دور التواصل الاستراتيجي في حماية الأمن القومي

دور التواصل الاستراتيجي في حماية الأمن القومي
إعداد: الرائد حسين حماده

المقدمة

تعتبر العلاقات بين الجماعات البشريّة ظاهرةً قديمةً، فالأخيرة اضطُـرَّت بهدف الحفاظ على بقائِها، إلى التواصلِ والتعاملِ مع بعضها البعض. وبناءً عليه، تطوّرت العلاقات تدريجيًّا إلى أن وُقِّعت مُعاهدة وستفاليا في العام 1648 ومهّدت لتأسيسِ المفهوم الحديث للدولة - الأمّة Etat-Nation (الدولة القوميّة أو الدولة الوطنيّة)، وذلك بعد الاعتراف بالحكم الذاتيّ، أو الحدود السياسيّة والسيادة لولاياتٍ ودولٍ في أوروبا في زمن الإمبراطوريّة الرومانيّة بعد عقودٍ من الحروب الطائفيّة. وتُشكّلُ هذه المعاهدة نقطةَ بدايةِ تكوين نظامٍ عالميٍّ يقوم على الدول ذاتِ الحدود الجغرافيّة السياسيّة وذات السيادة والسلطة المُطلقة على أراضيها، وبالتالي لا بدّ لها من تعزيز قدراتها وقوّتها لحماية كيانها. ولمّا كانت القوّة أساسًا في صياغة استراتيجيّات الدول ومُحرّكًا لأنماط العلاقات الخارجيّة، فإنّ الأقوى كان وما زال يستغلُّ القوّة لتحقيق أهدافه ومصالحه. كما أنّه وفق منهج المصالح القوميّة في العلاقات الدوليّة، السعي نحو تحقيق المصلحة القوميّة للدولة هو الهدف النهائيّ والمُستمرّ للسياسة الخارجيّة، لاسيما أنّ هذه المصلحة تُشكّلُ عاملَ الارتكاز في تخطيط السياسة الخارجيّة لأيّ دولةٍ في العالم، كبيرةً كانت أو صغيرة1.

إنّ مصدرَ مصطلح «القوميّة» لغويًّا هو كلمةُ «قوم»، وتعني الجماعةُ التي يتشارَكُ أفرادُها روابطَ كالهويّة، اللغة، التاريخ، العقيدة، و/أو المصالح. والقوميّة أيديولوجيًّا تعني الوعي القوميّ لدى أبناء الأمّة (أيّ الانتماء إلى القوم)، وولاءهم وإخلاصهم لها، ووضعها فوق كلّ اعتبار، والعمل لتعزيز وحماية مصالحها2. أمّا تناولُنا مفهوم الأمن القوميّ فلا يعني مقاربة الموضوع من هذا المنظار، بل بهدفِ مقاربة مسألة الأمن بمعناه الشامل وفقَ ما يُمكن تسميته أيضًا «الأمن الوطنيّ»، بكلّ ما يرتبط به ويتفرّع عنه، وكلّ ما من شأنه أن يضربَ استقرار الدولة والمُجتمع والمواطنين المُقيمين والمُغتربين، وعلى أيّ صعيدٍ كان. مع الإشارة إلى أنّ الترجمة الإنجليزيّة لمصطلحيْ «الأمن القوميّ» و«الأمن الوطنيّ» هي National Security، ويُرجَّحُ أنّ اللغطَ قد نشأ عند ترجمة بعض المصادر الأجنبيّة إلى العربيّة.

أمّا تناول أهميّة التواصل السياسيّ والاستراتيجيّ فيهدفُ إلى الإضاءةِ على دور هذا المفهوم القديم الجديد في وضعِ إطارٍ لممارسة السياسة داخليًّا وخارجيًّا، ومدّ الجسور المُناسبة لتحقيق أهدافها الاستراتيجيّة وحماية الأمن القوميّ. فالرئيس الأميركيّ أبراهام لينكولن Abraham Lincoln، أدرك أنّ «التغيير السياسيّ الكبير يتطلّبُ ألفَ عملٍ سياسيٍّ صغير»، لذلك أبرمَ الصفقات وقدّم الخدمات السياسيّة، واستخدمَ مهاراتٍ استراتيجيّةٍ ذكيّةٍ لإقناعِ أعضاء الكونغرس بالموافقةِ على التعديل الثالث عشر للدستور الذي ألغى «العبوديّة». وعندما أعلن أحد النوّاب دعمه للتعديل، كافأه على الفور وعيّنه سفيرًا في الدنمارك، لتحفيز الآخرين على دعم مشروعه. وإنّ دلّ هذا الأمر على شيءٍ فهو أنّ السياسةَ علمُ تقريرِ من يحصل على ماذا، ومتى، ولماذا. وبصورةٍ أكثر شمولًا، السياسة «عمليةٌ يتوصّلُ من خلالها مجموعةٌ من الناس، تختلف آراؤهم أو مصالحهم في البداية، إلى قراراتٍ جماعيّةٍ تُعتبرُ عادةً مُلزمةً للمجموعة، وتُنفَّذُ كسياسةٍ عامة». وقبل ثورة التكنولوجيا والإعلام والاتّصالات، كان السياسيّون يُسيطرون على الرأي العام ويُسوّقون لأنفسهم بواسطة تقديم الخدمات وتوفير الوظائف. بينما اليوم أصبحت الطريقُ إلى البيت الأبيض مثلًا تمرُّ من خلال ما يُنقلُ عن المرشّحين وما يُصرّحون هم به على محطات التلفزة وأبرز الصحف الأميركيّة، وما يُتداول عنهم وما ينشرونه هم عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ3. وبالتالي، نستنتجُ مدى أهميّة ربط مفهوميْ «التواصل الاستراتيجيّ» و«التواصل السياسيّ» بمفهوم حماية الأمن القوميّ.

وهنا نُشيرُ إلى أنّ أحدَ أهداف معالجتنا لهذا الموضوع هو الإضاءة على حقيقةِ أنّ وسائلَ التواصلِ سلاحٌ ذو حدّين. فتطوّر و«عولمة» التقنيّات المُرتبطةِ بالتواصلِ منحت أيَّ فردٍ يمتلكُ المعرفةَ التقنيّةَ التي تُخوّله إنشاءَ صفحةٍ، أو نشر فيديو، أو صورةٍ، أو تغريدةٍ على أيٍّ من منصات وسائل التواصل الاجتماعيّ، القدرة على التأثير في الشؤون التي تهمّ الرأي العام، ولاسيما الشؤون السياسيّة. وهذا ما حدث في بداية أحداث الحراك العربيّ في مصر عام 2011، حين أدّى استخدامُ الشباب المصريّ للمهارات التواصليّة التسويقيّة إلى زيادة المشاركةِ في التظاهرات والاحتجاجات. ولكن على الرغم من الصورة الإيجابيّة السحريّة للتكنولوجيا، لا بدّ من الحذر لأنّها تترافق مع تأثيراتٍ مُعقّدة. فهذه التكنولوجيا التي تُستخدمُ بشكلٍ فاعلٍ وإيجابيٍّ لتعزيز وتسهيل المحادثات بين الدول وشعوبها، قد تكونُ أيضًا عاملًا مُساعدًا أو مُساهمًا في تعزيز التوترّ، أو الخلاف، أو حالة الكراهيّة، أو التصعيد خلال الحرب. وبالتالي، قد يكون التواصل الاستراتيجيّ والسياسيّ قوّةً تُحفّزُ الخير أو الشرّ، حالُه حالُ جميعِ وسائل التأثير، يُمكنُ تسخيرُهُ لأغراضٍ إيجابيّةٍ أو سلبيّة. كما أنّ استخدام التواصل السياسيّ والاستراتيجيّ للتلاعب بمشاعر المواطنين واستغلالها هو أمرٌ غيرُ أخلاقيّ، فيما استخدامه لإطلاعهم على الحقائق دون تضليل، واستثماره كقوّةٍ إيجابيّةٍ لتعزيز ولائهم للوطن وتماسكهم وتضامنهم الاجتماعيّ، وتحفيزهم على التعاون من أجل المصلحة الوطنيّة العليا والصالح العام هو الأمرُ الطبيعي والمطلوب4.

 

القسم الأوّل

الاستراتيجيّة المنهجيّة والجهاز المُتخصّص، ضرورتان لحماية الأمن القوميّ وتحقيق المصالح الوطنيّة

 

أولاًً: مفهوم الأمن

«الأمن» أولويّةٌ لدى صانعي ومُتّخذي القرار على صعيد السياستيْن الداخليّة والخارجيّة، وهو المُحرّك الأساسيّ لاستقرارِ الدولة في الداخل وصمودِها في وجه مُحاولات التدخّل والخرق من الخارج. «الأمن» اصطلاحًا هو «نقيض الخوف» وفعلُ «أمِنَ» يعني «حقّق الأمان». بمعنى أنّ مفهومَ الأمنِ يُشيرُ إلى انعدامِ الشعورِ بالخوفِ وإحلالِ شعورِ الأمان نفسيًّا، ذهنيًّا، وجسديًّا. كما أنّ الأمنَ للمواطنِ حقٌّ إنسانيٌّ لا يتجزّأ مهما كانت الأسباب، ومستوياته أربعةٌ؛ أوّلًا، أمنُ الفردِ ضدّ أيِّ خطرٍ يُهدّدُ حياتَه، ممتلكاته، وأسرته. ثانيًا، الأمنُ القوميّ (الوطنيّ) ضدّ أيِّ خطرٍ خارجيٍّ أو داخليٍّ يتهدّدُ الدولة. ثالثًا، الأمنُ الإقليميّ، الذي يتحقّقُ من خلال تواصلِ مجموعةٍ من الدولِ المتجاورةِ جغرافيًّا، واتّفاقها على التعاونِ والتنسيقِ في مواجهةِ التهديدات الإقليميّة والمحليّة، كما يُمكنُ أن يتحقّق من خلال المنظمات الدوليّة الإقليميّة كالاتّحاد الأوروبيّ وجامعة الدول العربيّة. ورابعًا، الأمنُ الدوليّ أو العالميّ، الذي تتولاه إلى جانبِ دول العالم كافة، المُنظمات الدوليّة كهيئة الأمم المتحدة ومُنظّماتها كمجلس الأمن. أمّا المفهومُ التقليديّ للأمن القوميّ فقد ارتبطَ تاريخيًّا بالحمايةِ من الهجومِ الخارجيّ، وتمَّ النظرُ إليه بشكلٍ أساسيٍّ من زاويةِ مواجهةِ التهديدات العسكريّة عبر حجم القوات المُسلّحة والوسائل الدفاعيّة. غير أنّ هذه الرؤية ضيّقةٌ جدًّا، والمُقاربةُ الحديثة تدرسُ المفهومَ من المنظارِ الشامل بأبعاده السياسيّة، الاقتصاديّة، الاجتماعيّة، العسكريّة، والثقافيّة5.

 

ثانيًا: مفهوم الأمن القوميّ

تقومُ نظريّة الأمن القوميّ على مبدأ دعمِ قوّةِ الدولةِ في المجالات كافة ولاسيما السياسيّة، الاقتصاديّة، والعسكريّة، بهدف المحافظة على سيادتها، استقلالها، كيانها، وسلامة أراضيها. ولتحقيق هذا الدعم، تضعُ الدولةُ مجموعةَ سياساتٍ هادفةٍ إلى تعزيز وسائل القوّة وأدوات الأمن القوميّ ماديًّا ومعنويًّا. فعلى الصعيد السياسيّ، تسعى الدولة إلى زيادة نفوذها في المجاليْن الإقليميّ والدوليّ عبر اعتماد سياسةٍ خارجيّة نشطة. أمّا محليًّا، فترسُمُ الحكومةُ السياسةَ الداخليّة انطلاقًا من القواعد الدستوريّة والمصلحة الوطنيّة العليا القائمة على تحقيق التنمية الشاملة وتعزيز الوحدة الوطنيّة. فيما على الصعيد الاقتصاديّ، تعمل الحكومة على تطوير القطاعات الاقتصاديّة بهدف زيادة الدخل القوميّ، فتُعزّزُ بالتالي قدرتها على استثمار قوّتها الاقتصاديّة لتحقيق أهدافٍ وغاياتٍ سياسيّة، بمعنى توظيف الاقتصاد لصالح النفوذ السياسيّ. بينما على الصعيد العسكريّ، تلجأُ الدولةُ غالبًا إلى زيادة قدراتها التسليحيّة لمواجهة الأخطار المُحتملة، وقد تُنسّقُ في هذا المجال مع غيرها من الدول في إطار المصالح المشتركة، وقد تُوظّفُ قوّتها العسكريّة في المفاوضات السياسيّة والدبلوماسيّة. ولتحقيق ذلك، تتبنّى نظريّة الأمن القوميّ أسلوبيْن لتحقيق الأمن: الأمنُ من خلال الصراع أو الأمنُ من خلال التعاون. يُدافع القائلون بتحقيق الأمن من خلال الصراع عن سياسة القوّة ويستندون غالبًا إلى نظريّة توازن القوى. فيما يعتبر آخرون أنّ التعاونَ المُشتركَ هو أسلوبٌ ناجحٌ لمعالجةِ المشكلات السياسيّة والاقتصاديّة، أيّ أنّه طريقٌ لتحقيقِ الأمن القوميّ. في هذا الإطار، لا بدّ من التمييز بين الأمن القوميّ للدول الكبرى والأمن القوميّ للدول الصغرى، فالدولةُ الكُبرى تسعى إلى المحافظة على قوّتها ونفوذها الدوليّين، وغالبًا ما تعمل على منع غيرها من الدولِ المُنافسة من امتلاك مزيدٍ من القوّة. بينما تكتفي الدولةُ الصغرى بحمايةِ كيانها الوطنيّ واستقلالها، دون أن تسعى إلى تحقيق أهدافٍ وطموحاتٍ توسعيّة6.

