياس الفوارق من خلال الأجيال المتلاحقة، ما يسهّل تحليل المعطيات بالاستناد إلى توافر مقوّماتها. وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن أصداء النتائج التي يتردد صداها من جيل إلى جيل، تثبت أن علاقات الصداقة تعود إلى أصول بيولوجيّة أكثر منها حضاريّة.
لنأخذ على سبيل المثال، الخيول والفيلة والقرود بجميع أنواعها، إضافة إلى الحيتان والدلافين، إذ إن مراقبة هذه الحيوانات عن كثب وتدوين انفعالاتها، يظهر بوضوح مدى حاجتها إلى التواصل وإقامة علاقات وديّة ثابتة. إلى ذلك، ثبت أن مشاعر الإلفة التي تربط هذه الحيوانات ضمن دائرة أجناسها، تؤثر مباشرة على نجاح عمليّة التناسل الضروريّة لبقائها.
..وماذا عن البشر؟
أما بالنسبة إلى البشر، فإن نظريّة التطّور البيولوجي الإجتماعي، أثارت نقاشًا بين الباحثين وأدت إلى نشوء عدّة نظريات. وكانت نظريّة الدماغ الاجتماعي التي وضعها الباحث الأميركي روبين بونبار، المحور الأساس الذي تمركزت حوله الأفكار التطوّّرية الحديثة.
ووفق هذا الباحث، فإن حاجة الإنسان البدائي إلى مجموعات تمنحه الحماية، أدت إلى تطوّر حجم دماغه ليحاكي حاجته إلى مواجهة تعقيدات الحياة الاجتماعية، والتي تتطلب الكثير من الانتباه والتواصل والتعاون.
وقد أكدت ملاحظة حياة القردة هذه النظرية، فالقردة كما هو معروف، تملك أدمغة كبيرة الحجم بالنسبة إلى أجسامها، وربما يعود ذلك إلى مقدرتها على إقامة تواصل إجتماعي أكثر من سواها من الحيوانات. وفي جميع الأحوال، لا بد من الإشارة هنا إلى أن الجذور البيولوجيّة المنتجة للتواصل الحميم أو الصداقات الثابتة والطويلة الأمد، تلبي أكثر من حاجة بشريّة أو حيوانية، فعدا عن كونها أحد أهم الأسس التطوّرية، تعبّر القاعدة التي تستند إليها المشاعر وفي مقدّمها الخوف. هذا الخوف الذي يستدعي التمَّسك برصيد علائقي يبعد المخاطر غير المتوقّعة.
الصداقة من المقلب المعاكس
أما الطريقة الثانية للتفتيش عن تأثير الصداقة في التطوّر البشري والحيواني، فهي رؤيتها من المقلب المعاكس، أو التفتيش عن سلبيات عدَم وجودها. وكان الباحث الأميركي جون كاسيوبو من جامعة شيكاغو، أول من تناول هذه الناحية بدقّة علميّة بالغة مؤكدًا الضرر الذي يلحقه نقص العلاقات بالصّحة الجسَّديّة والنفسيّة.
فالإنسان كما سبق وأشرنا يحتاج إلى دعم اجتماعي يبعد عنه القلق والخوف، وما ينجم عنهما من تأثيرات سلبيّة، وعلى هذا الأساس عمل كاسيوبو على سبر أعماق الدماغ.
فالدماغ عضو مهمته صياغة الأوضاع العلائقية وتقييمها ومراقبتها وتصحيحها، بالإضافة إلى تنظيم ردّات الفعل الفيزيولوجية المؤثرة بالصّحة وطول العمر. وانطلاقًا من هذه الرؤية، وجد أن الشعور بالوحدة يشعرنا بالخطر وعدم الاطمئنان، مما يؤدي إلى التعاسة ويهدد البقاء. وقد تأكد ذلك من خلال فحوصات استخدم فيها الرنين المغناطيسي لقياس ردات فعل بعض المتطوّعين في أوضاع مختلفة، وتبين بنتيجتها أن الخائفين من الوحدة والمحتاجين إلى الدعم، يعانون أنشطة دماغيّة تؤثر سلبًا في حياتهم وبقائهم، على عكس المحاطين بدعم محيطهم الاجتماعي، وخصوصًا الأصدقاء المقرّبين.
الصداقة إذًا ليست مجرّد علاقة نتغنّى بها، فهي أعمق بكثير من تقييمنا لخصائصها. والشعور الضمني بالحماية الذي تؤمّنه الصداقة في اللّاوعي، لا يؤمن الشعور بالفرح فحسب، بل يضمن بقاء الأجناس عبر الأجيال.