بناءً على ما تقدّم وبعد الاستئناس بتعريفاتٍ ومُقارباتٍ عديدةٍ، يتبيّنُ أنّ مفهومَ الأمنِ القوميّ هو مفهومٌ شاملٌ ذو أبعادٍ سياسيّةٍ، دبلوماسيّةٍ، عسكريّةٍ وأمنيّةٍ، اقتصاديّةٍ، اجتماعيّةٍ، وطنيّةٍ معنويّةٍ وثقافيّةٍ، أيديولوجيّةٍ، صحيّةٍ، وبيئيّة. يُمكنُ تعريفُهُ على أنّه واقعةُ Fact وحالةُ State تجسيدِ الدولةِ لقدراتها الشاملة ومجموعة التدابير والإجراءات التي تتّخذُها للدفاع عن سيادتها، وحماية حدودِها، وسلامة أراضيها ومواطنيها (المُقيمون والمُغتربون)، واقتصادِها، ومؤسّساتِها، ومصالحها الحيويّة والأساسيّة، وهويّتها وقِيَمها الوطنيّة، بهدفِ تحقيقِ الأمنِ والأمانِ والاستقرار على الصعد كافة. وذلك ليس فقط ضدّ الهجمات العسكريّة المُعادية الخارجيّة أو الداخليّة، بل أيضًا بمواجهةِ كلِّ أنواع المخاطر والتهديدات والهجمات، سواء على صعيد مكافحةِ التطرّف والإرهاب والتهريب والجريمة المُنظّمة والاتجار بالبشر والمخدرات، ومُواجهةِ كلِّ أشكال الانحراف المُجتمعيّ ومُعالجة أسبابه، ومُواجهةِ التهرّب الضريبيّ واحتيال الشركات المحليّة والشركات المُتعدّدة الجنسيّات، ومُواجهةِ الحصار والعقوبات الاقتصاديّة، والاستجابةِ والتصدّي ومُعالجةِ آثار الكوارث الطبيعيّة والأوبئة والأمراض المُعدية وسوء التغذية، وغيرها من التهديدات التي قد تمسّ الدولة بشعبها وأرضها ومؤسّساتها.

وفي هذا السياق، يُعتَبرُ مفهومُ الأمن القوميّ المفهومَ الشاملَ الذي تندرجُ تحته مُختلفُ أنواع الأمن. فالأمنُ السياسيّ، يُشيرُ إلى حماية النظام السياسيّ والمُجتمع من التهديدات الداخليّة والتهديدات أو الضغوط الخارجيّة، ويضمن إنفاذ القانون واتّخاذ تدابير ضدّ القمع السياسيّ وانتهاكات حقوق الإنسان. أمّا الأمن العسكريّ، فيشمل تحديدًا مسائل اتّخاذ التدابير العسكريّة والأمنيّة الضروريّة لحماية حدود الدولة وسلامة أراضيها وسيادتها من الاعتداءات العسكريّة الخارجيّة والداخليّة الدَوْلتيّة وغير الدَوْلتيّة. فيما الأمنُ الداخليّ، يشمل التدابير المُناسبة لحماية الاستقرار الداخليّ وفرض سيادة القانون والحفاظ على السلم الأهليّ، وحماية أمن المرافق الحيويّة والمُنشآت العامة والخاصة والمطارات والموانئ وغيرها. بينما الأمنُ السيبراني، يُشيرُ إلى اتّخاذ التدابير المُناسبة لحماية قواعد البيانات وشبكة أجهزة الكمبيوتر والبُنية التحتيّة التكنولوجيّة للدولة ومؤسّساتها ومواطنيها. أمّا الأمنُ الاقتصاديّ، فيتعدّى مسألةَ سعي الدولة إلى تحقيق نموٍّ اقتصاديٍّ، وتوفيرِ احتياجاتِ الناسِ، وخلقِ فرصِ العمل، واتّخاذ الإجراءات المُناسبة لمكافحة الفقر، وتحقيق العدالة الضريبيّة والعدالة في الدخل، ليشمل مدى قدرة الدولة على حماية ثرواتها والدفاع عن سيادتها وحريّتها الاقتصاديّة في مواجهة التبعيّة والتهديدات والضغوطات والإكراه الخارجيّ، للحفاظ على استقلاليّة قراراتها في المجالات الاقتصاديّة والتجاريّة والماليّة في الداخل والخارج. في حين أنّ الأمنَ الاجتماعيّ، يشملُ سلامةَ الناس وكيفية مواجهة مظاهر الجوعِ والمرضِ والقمعِ والعنفِ والتطرّف والجريمة والإرهاب وغيرها من مظاهر الانحراف المُجتمعيّ، وكيفية مُعالجة كلّ أشكال التوترات بين المُكوّنات السياسيّة والاجتماعيّة العرقيّة والطائفيّة والعشائريّة، وبالتالي ضمان حماية حقوق وخصوصيّات كلّ مُكوّنٍ من هذه المُكوّنات. وتشملُ اللائحةُ أنواعًا كثيرةً من الأمن أهمّها الأمنُ الغذائيّ، الأمنُ البيئيّ، الأمنُ الصحيّ، أمنُ الطاقة والموارد والثروات الطبيعيّة... وكلّها تندرجُ ضمنَ مفهوم «الأمن القوميّ»7.

 

ثالثًا: الاستراتيجيّة والمصلحة الوطنيّة العليا

«الاستراتيجيّة» مصطلحٌ يونانيٌّ يعني فنّ الأشياء أو الخطط العامة، أو فنّ الحرب، أو فنّ قيادة الجيوش. استُخدِمَ لأوّلِ مرّةٍ في فرنسا خلال القرن الثامن عشر، وظلّ محصورًا في النطاق العسكريّ. وبالنسبة لـ Napoleon I، الاستراتيجيّة تعني الاستعدادَ للحرب. أمّا Clausewitz فيرى أنّ الاستراتيجيّة هي تحقيقُ الأهداف السياسيّة عن طريقِ القوّة، أيّ أنّ الحربَ تستهدفُ التوصّلَ إلى هدفٍ سياسيّ. ثمّ في القرن العشرين، تطوّرَ مفهومُ الاستراتيجيّة وتعدّى نطاقَ العمليات العسكريّة في الحربِ ليُصبحَ علمًا وفنًّا في وضعِ الخططِ العامّة المدروسة لاستخدام الموارد بُغية تحقيق الأهداف الكبرى، بما فيها الاقتصاديّة والسياسيّة. وأصبحت الاستراتيجيّة جزءًا من التخطيط العام لتطوير الدولة والمُجتمع. أمّا الاستراتيجيّة القوميّة أو الاستراتيجيّة العليا فتُصَنَّفُ ضمن المستوى الأعلى للتخطيط الاستراتيجيّ، ويتفرّعُ عنها الاستراتيجيّات العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة8...

الاستراتيجيّة في هذا المجال، هي تنسيقُ واستخدامُ القدرات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والنفسيّة والعسكريّة ضمن مُخطّطٍ مُنظّمٍ وهادفٍ إلى تحقيق المصلحة القوميّة. كما أنّها تُمثّلُ قوّة الدولة الماديّة والبشريّة والعسكريّة والاقتصاديّة وقدرتها على وضع قواها موضع الاستخدام في المكان والزمان المُناسبيْن. أمّا المصلحة القوميّة (المصلحة العليا) فهي خُلاصة مجموعة أهدافِ كلِّ دولةٍ سيّدةٍ حرّةٍ مستقلّةٍ، والتي تتمثّل بــحماية سيادتها وأمنها وسلامتها الإقليميّة أيّ الحفاظ على وجودها وحدودها، وتنمية قدراتها العلميّة والتكنولوجيّة لزيادة قوّتها، وتحقيق نموذجها الاقتصاديّ الذي يزيد من استقرارها ونفوذها الدوليّ، والدفاع عن فلسفة الدولة (أيديولوجيّتها) أيّ عن مُعتقداتها الأساسيّة وثقافتها الوطنيّة، والعمل من أجل السلام لأنّ فيه مصلحة لجميع البشر. ويستنتج الدكتور نبيل خليفة أنّ المصلحةَ القوميّة هي حاصلُ إنجازِ كلّ ما يضمنُ ويؤمّنُ عدم ارتهانِ الدولة للخارج. حيث أنّ القرارات الاستراتيجيّة المُرتبطة بها هي من مسؤوليّة أعلى مستويات صنع القرار في الدولة، والأمر لا يقتصر على السياسة العسكريّة الدفاعيّة بل هو بحاجةٍ إلى دراسةٍ معمّقةٍ لواقعِ الدولة الداخليّ وسياستها الخارجيّة في أبعادها الجغرافيّة والتاريخيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والتكنولوجيّة والسياسيّة، وللواقعِ الدوليّ، وواقعِ وموقعِ الحلفاء والأصدقاء والأعداء والخصوم9. وفي هذا السياق يتحدّث الدكتور خليفة عن ضرورة التكاملِ بين الدبلوماسيّة والاستراتيجيّة في الدولِ الحديثة بهدفِ تنظيمِ السياسةِ الخارجيّةِ وتحقيقِ المصلحة القوميّة، أيّ تحقيق أمن الدولة في الداخل والخارج عبر حماية السيادة الوطنيّة وتنمية مُقدّرات الدولة وتحقيق أهدافها الاستراتيجيّة10.

بناءً على ما تقدّم، وبنتيجةِ اطّلاعنا على بعض التعريفات والاستئناس بها، ومنها التعريفات الواردة في كتاب «الاستراتيجيّة»11 للعميد الركن كلود الحايك، و«دليل إعداد الخطط الاستراتيجيّة»12 الصادر عن مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإداريّة، ومقالةٍ منشورةٍ على الموقع الإلكترونيّ لمجلة «Harvard Business Review»13، والموقع الإلكترونيّ الرسميّ لـ «Cambridge Dictionary»14، نَصِفُ الاستراتيجيّة بشكلٍ عام The Strategy، بأنّها تجسيدُ العلاقةِ بين «الفكرة والتنفيذ»، للانتقالِ من واقعٍ حاليٍّ إلى غايةٍ نهائيّةٍ منشودةٍ انسجامًا مع رؤيةٍ مُحدّدةٍ وواضحة، وبأنّها جسرٌ بين المواردِ والوسائل من جهة والغايات النهائيّة من جهة أخرى، وبين القوّةِ والقدرات من جهة والنوايا والأهداف من جهة أخرى. ونعرّفها بالتالي على أنّها مُقاربةٌ «خُططيّةٌ» منهجيّةٌ يُعبَّرُ عنها بالخططِ والبرامجِ والمشاريعِ والنشاطاتِ والمبادرات، التي يتمّ إعدادها وتنسيقها وتنفيذها لتحقيقِ غايةٍ نهائيّةٍ ضمن مدى زمنيّ مُحدّد، عبر الاستخدام الأمثل للموارد والقدرات، وتنسيق الجهود باعتماد مسار العمل الأفضل والأكثر مرونةً، للتأقلمِ مع الظروف وتخطيّ الصعوبات واستثمار الفرص. ويُمكن اختصارُ هذا التعريف بعبارة «كيف ومتى يتمُّ القيامُ بعملٍ ما، ومن الذي يقوم به». أمّا بالنسبة إلى مجموعةِ الخططِ المُنبثقةِ عن الاستراتيجيّة فيجب أن تكونَ متكاملة، متشابكة، منسجمة، وممنهجة، وتَستَخدِمُ، وفقَ الوسائل والأدوات المناسبة، الموارد المتوافرة والموارد الضروريّة التي يجري تأمينها، من أجلِ تحقيقِ الأهداف الفرعيّة والأهداف الاستراتيجيّة والغايات النهائيّة.

 

رابعًا: استراتيجيّة الأمن القوميّ National Security Strategy

إنّ الحروبَ واستخدامَ القوّةِ ووسائل العنفِ أو التهديد بها ليست غاياتٍ بحدّ ذاتها، بل وسائلٌ قد تلجأ إليها الدولُ لتحقيقِ أهدافها الاستراتيجيّة ومصالحها الوطنيّة. وعليه، يرتبطُ مفهومُ صياغة استراتيجيّة الأمن القوميّ بـواقعِ تطوير الدولة لقدراتها الشاملة لاستخدامها في الزمان والمكان المُناسبيْن، بهدفِ تحقيق هذه الأهداف والمصالح وحمايتها والدفاع عنها.

إنّ إعدادَ السياسات العامّة الصالحةِ لزمنيْ السلم والحرب، وفي المجالات السياسيّة، الاقتصاديّة، الاجتماعيّة، والعسكريّة، يستوجبُ تحضيرًا يتمثّلُ بالتخطيطِ الاستراتيجيّ الشامل الطويل الأمد. ويُمكنُ لهذه الغاية اتّباعُ منهجيّةٍ مُنظّمةٍ تبدأُ بصياغةِ استراتيجيّة للأمن القوميّ، يُمكنُ تعريفها على أنّها إطارُ عملٍ مفاهيميٍّ شاملٍ، تُبرِزُ الدولةُ من خلالها أوّلويّاتها على صعيد حماية الأمن القوميّ، وتَوَجُّهاتها الاستراتيجيّة، وأهدافَها المستقبليّة، وتُحدِّدُ فيها مصالحَها الوطنيّة، وتَرسُمُ الطُرُقَ وتُحضّرُ الوسائل وتُخصِّصُ الموارد اللازمة لتحقيقها. وبعد أن تُعَمَّمَ على الوزارات والأجهزة والمؤسّسات والإدارات المعنيّة، ينبثقُ عنها استراتيجيّاتٌ وطنيّةٌ فرعيّةٌ وخططٌ وبرامج تتوافق مع المصالح الوطنيّة وتهدف إلى تحقيقها وحمايتها، إذ يُسهِمُ تنفيذُ هذه الاستراتيجيّات، في ظلّ التعاون والتنسيق وتضافر الجهود، في ضمان حماية الأمن القوميّ. وعادةً، يضعُ مجلسُ الأمنِ القوميّ أو ما يُشبهُهُ أو لجنةٌ مُتخصِّصةٌ، استراتيجيّة الأمنِ القوميّ (الوطنيّ)، التي تَصدُرُ عن السلطة التنفيذيّة السياسيّة العليا15.

واستراتيجيّة الأمن القوميّ مُستندٌ عامٌّ يهدفُ إلى تطوير، استخدام، وتنسيق أدوات الأمن القوميّ والقوّة الوطنيّة لبلوغِ الأهداف التي تُساهم في حماية الأمن القوميّ والسيادة والاستقلال، وتحقيق المصلحة الوطنيّة العليا والمصالح الوطنيّة، وصدّ مُحاولات التدخّل الخارجيّ وفرض التبعيّة للخارج. تتضمّنُ هذه الاستراتيجيّة عرضَ المخاوفِ والمخاطرِ والتهديداتِ التي تعترضُ الأمن القوميّ، وكيفيّة مُقاربتها ومُعالجتها من قبل الوزارات والأجهزة والمؤسّسات كلٌّ وفقَ دوره وصلاحيّاته ومهامه وواجباته، وذلك بعد تأمين واستخدام الموارد والأدوات المُناسبة. وتهدفُ هذه الاستراتيجيّة إلى إظهارِ قُدرات الدولة واستخدامها لحماية مواردها، أراضيها، ومصالحها في مواجهةِ التهديدات الخارجيّة والداخليّة، ليس بواسطةِ القوّةِ العسكريّةِ فقط، بل باستعمالِ كلّ الموارد المتوافرة. ولذلك، تُحافظُ الدولةُ وتُطوّرُ وسائلَ وأدوات حمايةٍ لكلّ أنواع الأمن. أمّا تنفيذُ الاستراتيجيّة فيستوجبُ تحديدَ الأولويّات، ووضعَ جدولٍ زمنيٍّ، وتحديدَ الطرقِ المُناسبةِ، والتعاونَ المتواصلَ وتنسيقَ الجهودِ بين الأجهزة العسكريّة والأمنيّة والوزارات والمؤسّسات والإدارات الرسميّة المعنيّة16. وقد تشملُ استراتيجيّة الأمنِ القوميّ وينبثقُ عنها استراتيجيّاتٌ وطنيّةٌ تُغطّي كلَّ أنواعِ الأمنِ والمجالات ذات التأثير في الأمن القوميّ، ومنها: استراتيجيّة الدفاعِ الوطنيّ والاستراتيجيّة العسكريّةُ الوطنيّةُ (الاستراتيجيّة الدفاعيّة)، الاستراتيجيّة الدبلوماسيّةُ الوطنيّةُ (استراتيجيّة تفعيلِ السياسةِ الخارجيّة)، الاستراتيجيّة السياسيّةُ الوطنيّةُ، الاستراتيجيّة الاقتصاديّةُ الوطنيّةُ، الاستراتيجيّة الماليّةُ الوطنيّةُ، الاستراتيجيّة الاجتماعيّةُ الوطنيّةُ، الاستراتيجيّة القضائيّةُ الوطنيّةُ، الاستراتيجيّة الغذائيّةُ الوطنيّةُ، الاستراتيجيّة الصحيّةُ الوطنيّةُ، الاستراتيجيّة السيبرانيّةُ الوطنيّةُ، الاستراتيجيّة الثقافيّةُ الوطنيّةُ، الاستراتيجيّة الإعلاميّةُ الوطنيّةُ، الاستراتيجيّة التعليميّةُ الوطنيّةُ، الاستراتيجيّة البيئيّةُ الوطنيّةُ، والاستراتيجيّة الرياضيّةُ الوطنيّة. ولتعزيز فرص تحقيق أهداف هذه الاستراتيجيّات، لا بدّ من صياغةِ استراتيجيّةٍ للتواصل الاستراتيجيّ.

 

خامسًا: استراتيجيّة الدفاعِ الوطنيّ (الاستراتيجيّة الدفاعيّة) والاستراتيجيّة العسكريّة

هي مُستندٌ رسميٌّ يُبَيِّنُ كيفيّةَ استخدامِ القوّاتِ المُسلّحةِ والأجهزةِ المعنيّةِ وأدواتِ القوّةِ الوطنيّةِ أو أدواتِ الأمنِ القوميِّ لتحقيقِ أهداف استراتيجيّة الأمنِ القوميّ. وتهدفُ الاستراتيجيّة الدفاعيّة إلى الدفاعِ عن الوطنِ عبر إشراكِ القطاعات العسكريّة والمدنيّة، وتضافرِ جهودِ مُختلفِ المُكوّناتِ السياسيّة، الاقتصاديّة، والمُجتمعيّة لمُساعدةِ القوّات المسلّحة في مهامها. وتجدرُ الإشارةُ هنا إلى أنّه يجبُ على جميع الوزارات المعنيّة، وليس وزارة الدفاع فقط، أن تضعَ إستراتيجيّاتها الوطنيّة بحسب اختصاصها لتطبيقِ استراتيجيّة الأمن القوميّ (الوطنيّ). أمّا الاستراتيجيّة العسكريّة فتُختصرُ بأنّها فنُّ وعلمُ توزيعِ واستخدام القوّة العسكريّة لتحقيقِ الأهداف الوطنيّة في زمنيْ السلم والحرب، والعمل وفق أهداف استراتيجيّة الأمن القوميّ والمُخطّط السياسيّ الشامل، من خلال تطوير الوسائل والأدوات المُناسبة (أسلحة، عتاد، تقنيّات، موارد بشريّة، موازنة...)، وصياغة الاستراتيجيّات الفرعيّة والخطط اللازمة، وإصدار الأوامر والتوجيهات حيثُ يلزم. فإذا كانت الاستراتيجيّة العسكريّة هجوميّة، قد تهدفُ إلى احتلالِ أرضِ دولةٍ أو فرضِ شروطٍ مُحدّدةٍ عليها. وإذا كانت دفاعيّةٍ، تهدفُ إلى الدفاع عن الدولة وحدودها وأرضها وشعبها وسيادتها. وعادةً، تقوم قيادةُ القوات المسلّحة أو قيادةُ الجيش أو قيادةُ هيئة الأركان، بترجمةِ استراتيجيّة الدفاع الوطنيّ عبر ترتيباتٍ ونشاطاتٍ عسكريّةٍ، تُدرَجُ ضمنَ مُستندٍ رسميٍّ سريٍّ، قد تُنشَرُ خطوطُهُ العريضةُ دونَ الغوصِ في التفاصيل، ويُسمّى الاستراتيجيّة العسكريّة الوطنيّة17.

وتقومُ الاستراتيجيّة العسكريّة الوطنيّة على مبدأ استخدام القوّات المُسلّحة لتأمين وتحقيق الأهداف والمصالح الوطنيّة، من خلالِ استخدامِ وتطبيقِ القوّةِ أو التهديدِ باستخدامِها. وتُبَيِّنُ هذه الاستراتيجيّة طريقةَ دمجِ الأساليبِ والوسائلِ العسكريّةِ بأدواتِ القوّةِ الوطنيّةِ من أجل حماية الوطن والدفاع عنه، أو حماية الحلفاءِ والشركاء، من خلالِ تخطيطِ الحملات العسكريّة وإدارتها، وحركةِ القوّات العسكريّة وانتشارِها وتَمَوْضُعِها، إضافةً إلى خداعِ العدو. والاستراتيجيّة العسكريّة الوطنيّة، بتحقيقها أهداف الاستراتيجيّة الدفاعيّة، تُحقّقُ أهدافَ استراتيجيّة الأمنِ القوميّ18.

 

سادسًا: مجلسُ الأمن القوميّ، النموذج الأميركيّ

إنّ الحاجةَ الدائمةَ والمُستمرّةَ لتحليلِ الشؤونِ المُرتبطةِ بالأمن القوميّ والسياسة الخارجيّة، والتخطيط الاستراتيجيّ لمعالجة نقاط الضعف والثغرات، وإزالة التهديدات الداخليّة والخارجيّة أو الحدّ من تداعياتها، وتعزيز نقاط القوّة والقدرات، واستثمار الفرص، وتقديم التوصيات اللازمة، وتحضير عناصر صنع واتّخاذ القرار، كلّها وظائفٌ تتطلّبُ وجودَ هيكلٍ أو كيانٍ مُنسجمٍ لديه الصلاحيات المُناسِبة وقدرة الوصول إلى المعلومات والتواصل مع الفاعلين في عملية صنع القرارات من جهة والسلطة التي تتّخذ القرارات المُناسِبة من جهةٍ أخرى. من هنا، لجأت الدولُ إلى إنشاءِ هيئاتٍ استشاريّةٍ تُعنى بشؤون الأمن القوميّ، وغالبًا ما ترتبطُ برأس السلطة التنفيذيّة.

أُنشئَ في الولايات المتّحدة الأميركيّة بموجبِ «قانون الأمن القوميّ عام 1947» مجلسُ الأمن القوميّ، وكالةُ الاستخبارات المركزيّة، ومنصبُ «مساعد الرئيس لشؤونِ الأمنِ القوميّ» الذي يُعرَفُ باسم «مستشار الأمن القومي». وإنّ تأثيرَ المُستشار والمجلس، بنتيجة التنسيقِ الدائمِ مع وزارتيْ الخارجيّة والدفاع، هو تأثيرٌ قويٌّ في عملية صنع القرارات المُرتبطةِ بالسياسةِ الخارجيّةِ والأمن القوميّ، علمًا أنّ دورَهما ديناميكيٌّ مُرتبطٌ بظروفِ ومُتطلباتِ كلّ ولايةٍ رئاسيّة. فعلى سبيل المثال، تبدّلت أولويّات ومُقاربات مجلس الأمن القوميّ، كما أساليب عمله والتنسيق بين الأجهزة الأمنيّة بعد أحداث 11 أيلول 2001 وإعلان إدارة الرئيس بوش Bush الحرب على الإرهاب19.

إذًا، مجلسُ الأمنِ القوميّ هو المُنتدى المركزيّ حيثُ يبحثُ الرئيسُ الأميركيّ في عملية اتّخاذِ القرارات المُرتبطة بقضايا الأمن القوميّ والسياسة الخارجيّة مع كبار مُستشاريه والوزراء والمسؤولين الحكوميّين. ويتولّى المجلسُ مسؤوليّةَ تقديمِ المشورةِ للرئيس حول هذه القضايا، ومساعدته في تنسيق تنفيذ القرارات المُرتبطة بها بين الوكالات الحكوميّة. مع الإشارة إلى أنّ مستوى التحدّيات يتطلّبُ التنسيقَ بين شؤونِ السياستيْن الداخليّة والخارجيّة من جهة، وبين شؤون الأمن القوميّ التقليديّ والأمن الاقتصاديّ وأمن الصحة والأمن البيئيّ من جهةٍ أخرى. ولذلك، فإنّ مجلسَ الأمن القوميّ الذي يترأّسه رئيس الولايات المتّحدة، يضمُّ أعضاء دائمين هم نائب الرئيس، وزير الخارجيّة، وزير الخزانة، وزير الدفاع، وزير الطاقة، النائب العام، وزير الداخليّة، مُمثّل الولايات المتّحدة لدى الأمم المتّحدة، مدير الوكالة الأميركيّة للتنمية الدوليّة، رئيس موظفي البيت الأبيض، مساعد الرئيس لشؤون الأمن القوميّ (مُستشار الأمن القوميّ)، رئيس هيئة الأركان المُشتركة (المستشارُ العسكريّ للمجلس)، مدير الاستخبارات الوطنيّة (المستشار الاستخباراتيّ للمجلس)، المُستشار القانونيّ للرئيس، والمُستشار القانونيّ للمجلس. كما يُمكن أن يُدعى رؤساء الأقسام والإدارات التنفيذيّة وقادة الوكالات الأخرى لحضور الجلسات عند الحاجة20.

وينصُّ «قانون الأمن القوميّ عام 1947»، على أنّه من أبرزِ وظائفِ مجلسِ الأمنِ القوميّ؛ ضمانُ فعاليّة تنسيق السياسات المُرتبطة بشؤون الأمن القوميّ في ما بين الإدارات والوكالات الحكوميّة المعنيّة، وتقييم الأهداف والالتزامات الأميركيّة المُرتبطة بقدرات واشنطن العسكريّة الفعليّة والمُحتملة، وتقييم المخاطر التي تعترض الولايات المتّحدة وقدراتها، ومُقاربة كلّ الملفات من منظار مصلحة الأمن القوميّ، وتقديم التوصيات المُناسِبة للرئيس21 . أمّا دورُ مُستشارِ الأمنِ القوميّ فيتمحوَرُ حول تقديم الدعم والمشورةِ للرئيس على مدار الساعة في الشؤون التي تُمثّل تأديته لواجباته ومهامه الدستوريّة المُرتبطةِ بالأمن القوميّ والسياسة الخارجيّة، والتسويق لمبادرات الرئيس في هذه المجالات ومتابعتها داخل هيكل السلطة التنفيذيّة، ومتابعة إجراءات التنسيق في ما بين الإدارات والوكالات الحكوميّة المعنيّة بالتنفيذ، وعرض وتوضيح السياسات والمبادرات الرئاسيّة للرأي العام الأميركيّ في مجاليْ السياسة الخارجيّة والأمن القوميّ. ولذلك يجب على مُستشار الأمن القوميّ أن يتوخى الحذر، ولا يتعدّى على صلاحيّات وزيريْ الدفاع والخارجيّة، بل أن يعرض رؤية الرئيس ووجهة نظره، ويشرح الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها، دون أن يرتجلَ ويخرجَ عن الإطار الذي يرسمه له. فهو يتحدّث باسم الرئيس، وليس باسمه22 .

في هذا السياق وربطًا بموضوعنا، نعتبرُ أنّه من الضروريّ أن يُدركَ الرؤساء والمسؤولون الرسميّون بشكلٍ عام مدى أهميّة دور التواصل، سواء مع نظرائهم أو مع الرأي العام. كما نعتبرُ أنّه على المكلّفين والعاملين في مجالاتٍ تقوم إلى حدّ كبير على التواصل، ومنهم على سبيل المثال، وزراء الخارجيّة، مستشارو الأمن القوميّ، أو المتحدّثون باسم وزارة الخارجيّة أو مجلس الأمن القوميّ، أن يتمتّعوا بمهاراتٍ تواصليّة وقدراتٍ في مجال التواصل الاستراتيجيّ والسياسيّ والإعلاميّ، حيث يُشكّل هذا الأمر عاملًا مُساعدًا في التسويقِ الإيجابيّ للرؤية الوطنيّة، وتعزيزِ فرصِ تحقيقِ المصالح الوطنيّة.

 

سابعًا: الرؤية والمصالح الوطنيّة، الغايةُ النهائيّةُ لاستراتيجيّة الأمن القوميّ

إنّ «الرؤية» بشكلٍ عام هي منظورٌ مُستقبليٌّ وإسقاطٌ واقعيٌّ لتَوَجُّهاتنا الحاليّة، وتعكسُ ما نطمحُ لإنجازهِ ضمن مدى زمنيّ مُحدّد23. بناءً عليه، الرؤيةُ الوطنيّةُ (National vision)، تُمثّلُ إطارَ عملٍ مفاهيميّ، يُجسّدُ الطموحات الوطنيّة المُستقبليّة التي تصوغُها الحكومةُ على شكلِ مشروعٍ شاملٍ طويلِ المدى غايتُه النهائيّة تطويُر الدولة وتعزيزُ قُدراتها وتحقيقُ مصالحها الوطنيّة، عبر تنفيذِ خططٍ استراتيجيّة سياسيّةٍ، أمنيّةٍ، اقتصاديّةٍ، واجتماعيّةٍ، على الصعيد الداخليّ والخارجيّ. فيما المصلحةُ العليا للدولة أو المصلحة الوطنيّة العليا (Raison d’Etat)، هي مبدأ حوْكَمةٍ سياسيّةٍ، يُجسّدُ واجبَ الدولةِ الأسمى وحقَّها المُطلَق بفعل ما يلزم لحماية الكيان. وغايته النهائيّة تحقيقُ المصلحة العامة وحماية المصالح الوطنيّة من خلال صياغة «الذريعة» الوطنيّة المُبرِّرة لاتّخاذ قراراتٍ براغماتيّةٍ على صعيد السياستيْن الداخليّة والخارجيّة، بغضّ النظر عن بعض المآخذ القانونيّة أو القِيَميّة، التي لا تتجاوزُ أصولًا سقف القوانين الدوليّة ولاسيما القانون الدوليّ الإنسانيّ24. بينما الأهدافُ الاستراتيجيّة Strategic Objectives والغايات النهائيّة End states، هي مجموعُ النتائج والتطلّعات العامّة المُقرّرُ إنجازها وتحقيقها ضمن مدّةٍ مُحدّدةٍ بواسطة استراتيجيّة وخططٍ فرعيّة. وذلك من خلال تحديد وإنجاز الأهداف الاستراتيجيّة «الذكيّة» (S.M.A.R.T)، أيّ المُحدّدة بدقّة Specific، القابلة للقياس Measurable، القابلة للتحقيق Achievable، ذات الصلة Relevant، ومُحدّدة المدّة والمُهلة Time-based25.

أمّا بالنسبة إلى المصالح الوطنيّة فيُعرّفها Donald Nuechterlein على أنّها الاحتياجات والتطلّعات والأهداف التي تُحدّدها الدولة وتسعى إلى تحقيقها، وتندرجُ تحت أربعة عناوين أساسيّة هي الدفاع عن الوطن، تحقيق الرفاه الاقتصاديّ، تحقيق النظام العالميّ المُناسب، ونشر القِيَم الأيديولوجيّة26. وتُقسم هذه المصالح بشكلٍ عام إلى نَوعيْن؛ النوع الأوّل، المصالحُ الضروريّة الحيويّة، التي تُجسِّد الهويّة الثلاثيّة للكيان، الهويّة الجسديّة الماديّة التي تشمل الشعب والأرض والحدود، الهويّة السياسيّة التي تعني النظام السياسيّ والاقتصاديّ، والهويّة الثقافيّة التي تُمثّل القِيَم التاريخيّة والتُراث الثقافيّ. وتُعتبرُ هذه المصالحُ حيويّةً لأنّها ضروريّةٌ ومُلزِمةٌ لبقاء الدولة، وقد تضطرُّ الأخيرةُ إلى خوضِ حربٍ من أجل تأمينها وحمايتها. فيما النوع الثاني، يشملُ المصالحَ المُتغيّرة غير الحيويّة، التي ترتبطُ بالظروف المؤاتية والإمكانات والقدرات المُناسبة، ويُحدّدها صانعو القرار، الرأي العام، والمُكوّنات الاجتماعيّة والسياسيّة والشعبيّة والثقافيّة. وتُولي الدولةُ أهميّةً لتحقيقها، لكن ليس إلى حدّ خوضِ حروبٍ لأجل ذلك، ومنها نذكر تحقيقُ الرخاء الاقتصاديّ، المُساهمة في تحقيق السلام الإقليميّ والدوليّ، ونشرُ العدالة والديمقراطيّة27.

كذلك يُمكن تصنيف المصالح الوطنيّة بناءً لأربعة معايير؛ المعيار الأوّل، من حيث درجة الأهميّة، هناك المصالح الأساسيّة التي لا يُمكنُ لأيّ دولةٍ أن تتنازلَ عنها، والمصالح الثانويّة التي تقلُّ أهميّةً عن المصالح الأساسيّة إلّا أنّها تظلُّ مُهمّةً بالنسبة إلى الدولة. المعيار الثاني، من حيث ديمومتها، هناك المصالح الدائمة الثابتة نسبيًّا على المدى الطويل، أيّ التي قد تخضع لتغييراتٍ بطيئةٍ للغاية، في مقابل المصالح المُتغيّرة التي تتغيّرُ وفق الظروف والمُعطيات وتأثير الرأي العام والمصالح الطائفيّة والسياسات الحكوميّة والحزبيّة والشعبيّة والثقافيّة. المعيار الثالث، من حيث مدى تأثيرها، هناك المصالح العامة التي تنطبقُ وتؤثّرُ على عددٍ كبيرٍ من الدول، والمصالح المُحدَّدة من حيث الزمان والمكان. والمعيار الرابع، من حيث مدى اندماجها في ما بينها، هناك المصالح المُتطابِقة والمُشترَكة بين عددٍ من الدول، والمصالح المُتكامِلة التي تُشكّل أساسًا للاتّفاق على بعض القضايا ذات الاهتمام المُشترك، وفي المقابل هناك المصالح المُتضارِبة والمُتعارِضة، أيّ غير المُتكامِلة وغير المُتطابِقة28.

أمّا وقد تناولنا مفهومَ الأمن القوميّ وأهميّةَ صياغةِ استراتيجيّة وإنشاءِ مجلسٍ لتحقيق المصالح الوطنيّة، سوف نستعرضُ في القسم الثاني، أهميّةَ وضرورةَ الطرحِ المنهجيّ والتسويقِ الإيجابيّ لاستراتيجيّة الأمن القوميّ، بما يخدم تحقيق أهدافها ويدعم مجلس الأمن القوميّ في تنفيذ مهامه. وهذا ما يستدعي تطبيق مفهوم التواصل الاستراتيجيّ وصياغة الاستراتيجيّة المُناسبة.

 

القسم الثاني

استراتيجيّة التواصل الاستراتيجي، جسر إلزامي لتحقيق المصالح الوطنيّة وأهداف استراتيجيّة الأمن القوميّ

يُعرَّف التواصل Communication بشكلٍ عام، على أنّه تبادلُ المعاني Meanings من خلال تبادل المعلومات والأفكار والمشاعر بين الأفراد، بواسطةِ نظامٍ مُشتركٍ من الرموز. وتقومُ هذه العمليّة التبادليّة التفاعليّة على نقلِ الرسائلِ من مصدرٍ مُرسِلٍ إلى مُستَقبِلٍ متلَقٍّ مُستَهدَفٍ بالرسالة، وغالبًا ما يتمُّ ذلك عبر قنوات ووسائل وأدوات تواصلٍ واتّصالٍ مُختلفة. كما يتّخذُ التواصلُ أشكالًا عديدةً، تندرجُ تحت عنوانيْ التواصل اللفظيّ والتواصل غير اللفظيّ .Verbal and Nonverbal communication يشمل التواصلُ اللفظيّ استخدام الكلمات واللغة لنقل الرسائل اللغويّة الشفهيّةِ المنطوقةِ والمكتوبةِ، أمّا التواصل غير اللفظيّ فهو نقلُ المعاني والمعلومات والدلالات والرسائل دون استخدام الكلمات، ويشمل الأفعال والتصرّفات، لغة الجسد، تعابير الوجه، الإيماءات، التواصل البصريّ، نبرة الصوت وغيرها من الإشارات البصريّة والسمعيّة والتعبيريّة كالضحك والصراخ والبكاء. وقد يُعبِّرُ التواصلُ غير اللفظيّ عن المشاعر والمكنونات، فيُؤكّدُ صدقَ الرسائلِ أو يفضحُ عدم صدقها، وبالتالي قد يُستخدَمُ إيجابيًّا للتحفيز أو سلبيًّا للتضليل، وكمُكمّلٍ للتواصل اللفظيّ أو بديلٍ عنه29.

 

أولاًً: مفهوم التواصل السياسيّ

قدّم الباحثون العديد من التعريفات ووجهات النظر المُعاصرة حول هذا المفهوم، ومنها أنّ التواصلَ السياسيّ هو عمليةُ استخدامِ اللُغةِ والرموزِ من قبل الرؤساء والقادة الحكوميّين والرسميّين والزعماء والسياسيّين، والأحزاب والجماعات السياسيّة، ووسائل الإعلام، وحتّى من قبل المواطنين وغيرهم من اللاعبين الفاعلين، لإحداثِ تأثيراتٍ مقصودةٍ أو غيرِ مقصودة على الإدراك السياسيّ ومواقفِ وسلوكيّات الدول والجماعات والأفراد، أو على سياسات ومواقف دولةٍ ما أو مُجتمعٍ ما. والتواصل السياسيّ ليس مُجرّد حركةٍ بسيطةٍ وسريعةٍ وعابرةٍ، فقد يقترحُ رئيسُ الدولةِ مُبادرةً مُعيّنةً، لكنّ تحويل فكرته إلى مشروعٍ يدخل حيّز التنفيذ، يستوجب إقناع جهاتٍ عديدةٍ أهمّها السلطة التشريعيّة والرأي العام والإعلام. ولذلك يعتمدُ التواصلُ السياسيّ بشكلٍ أساسيٍّ على الكلمات والرموز والدلالات، أيّ الأقوال والأفعال، ويُعتبرُ «ممارسةَ استخدامِ اللغة لتحفيزِ الناسِ على التفكير والتصرّف بطرقٍ ربّما لم يكونوا ليُفكّروا أو يتصرّفوا بها»، وكثرٌ هم الرؤساء والزعماء الذين استخدموا «اللغة» لإلهام الخيال، والخطب لجذب الانتباه، والكلمات لتحريك الجماهير، والاستعارات لجمع الدعم لسياساتهم30.

 

ثانيًا: مفهوم التواصل الاستراتيجيّ

ارتبطَ قيامُ مفهوم التواصل الاستراتيجيّ بضرورةِ فهم الفاعلين والجماهير المُستهدفة وكيفية التواصل معهم، وبواقعِ أنّ مُحتوى وأساليب ووسائل التواصل تُساهمُ في رسم وتصميم الروابط الاجتماعيّة والعوالم التي يعيشُ فيها الناس. وقد بدأ هذا المفهوم مع مُفكّري مدرسة شيكاغو الأميركيّة لعلم الاجتماع في عشرينيّات وثلاثينيّات القرن العشرين، الذين اعتبروا أنّ «وسائل الإعلام والتواصل والاتّصال لها دورٌ مركزيٌّ في رسم وتصميم وتشكيل الحياة الفرديّة والجماعيّة، وفي ترسيخ الهويّات والمُجتمعات»31. أمّا اليوم فيُعرِّفُ البعضُ التواصلَ الاستراتيجيّ على أنّه التخطيطُ المُمنهجُ لأهدافِ وسياساتِ وأنشطةِ تدفّقِ المعلومات داخل الكيان أو المُنظّمةِ من جهة، وباتّجاه بيئاتها الخارجيّة من جهة أخرى. أيّ أنّه مظلّةٌ شاملةٌ لجميع أنشطةِ التواصلِ، بما فيها التواصلُ المؤسّسيّ، التواصلُ الداخليّ، التوعية، التسويق، العلاقات العامة، والإعلام والتواصل الإعلاميّ بشقيْه التقليديّ والرقميّ32 .

يُستثمرُ مفهومُ التواصلِ الاستراتيجيّ من قبل الشركاتِ والمؤسّسات، لاسيما الاقتصاديّة، والتجاريّة، والتسويقيّة، لتحقيق أهدافٍ عديدةٍ أهمّها تسويق مُنتجاتها وخدماتها وبناء صورة علامتها التجاريّة. حيث أنّ الشركات الكبرى في القطاع الخاص لاسيما تلك المُتعدّدة الجنسيّات أو التي تُمارس نشاطاتٍ إقليميّةً ودوليّة، وكذلك الأمر بالنسبةِ إلى المنظمات غير الربحيّة والمنظمات غير الحكوميّة والمنظمات الاجتماعيّة والإنسانيّة التي تُمارس نشاطاتٍ عابرةً للحدود، فإنّها على اختلاف أهدافها الاستراتيجيّة، تتلاقى حول أهميّةِ اعتماد نهجٍ للتواصلِ مع مُختلف المجتمعات والجماهير المحليّة والخارجيّة المُستهدفة من نشاطاتها الأساسيّة. ولذلك تُصبحُ صياغةُ استراتيجيّة للتواصلِ الاستراتيجيّ أمرًا حيويًّا يُتيحُ القدرةَ على صياغةِ الرسائلِ المُناسبةِ في الوقتِ المُناسبِ إلى جمهورٍ مُحدّدٍ وبأساليب وأدوات تتوافقُ مع ثقافةِ وقِيَم كلِّ مُجتمعٍ وجمهور. أمّا أكثرُ المُستثمرين لأهميّة التواصل الاستراتيجيّ فهي الدول والحكومات والمسؤولون الحكوميّون والرسميّون المعنيّون بشؤون السياسات المحليّة داخل الدولة من جهة، وشؤون السياسة الخارجيّة والعلاقات الدوليّة والدبلوماسيّة في الدول من جهةٍ أخرى. ففي هذا المجال يُصبحُ تأثيرُ التواصلِ الاستراتيجيّ أكثرَ عمقًا وتعقيدًا وحساسيّةً بفعلِ ارتباطه بالشؤون السياسيّة والجيوسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وأكثر خطرًا أيضًا، بفعل ارتباطه بالشؤون الأمنيّة والعسكريّة، وتأثيره على أزمات العالم وصراع المحاور. ويُتقنُ مُحترفو مُمارسة التواصل والاتّصال الاستراتيجيّ فنّ صياغة الرسائل وكيفيّة إيصالها للجماهير المُستهدفة أو المُتلقّي، ويُمكنهم بفضلِ قدراتهم وخُبراتهم التفاعل مع مُجتمعاتٍ وأفرادٍ من ثقافاتٍ مُتنوّعةٍ، عبر مجموعةٍ متنوّعةٍ من قنوات ووسائل التواصل والاتّصال، ما يُتيح لهم إمكانيّة مواجهة التحديّات والتهديدات التي تعترض الأهداف الاستراتيجيّة، وتعزيز الفرص التي تدعم تحقيقها. وقد زادت أهميّةُ هذا الأمر بنتيجة الثورة التكنولوجيّة الرقميّة والذكاء الاصطناعيّ، التي أتاحت لأيّ شخصٍ القدرةَ على التواصل والاتّصال، بالتقنيّةِ والأسلوبِ والشكلِ الذي يُريدُه، والتوقيتِ الذي يُريدُه، وحولَ القضية التي يُريدُها، مع أيّ مُتلقٍّ أو جهمورٍ مُستهدفٍ، في أيّ بقعةٍ من العالم. علمًا أنّ هذه الثورة التي أتاحت فرصًا إيجابيّةً لمسؤولي التواصلِ الاستراتيجيّ (Strategic Communicators) أو العاملين بهذا المجال (Practitioners)، فرضت في المقابل، تحدّيات كبيرةً عليهم، وعلى الجمهور المُستهدف، وعلى المراقبين والمُحللّين، أهمّها كيفيّة كشف وتحديد ومكافحة المعلومات الخاطئة False information، المعلومات المُضلِّلة Misinformation، المعلومات المُضلِّلة – المغلوطة (الكاذبة) Disinformation، والمعلومات الضارّة Malinformatio33. فماذا تعني هذه المُصطلحات وما مدى تأثيرها على مسار التواصل الاستراتيجيّ؟

إنّ مُصطلحَ المعلوماتِ الخاطئةِ False information، هو المُصطلحُ العام الذي يُشيرُ إلى معلوماتٍ غير دقيقةٍ وغير صحيحةٍ ولا تستندُ إلى أيّ حقيقةٍ ثابتةٍ، نُشِرت قصدًا أو عن غيرِ قصد، إمّا دونَ أيِّ نِيّةٍ سيّئةٍ هادفةٍ إلى التضليل أو إلحاق الضرر، أو أنّه لا أهميّة وقدرة لها على التأثير والتضليل وإلحاق الضرر، أو أنّها نُشِرَت عمدًا بهدفِ التأثير والتضليل وإلحاق الضرر بقضيةٍ أو كيانٍ ما، وهي ذات أهميّةٍ وقدرةٍ على تحقيق ذلك. وبناءً عليه، يُشير مُصطلحُ المعلومات المُضلِّلة Misinformation، إلى المعلوماتِ الخاطئةِ التي لا يكونُ القصدُ منها إلحاقَ الضرر، ولكنّها في مسارِ التواصلِ الاستراتيجيّ قد تُؤدّي إلى تشويهِ الرسالةِ المطلوبِ نقلها، وإرباك المُتلقّي والجمهور المُستهدف، وإحراج الطرف المُرسِل. بينما يُشيرُ مُصطلحُ المعلومات المُضلِّلة – المغلوطة (الكاذبة) Disinformation، إلى المعلوماتِ الخاطئةِ التي تتمُّ فبركتها عمدًا وتقديمها بقصدِ التلاعبِ بالحقائق والتشويش عليها، وتضليلِ المُتلقّي، بغية إنتاجِ ضررٍ وإلحاقه بشخصٍ أو مجموعةٍ سياسيّةٍ أو اجتماعيّةٍ أو مُنظمةٍ أو دولةٍ، أو بغية توجيه الأفراد، المجتمع، الرأي العام، المُنظمات، و/أو الدول في الاتّجاه الخاطئ. أمّا مُصطلحُ المعلومات الضارّة Malinformation فيُشيرُ إلى معلوماتٍ مُستَنِدَةٍ إلى حقائق، لكنّه جرى تضخيمُها عمدًا وطرحُها في إطارٍ مشبوهٍ يهدفُ إلى التأثير في مسارِ التواصل بحدّ ذاته، أو في المُتلقّي والجمهورِ المُستهدف، وإلحاقِ الضررِ والأذى بطرفٍ أو كيانٍ أو قضيةٍ ما، علمًا أنّ لا مُبرّرَ لطرح ِهذه الحقائق ونشرها علنًا، وهي لا تخدم المصلحة العامة أو المصلحة العليا للدولة على سبيل المثال34.

يُعرِّفُ حلفُ الناتو التواصلَ الاستراتيجيّ على أنّه «الاستخدامُ المُنسّقُ والمُناسب لأنشطةِ وقُدرات التواصل والاتّصال التابعة للناتو لدعم سياسات وأهداف وأنشطة الحلف». وتشملُ وسائل التواصل المُستخدمة، فضلًا عن الوسائط التقليديّة الشفهيّة أو المكتوبة كالمتحدّث الرسميّ، اللقاءات، الحوارات المباشرة، البيانات الرسميّة، الصحف، الراديو، والتلفزيون، الوسائط الرقميّة كالمواقع الإلكترونيّة Websites، الصحف الإلكترونيّة، المُدوّنات، منصات ووسائل التواصل الاجتماعيّ... وبشكلٍ عام، يُعتَبَرُ وسيلةَ أو إشارةَ تواصلٍ عن قصدٍ أو غير قصد، كلُّ ما يسمعه ويراه المُتلقّي (دول، مجتمع محليّ، منظمات دوليّة، رأي عام عالميّ...) من أقوالٍ وتصرّفات يقوم عبرها مُمثّلو الكيان المعني بإيصال الرسالة (دولة، جيش، منظّمة، مؤسّسة...). مع الإشارة إلى أنّ الأفعال والتصرّفات والأقوال العفويّة تُعبّرُ بكثيرٍ من الأحيان عن النوايا وتُظهرها بقوّةٍ أكبر من البيانات الرسميّة والكلمات المدروسة. وفي هذا السياق، نذكرُ أنّ ضمان فعاليّة التواصل الاستراتيجيّ ترتبطُ بالاستخدام المُمنهج للوسائل بُغية إيصال الرسائل المُتّسقة. وبما أنّه في السياسة عامةً والعلاقات الدوليّة خاصةً، يستحيلُ عدمُ التواصل، فإنّ كلّ ما نقومُ به أو لا نقومُ به، وكلّ ما نقولُهُ أو لا نقولُهُ، يُعبِّرُ عن رسالةٍ تُنقَلُ إلى طرفٍ ثانٍ مُستَهْدَفٍ من الرسالة. فمثلًا، إذا لم نتناولْ موضوعًا ما، فإنّنا نُخبرُ العالمَ أنّنا لا نهتمُّ به. لذلك، يتطلّبُ التواصلُ الاستراتيجيّ الفعّال فهمَ وتحليلَ الجمهورِ المُستهدف Target Audience، وتحديدَ الطريقةِ الأمثلِ لإيصال الرسائل والمعلومات إليه. بناءً عليه، إنّ الغاية النهائيّة من مفهوم التواصل الاستراتيجيّ تكمنُ في استخدامِ القنواتِ المُناسبةِ لإيصالِ الرسالةِ الصحيحةِ المُناسبةِ، في الوقتِ المُناسبِ، إلى الجمهور المُستهدفِ أو المُتلقّي المُناسب، بطريقةٍ مُمنهجةٍ، شاملةٍ، وهادفةٍ، تُعزِّزُ فرصَ تحقيقِ الأهداف الاستراتيجيّة للكيان المعني بالتواصل35.

 

ثالثًا: أهميّة صياغة استراتيجيّة للتواصل الاستراتيجيّ الرسميّ السياسيّ والحكوميّ

تنطلقُ استراتيجيّة التواصل الاستراتيجيّ بشكلٍ عام، من الأهداف الاستراتيجيّة للكيان أو المُنظّمة، والتي منها تُستخرَجُ رؤيةُ وأهدافُ التواصل، ثمّ تَنبثقُ من الأخيرةِ السرديّة والرسائل المركزيّة، التي بدورِها تُتَرجمُ وتُضَمّنُ في الخُطط والمشاريع التواصليّة المُناسبة. أمّا الانتقالُ من المستوى الاستراتيجيّ إلى المستوى «التكتيكيّ» فيتمثّلُ بالفعاليّات والبرامج والأنشطةِ قصيرةِ المدى، التي تُنفَّذُ عبر القنواتِ والمنصات والوسائل المُناسبة في إطارٍ ومسارٍ متَّسقٍ ومنَسَّقٍ، بما يدعمُ انتشارَ وتأكيدَ السرديّة ورسائلها، ويضمنُ تعزيزَ فرصِ تحقيقِ الأهدافِ واستمراريّة العمل، فضلًا عن ضمان جهوزيّة وفعاليّة الاستجابةِ لأيّ أزمةٍ قد تحتاجُ تحرّكًا تواصليًّا داخل الكيان أو باتّجاه بيئاته الخارجيّة36.

ويتمثّلُ التواصلُ الاستراتيجيّ في ميدان العلاقات الدوليّة بالإجراءات التي ترتبطُ بشكلٍ أساسيٍّ بالتصريحات والادّعاءات وإعلانِ المواقف من قبل طرفٍ في مُقابلِ ردود الطرفِ الآخر بتصريحاتٍ وادّعاءاتٍ وإعلانِ مواقف مضادة. وكذلك من خلال استخدام التواصل الاستراتيجيّ، يُمكنُ للحكومةِ أن تخفي معلوماتٍ عن مواطنيها، لتغطية إخفاقاتها أو العبث بالحقائق والتلاعب بها وفبركة صورةٍ إيجابيّة غير واقعيّة حول مسألةٍ ما. وقد تعمدُ بعض الحكومات إلى تكليفِ شركاتٍ من القطاع الخاص للقيام بهذه الوظيفة على الصعيد المحليّ، وإدارة شؤون العلاقات العامة وإدارة التغطية الإعلاميّة، ومواجهةِ وسائل الإعلام التي قد تنتقدُ السلطة. لذلك، وكما للعلاقات الدبلوماسيّة أصول وبروتوكولات وأخلاقيّات، للتواصلِ الاستراتيجيّ أيضًا معايير أخلاقيّة قد تسقطُ خلال الأزمات والتوترات، ويُصبحُ الخطاب الدوليّ عرضةً للتشويش والتضليل، وتلجأُ بعض الدول أو الجهات غير الحكوميّة إلى نشر أنصاف الحقائق والمعلومات المُضلِّلة والمغلوطة والضارّة. الأمرُ الذي يفرضُ على الدولة المُستَهْدَفةِ من هذه الممارسة تحدّي تجنّب الوقوع في الفخّ الأخلاقيّ المُتمثّلِ بمُحاولةِ جرّها للردّ بالمثل. مع الإشارة إلى أنّ المصداقيّة والشفافيّة ومواءمة الأقوال والأفعال مع القِيَمِ الأخلاقيّة مبادئ أساسيّة في التواصل الاستراتيجيّ الناجع، فيما الكذب والتضليل سرعان ما يُكشَفُ، وتصبحُ تكلفته على من مارسَهُ أكثر تأثيرًا وخطرًا. من جهةٍ ثانية، لا بدّ من الإشارة إلى تأثيرِ عدمِ التوازن بين الجهات الفاعلة في مجال التواصل الاستراتيجيّ في ميدان العلاقات الدوليّة، نتيجة فرق الإمكانات والقدرات بين الدول. حيث أنّ حلّ هذه القضية يكمنُ في القدرة على استخدام «التكتيكات التواصليّة» Communicative Tactics المُناسبة (بما فيها الأدوات الخطابيّة كالسرديّات والروايات والرسائل المُتّسقة)، وعدم بذل الجهد في «صراع تواصل» لا يتماشى مع الهدف الاستراتيجيّ على المدى الطويل، بمعنى عدم هدر الوقت والإمكانات على «مواجهة» السرديّات والروايات والرسائل المُعادية في المدى القصير، وذلك بغية عدم تحمّل التكاليف والتأثير على مكانة الدولة في المدى الطويل. ولذا يتوجب على العاملين في هذا المجال، سواء كانوا رسميّين أو متعاقدين، أن يُدركوا أهميّة التركيز على مسار التواصل الذي يستندُ إلى الأطرِ والقِيَم الأخلاقيّة، بدل الانجرار خلف مواجهةٍ خطابيّةٍ تكتيكيّةٍ في بيئةٍ إعلاميّةٍ مُعقّدة37.

 

رابعًا: مفهوم التأطير السياسيّ Political Framing ودوره في التواصل الاستراتيجيّ

كلمةُ Frame باللغة الإنجليزيّة، إذا أتت بصيغة اسمٍ The Frame، فقد تعني إطارَ الصورة أيّ ما يُحيط بالصورة، أو إطارَ المنزل أيّ الأساس الذي يُوفّر التدعيم الأساسيّ. أمّا إذا أتت بصيغة فعلٍ To Frame، فقد تعني تأطيرَ استجابةٍ، تأطيرَ سياسةٍ، أو حتّى توريطَ شخصٍ بريءٍ بقضيةٍ ما (Frame an innocent man). لكن في المحصّلة تشتركُ هذه التفسيرات في مسألةِ أنّ التأطير هو القيامُ بتحديدِ، أو إحاطةِ، أو هيكلةِ، أو هندسةِ حالةٍ أو كيانٍ ما أو شيءٍ تابعٍ له أو مُرتبط به. وفي العلوم الاجتماعيّة، يُعرَّفُ الإطارُ على أنّه فكرةٌ تنظيميّةٌ مركزيّةٌ أو خطٌّ سرديٌّ يُوفّرُ معنى لسلسلةٍ من الأحداث المُتتالية، ويربطُ في ما بينها. فيما علماءُ التواصلِ السياسيّ يُعرّفون التأطيرَ على أنّه اختيارُ وإظهارُ بعضِ جوانبِ الأحداث أو القضايا، وربطُها ببعضها البعض بهدفِ تقديم وتعزيز والتسويق لحدثٍ، أو تفسيرٍ، أو تقييمٍ، أو حلٍّ مُعيّن. فتستغلُّ النخبُ السياسيّةُ الأطرَ في محاولةٍ لتقديم تعريفٍ مُعيّنٍ لمسـألةٍ أو مشكلةٍ ما، أو خلال محاولةِ التسويقِ لدعم إقرارِ مشروعِ قانونٍ ما، أو لجذبِ الناخبينَ خلال حملةٍ انتخابيّةٍ على سبيل المثال. فيما يستخدمُ الصحفيّون الأطرَ عندما يُوَظّفون عناوينَ موضوعاتٍ واسعةِ النطاق لهيكلةِ وتصنيفِ وترتيبِ بعض الوقائع. بينما يُفسّرُ المواطنون القضايا السياسيّة استنادًا إلى أطرٍ ومبادئ عامةٍ تُساعدهم في هيكلةِ وتنظيمِ العالم السياسيّ. ولأنّ القضايا التي تتناولُها الحكومة، والأحداث التي تُحرّكُ الحياةَ السياسيّةَ دائمًا ما تكون خاضعةً لتفسيراتٍ مُتعدّدة، تُوَفِّرُ الأطرُ اقتراحاتِ مُقارباتٍ حول كيفيّةِ التفكير في السياسة، ممّا يُساعدُ المواطنين على فهمِ هذه القضايا والأحداث بطرقٍ مُحدّدة. فالأطرُ وسائلٌ أو أجهزةٌ بلاغيّةٌ تربطُ بين المفاهيم، بمعنى أنّه إذا اعتبرنا المعلومات مجموعةً من النقاط، فإنّ الأطرَ هي التي تربطُ بين هذه النقاط وترسم مسارها بشكلٍ منهجيّ38.

بناءً عليه، يتبيّن لنا أنّه عند الخوضِ بأيّ تفاصيلٍ خارج «الإطار» المرسوم، تُصبحُ المعلومات خارج السياق (Hors Sujet)، وعند التعمّق في الموضوع وفي عمق «الإطار» المرسوم بطريقةٍ مُبالغٍ بها وغيرِ ضروريّة، تُصبحُ المعلومات تفصيليّةً أكثر من المطلوب، وتُصبحُ مُعالجتها هدرًا للوقتِ والجهد. وفي الحالتيْن يطولُ مسار تحقيق الأهداف المرجوّة. ونستنتجُ بالتالي مدى أهميّة وضع الرؤية والمُقاربة والسرديّة الوطنيّة المُناسِبة، والإطار السياسيّ المُناسب، والتأطير العلميّ، والمنهجيّ، والموضوعيّ، والأخلاقيّ لاستراتيجيّة التواصل الاستراتيجيّ، بُغية ضمان فعاليّة مسار تعزيز فرص تحقيق أهداف استراتيجيّة الأمن القوميّ.

أمّا بالنسبة إلى التساؤل الذي قد يُطرحُ انطلاقًا من مقولة أنّه للضرورة أحكام: متى تضطرُّ الدولة بنتيجة البراغماتيّة وتنفيذًا للمصلحة العليا، إلى اعتبارِ مسألةِ التلاعب بالحقائق وتضليل مواطنيها أمرًا أخلاقيًّا في مسار التواصلِ الاستراتيجيّ؟ فنُجيبُ أنّ هناك حقيقةٌ ثابتةٌ لا يُمكنُ التلاعبُ بها، وهي أنّ الحكومات مسؤولةٌ أمام المواطنين الذين تحكمهم، وإذا تلاعبت بإدراكهم وفهمهم لما يحدث بشكلٍ عام، أو ضلّلتهم حول أدائها أو حول قراراتها على صعيدِ السياسة المحليّة أو الخارجيّة، فإنّها تُقوّضُ بذلك مبدأ المُحاسبة والمساءلة وتهدمُ الثقة القائمة بينها وبين شعبها، وتضربُ بالتالي جوهر الممارسة الديمقراطيّة، وتَنصُبُ فخًّا لنفسها ولاستقرار البلد أمنيًّا وسياسيًّا، لاسيما أنّ مشاركةَ المواطنين في الحياة السياسيّة أمرٌ حيويٌّ في الدولةِ الديمقراطيّةِ الحديثة، ومن حقّهم مدحُ الدولة وثناؤها أو لومُها وتحملُيها المسؤوليّة خاصةً في زمن الاستحقاقات المصيريّة كقضايا الحرب والسلام والأزمات الاقتصاديّة. وفي حال وقعت الحكومة بهذا الفخّ، فإنّها تُشوّهُ صورتها وصورة الدولة على الصعيد الخارجيّ، وتُقوّضُ قدرتها على صعيد التواصل الاستراتيجيّ في ميدان العلاقات الدوليّة.

 

خامسًا: مسؤولو التواصل الاستراتيجيّ والجمهور المستهدف

يتولّى مسؤولو التواصلِ الاستراتيجيّ والمُتخصّصون به Strategic Communicators في الدولة صياغةَ استراتيجيّة التواصلِ الاستراتيجيّ والخطط الفرعيّة المُناسِبة، ويُحدّدون الاتّجاه العام للسرديّة الوطنيّة طويلة المدى، وذلك بهدف ضمان استمراريّة التواصل مع المُتلقّي والجمهور المُستهدف، وإيصال الرسائل الاستراتيجيّة التي تُمثّلُ الرؤية الوطنيّة والسياسات العامة لهذه الدولة. ولتحقيق هذه الغاية، يعتمدُ المُتخصّصون، بعد تحديد الأهداف الواقعيّة القابلة للقياس والتقييم، مُقاربةً وطنيّةً منهجيّةً وتقنيّات علميّة، ويُخصّصون الموارد اللازمة والوسائل المُناسِبة لخلق الأفكار، وصياغة السرديّات والروايات والرسائل، على شكلِ أقوالٍ وأفعال. وبعد مُصادقةِ السلطةِ صاحبةِ الصلاحيّةِ على الاستراتيجيّة، يُحدّدُ مسؤولو التواصل آليّات التنفيذ والجدول الزمنيّ، ثمّ يُتابعون ويُوَجِهّون مسار عملية التنفيذ والبرامج والنشاطات المُنبثقة عن الخطط الموضوعة، وبعدها يُقيّمون النتائج وردود الفعل والتأثيرات لتحديد ما إذا كانت الأهداف والغايات قد تحقّقت. فوظيفةُ مسؤولي التواصل على المستوى الحكوميّ والرسميّ هي تقديمُ المشورة ورفع التوصيات إلى السلطات صاحبة الصلاحيّة، ومساعدةُ الجمهورِ المحليّ أو الأطراف الدوليّة على تلقّي وفهم رؤية الحكومة وأولويّاتها. وهم على الصعيد الداخليّ، يُزوّدون المواطنين بالمعلومات والمُعطيات والإرشادات المُتعلّقة بحقوقهم وواجباتهم وكيفيّة استفادتهم من الخدمات العامة ودورهم في المحافظة على الاستقرار المُجتمعيّ والسلم الأهليّ واتّباعهم حياةً آمنةً وصحيّةً ومُنتِجةً، كما يشرحون لهم السياسات العامة التي تنتهجُها الحكومةُ داخليًّا وخارجيًّا مع توضيح أسبابها ومُبرّراتها الموجبة، مع التركيز على مسألةِ تحديد وكشف ومكافحة المعلومات المُضلِّلة والمغلوطة والضارّة. الأمر الذي يُساهم في تعزيز فرص الدولة في تحقيق أهدافها الاستراتيجيّة ومصالحها الوطنيّة وحماية أمنها القوميّ. يتولّى العاملون في مجال التواصل الاستراتيجيّ ومُنفّذو الاستراتيجيّة Practitioners ثلاث مهام أساسيّة هي: أوّلًا، فهم الرؤية الوطنيّة للدولة وأهدافها الاستراتيجيّة ومصالحها الوطنيّة، والإطّلاع على أيّ تعديلات وتحديثات، ومعرفة نقاط القوّة والفرص التي يُمكن استثمارها على صعيد استراتيجيّة الأمن القوميّ وأدوات القوّة الوطنيّة. تحديدُ المُتلقّي والجمهور المُستهدف ودرس وفهم وتحليل سلوكيّاته، وتحديدُ وتشخيص الصعوبات والتحديات والتهديدات التي تعترض تنفيذ الاستراتيجيّة، وطرحُ البدائل المُتعلّقة باختيار مسار العمل لصياغة الرسائل المُناسبة وإيصالها. ثانيًا، فهم السياسات الحكوميّة المُعقّدة، وتحليلها، وتحديد الدور الذي يجب أن يؤدّيه التواصل الاستراتيجيّ مع المُتلقّي المُناسب والجمهور المُستهدف للمساعدة في تنفيذ هذه السياسات، وهنا لا بدّ من اعتماد أسلوب «التجربة والتعلّم» لتحسين الأداء باستمرار. ثالثًا، تنفيذ استراتيجيّة التواصل والخطط والبرامج والنشاطات المُنبثقة عنها، باستخدام القنوات والوسائل المُتاحة والمُناسبة، والعمل ضمن محاور جهد مُحدّدة لضمان اتّخاذ القرارات المدروسة والفعّالة وتحقيق النتائج المرجوّة39.

أمّا الجمهورُ المُستهدف Target Audience فيتمثّلُ بالأفراد، المجموعات، الدول، وسواها من الكيانات، التي يتمُّ التوجّه إليها بالرسائل المناسبة لتحقيقِ أهدافٍ مباشرةٍ، هي أهداف استراتيجيّة التواصل الاستراتيجيّ، والتي تُساهمُ بطريقةٍ مباشرة وغير مباشرة في تعزيز فرص تحقيق الأهداف الاستراتيجيّة للكيان الذي يُمثّل الطرف المُرسِل. ويُمكنُ التمييز بين نوعيْن من الجمهور، الجمهور النهائيّ Ultimate Audiences يُجسّد المُستهدفُ الفعليّ ومفتاحُ تحقيق الغاية النهائيّة للتواصل الاستراتيجيّ، فيما يُمثّلُ جمهور المؤثّرين Influencers Audiences الجمهور الوسيط المؤثّر في الجمهور النهائيّ.  أمّا الرسالة الاستراتيجيّة فتُعرَّف على أنّها الرسالة التي تهدف إلى إقناع المُتلقّي أو الجمهور المستهدف بحقيقةٍ ما، أو توجيهه لإعلان موقفٍ ما، أو اتّخاذ إجراءٍ ما، أو القيام بردّ فعلٍ ما. وهي ببساطةٍ تُمثّلُ ما يُريد المُرسلُ قولَه بطريقةٍ يُمكنُ للمُتلقّي أو الجمهورِ المُستهدف استيعابها والتفاعل معها40.

 

سادسًا: نماذج عن أجهزة حكوميّة مُتخصّصة في مجال التواصل الاستراتيجيّ

يُعرِّفُ جهازُ التواصلِ الحكوميّ البريطانيّ Government Communication Service مُهمّته على أنّها التأثيرُ في الجمهورِ المُستهدفِ لتحقيقِ المصلحة العامة من خلال حشدِ المواردِ اللازمة لتحقيق أهداف استراتيجيّة التواصل الاستراتيجيّ. وهذا الأمر يتطلبُ إنشاءَ جهازٍ تنظيميٍّ واعتماد وحدة تنظيميّة Organizational unity تربط هذا الجهاز بالمعنيّين بمسألة التواصل الاستراتيجيّ في الوزارات والإدارات والمؤسّسات الرسميّة، حيث يتمّ استخدام جميع أدوات التواصل والاتّصال المُتاحة بشكلٍ منسّقٍ وعلميٍّ ومنهجيٍّ، ووفق رؤيةٍ موحدّةٍ وسرديّةٍ وطنيّةٍ واحدةٍ تُمكّن الجهاز من خلق الرسائل والمُنتجات التواصليّة المُناسبة، بناءً على خطةِ عملٍ واحدةٍ تعملُ على مراحل زمنيّة، ويتمّ تقييمها بالشكل الصحيح41.

أمّا في لبنان وعلى المستوى الرسمي، كان الجيش اللبنانيّ كعادته من المؤسّسات الرائدة في مجال التواصل الاستراتيجيّ، وأنشأ لهذه الغاية مديرية التخطيط للتواصل الاستراتيجيّ في كانون الثاني 2022، وذلك بهدف إبراز الصورة الإيجابيّة للمؤسّسة العسكريّة وحماية سُمعتها، لكسب والحفاظ على تأييد وثقة المُجتمعين المحليّ والدوليّ. حيث أنّه لتحقيق هذا الهدف تقوم المديرية المذكورة بتوحيد جهود التواصل وأهدافه على صعيد الجيش عبر شبكة مُتماسكة ومُنسّقة من الاتّصالات المُحفّزة والفعّالة، نُواتها الوحدات المُرتبطة بالمعلومات42. وبما أنّ الجيش اللبنانيّ يُواجهُ تحدّياتٍ كثيرةٍ في زمن الأخبار المُضلِّلة والمغلوطة، باتت استراتيجيّة التواصل ضرورةً لبناء الثقة مع الجمهور ومواجهة حملات التضليل. وقد صدرت النسخة الثانية لهذه الاستراتيجيّة عام 2024، بناءً على خُلاصةِ تقاريرِ التقييم والمُستجدات الطارئة على بيئة المعلومات، والعبر المُستقاة من العام 2023. تمثّلت رؤية الجيش للتواصل الاستراتيجيّ في توحيد أهداف وحدات الجيش وجهودها في مجال التواصل، ومواءمة الأفعال والصور والأقوال، وتعزيز الثقة بالمؤسسة العسكريّة وصورتها الإيجابيّة، وتوضيح توجيهات القيادة وأهدافها وغايتها النهائيّة المُتمثّلة بأنّ «الجيش اللبنانيّ مؤسّسة وطنيّة جامعة، متماسكة، شفّافة، ومَوضع ثقةِ الشعب اللبنانيّ والمجتمع الدولي». ولتحقيق هذه الرؤية اعتمدت الاستراتيجيّة أربعة خطوطِ جهدٍ، هي حماية لبنان وسيادته، خدمة الشعب اللبنانيّ، المحافظة على التقاليد والقِيَم الوطنيّة، والاستعداد للقتال. واستُمِدّت هذه الخطوط من صلب المهمات المُوكلة إلى الجيش بموجب قانون الدفاع الوطنيّ 102/1983 (الدفاعيّة، الأمنيّة، والإنمائيّة). أمّا عنوان سرديّة التواصل الاستراتيجيّ لعام 2024 فهو «تعزيز الأمن والقدرة على تجاوز المحن والأزمات»، وقد انبثق عنه أربعة عناوين فرعيّة هي حماية السيادة وصون وحدة الأراضي اللبنانيّة، تعزيز الوحدة والتماسك الوطنيّ، تقديم المساعدة الإنسانيّة والإغاثة في حالات الكوارث، وتعزيز الشراكات الإقليميّة والدوليّة43.

 

الخلاصة

إنّ العلاقات بين الجماعات والكيانات قائمةٌ على مفاهيم ومبادئ عديدة، ومن بينها القوّة والتواصل. ولمّا كانت للقوّة أدوات تُستخدمُ لتحقيق المصلحة العليا للدولة وحماية الأمن القوميّ، فإنّ التواصل الاستراتيجيّ الحكوميّ الرسميّ هو أداةٌ تدعمُ الحكومة وأجهزتها ومؤسّساتها في تواصلها واتّصالها وتفاعلها مع المُتلقّين المعنيّين والجماهير المُستهدفة محليًّا وخارجيًّا، بما ينسجمُ مع الرؤية الوطنيّة والمصلحة العليا والقِيم الوطنيّة والأخلاقيّة. كل ذلك لتعزيزِ فرص تحقيقِ الدولة لأهدافها الاستراتيجيّة ومصالحها الوطنيّة وحماية أمنها القوميّ في زمنِ الأزمات وصراع المحاور والنظام العالميّ الفوضويّ، حيثُ تعترضُ أيَّ استراتيجيّة للأمن القوميّ صعوباتٌ وتعقيداتٌ وتحدّياتٌ وتهديداتٌ قد تمسُّ الكيان ووجوده.

تُمثّلُ هذه الأداة جزءًا من أدوات الأمن القوميّ (القوّة الوطنيّة) DIMEFIL، حيث حرف الـ I الأوّل يدلّ على القوّة والقدرات المُرتبطة بالمعلومات والإعلام والتواصل Informational Power. كما أنّها إحدى أدوات «القوّة الناعمة» التي تسعى إلى الاستقطاب والجذب والإقناع بدل الإكراه واستخدام الوسائل العسكريّة وخيار فرض العقوبات الاقتصاديّة. وبالتالي للتواصلِ الاستراتيجيّ دورٌ أساسيٌّ في التأثير في الرأي العام المحليّ، الإقليميّ، و/أو العالميّ، وسعي الدولة إلى تعزيز صورتها الإيجابيّة على المستوى الخارجيّ، فضلًا عن مساهمته في التأثير في سلوك الدول ومُقارباتها وسياساتها الخارجيّة تجاه بعض القضايا والملفات والأزمات، وإمكانيّة كسبِ دولةٍ ما لتأييد و/أو دعم دولةٍ أو مجموعة دول، و/أو منظمات دوليّة. فيما الاستراتيجيّة الوطنيّة للتواصلِ الاستراتيجيّ هي مُقاربةٌ شاملةٌ تقومُ على مبدأ الاستخدامِ المدروس والمُنسّق لوسائل وأدوات وقنوات التواصل الرسميّة والحكوميّة والوطنيّة، في القطاعيْن العام والخاص، لإبراز «الصورة» The image الإيجابيّة للدولة، وحماية سُمعتها Reputation، وتعزيز فرصِ تحقيقِ أهدافها الاستراتيجيّة ومصالحها الوطنيّة، من خلال إيصال مضمون الرؤية السرديّة الوطنيّة والتأثير في المُتلقّي والجمهور المُستهدف، ومكافحة استراتيجيّات التواصل والسرديّات المُعادية.

وقد حاولنا في هذه المقالة إلقاءَ الضوءِ على أهميّة قيام الحكومات بصياغةِ استراتيجيّةِ تواصلٍ استراتيجي وطني رسمي سياسي وحكوميّ، نظرًا لدورها المحوريّ في تعزيز حماية الأمن القوميّ. حيثُ تدرّجنا في القسم الأوّل من مفهومِ الأمن إلى مفهومِ الأمن القوميّ، وأوضحنا مدى حاجة الدول إلى إنشاءِ جهازٍ معنيٍّ بصياغةِ وتنفيذ «استراتيجيّة الأمن القوميّ»، التي تهدف إلى تحقيق المصالح الوطنيّة والأهداف الاستراتيجيّة للدولة. ولمّا كان التواصلُ مُفتاحًا أساسيًّا في التسويقِ الإيجابيّ ونسجِ العلاقات المُساعدة في تحقيق هذه المصالح والأهداف، استنتجنا في القسم الثاني مدى أهميّة التواصل الاستراتيجيّ والتأثير الإيجابيّ للتأطير السياسيّ الموضوعيّ في هذا المجال، ومدى حاجة الحكومات لإنشاءِ جهازٍ حكومي رسمي مُتخصّصٍ بالتواصلِ الاستراتيجيّ.

وبناءً على ما تقدّم، نُلخّصُ أدناه المسؤوليّة الأساسيّة للجهاز الحكوميّ الرسميّ المُتخصّص بالتواصلِ الاستراتيجيّ، والتي تتمثّل بوضع وتنفيذ أهداف الاستراتيجيّة الوطنيّة للتواصل الاستراتيجي:

أوّلًا، صياغة الرؤية التواصليّة والسرديّة والرسائل الوطنيّة الأكثر إقناعًا واتّساقًا، والتي تقوم على مبدأ مواءمة الكلمات والأفعال مع السياسات والاستراتيجيّات. حيث تُبنى هذه الرؤية على أساس الرؤية الوطنيّة الشاملة والمصلحة العليا للدولة، والفهم المُعمّق للديناميّات السياسيّة، الجيوسياسيّة، الاقتصاديّة، الاجتماعيّة والمُجتمعيّة، والثقافيّة والتاريخيّة للبيئات المؤثّرة المحليّة والإقليميّة والدوليّة. وعلى أساسِ المُقاربةِ الشاملة لنقاط القوّة والضعف من جهة، والتهديدات والفرص (المحليّة والخارجيّة) من جهة أخرى، بما يشمل كلّ مجالات الأمن القوميّ وأدوات القوّة الوطنيّة، وبما يضمن تعزيز مرونة الاستجابة والقدرة على التكيّف والصمود والتعافي في مواجهة أيّ تحدٍّ أو تهديدٍ أو كارثة، وبما يضمن الاستقرار الطويل الأجل على حساب المكاسب قصيرة الأجل، وتعزيز مبدأ العمل النشط الاحترازيّ الوقائيّ الاستباقيّ Preventive and Proactive، على حساب مبدأ العمل التفاعليّ القائم على بذل الجهود على ردّات الفعل Reactive، وذلك لتقليل احتمالات وقوع الأزمات.

ثانيًا، صياغة مقاربات وسرديّات فرعيّة وفق محاور جهد Axes of effort، تُحدَّدُ بعد دراسة وتحليل وتقييم كلِّ هدفٍ ومصلحةٍ من الأهداف الاستراتيجيّة والمصالح الوطنيّة التي تتضمنها استراتيجيّة الأمن القوميّ. وبناءً على هذه المقاربات والسرديّات ومحاور الجهد يتمُّ تحديد الجمهور المُستهدف أو الطرف المُتلقّي محليًّا وخارجيًّا، وصياغة الرسائل المُناسبة، وتحديد الأساليب والوسائل والأدوات المُناسبة، وتحديد التوقيت المُناسب، لإيصالها و/أو نشرها. ثمّ يتمّ رصد وتحليل ردود الأفعال والنتائج المُترتبة عن القيام بكلّ عمليّةٍ من العمليات المُحضّرة أو غير المُحضّرة، بغية إجراء التقييم اللازم وتعديل الاستراتيجيّة حيثُ يلزم.

ثالثًا، بناء الثقة بين مواطني الدولة في ما بينهم، وبينهم وبين حكومتهم من جهة، وفي ما بين القطاعين العام والخاص من جهة ثانية، وفي ما بين الوزارات والإدارات والمؤسّسات الحكوميّة من جهة ثالثة، وتعزيز العلاقات مع مُجتمعات ومواطني الدول الأخرى، وكسب تأييد ودعم الدول الشقيقة والصديقة في الاستحقاقات الإقليميّة والدوليّة أو خلال أحداثٍ محليّةٍ طارئة. وبناءً عليه، خلقُ علاقةٍ تفاعليّةٍ مع المُتلقّي أو الجمهور المُستهدف مبنيّةٍ على الرؤية والسرديّة والرسائل الموضوعة، واستثمارُ اتّفاقيّات التعاون والعلاقات الجيّدة مع الدول والحلفاء والمنظمات الدوليّة وغير الحكوميّة لتعزيز نقاط القوّة التواصليّة مع الجهات الخارجيّة، انطلاقًا من مبدأ السعي إلى تحقيق المصالح والأهداف المشتركة.

رابعًا، التنسيق والتعاون والتكامل في كلّ ما يرتبط بشؤون التواصل الاستراتيجيّ، على مستوى الحكومة وكلّ الوزارات والأجهزة والمؤسّسات المعنيّة، وبينها وبين مؤسّسات القطاع الخاص حيث يلزم، وذلك لكسر الحواجز التقليديّة لضمان الاستجابة الوطنيّة المُوَحّدة ضدّ أيّ تهديد. وبالتالي، تعزيز قدرة الاستجابة التواصليّة الوطنيّة خلال الأزمات، بما يُعرَفُ بإدارة التواصل خلال الأزمة Crisis Communication Management.

خامسًا، تعزيز القدرات الحكوميّة والرسميّة في مجال تحديد وكشف ومكافحة المعلومات المُضلِّلة والمغلوطة والضارة التي ينشرها المُخرّبون والخصوم والأعداء في الداخل والخارج، ومُعالجةُ تداعيات هذه الحملات بعرض الحقائق وتوضيح الصورة وإزالة التشويه والتضليل وتصويب مسار السرديّة والرسائل الوطنيّة الهادفة.

وأخيرًا، تعزيز الصورة الديمقراطيّة للدولة من خلال تكريس مبدأ الشفافيّة، والقدرة على الوصول إلى المعلومات، والمُشاركة، والمُساءَلة.

 

قائمة المراجع

المراجع باللغة  العربيّة

الكتب

1- الحايك.كلود، الاستراتيجيّة، كلية فؤاد شهاب للقيادة والأركان، بيروت، 2013

2- حسين.خليل، العلاقات الدوليّة، منشورات الحلبي، ط1، بيروت، 2011

3- خليفة.نبيل، جيوبوليتيك لبنان الاستراتيجيّة اللبنانيّة، مركز بيبلوس للدراسات، ط1، جبيل، 2008

4- خليفة.نبيل، لبنان في استراتيجيّة كيسنجر، مركز بيبلوس للدراسات، ط3، جبيل، 2008

5- السيد حسين. عدنان، نظرية العلاقات الدوليّة، مجد، ط3، بيروت، 2010

6- السيد حسين. عدنان، الجغرافيا السياسيّة والاقتصاديّة والسكانيّة للعالم المعاصر، مجد، ط 2، بيروت، 1996

 

المجلات والمستندات

1- مجلة الدفاع الوطنيّ اللبناني، العدد 126، تمّوز 2024

2- مجلة الجيش، العدد 458، شباط 2024

3- دليل إعداد الخطط الاستراتيجيّة، مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإداريّة، بيروت، كانون الثاني 2013

 

المواقع الإلكترونيّة

1- الموقع الإلكترونيّ الرسميّ لمنظمة الأمم المتحدة www.un.org

2- الموقع الإلكترونيّ الرسميّ للجيش اللبنانيّ www.lebarmy.gov.lb

3- الموقع الإلكترونيّ للموسوعة السياسيّة https://political-encyclopedia.org/dictionary

4- الموقع الإلكترونيّ لجريدة الرياض www.alriyadh.com

 

المراجع باللغة الأجنبيّة

الكتب

1-Perloff.Richard, The dynamics of Political Communication, Routledge, New York, 2014

 

المجلات

1-The official journal of the NATO Strategic Communications Centre of Excellence, Volume 2, Spring 2017
2-International Studies – 14 Quarterly, Oxford University Press, Vol. 11, June 1967

 

المواقع الإلكترونيّة

 

1- The official website of the Notre Dame University’s International Security Center https://ndisc.nd.edu
2- The official website of The White House www.whitehouse.gov
3- The official website of the office of the Director of National Intelligence www.dni.gov
4- The official website of Center for Strategic and International Studies https://defense360.csis.org
5- The official website of the Oxford University Press’s Dictionaries, Companions and Encyclopedias www.oxfordreference.com
6- The official academic website of the Oxford University Press https://academic.oup.com
7- The official website of the Encyclopedia Britannica www.Britannica.com
8- The official website of the College of Journalism and Communications - University of Florida https://onlinemasters.jou.ufl.edu
9- The official website of the British Government Communication Service https://gcs.civilservice.gov.uk
10- The official website of Harvard Kennedy School www.hks.harvard.edu
11- The official website of the Harvard Business Review Magazine https://hbr.org
12- The official website of the NATO STRATEGIC COMMUNICATIONS CENTRE OF EXCELLENCE https://stratcomcoe.org
13- The official website of Cambridge Dictionary https://dictionary.cambridge.org
14- The official website of the US Army War College Publications https://publications.armywarcollege.edu
15- The official website of the US Army Training and Doctrine Command www.tradoc.army.mil

 

الهوامش

1. خليل حسين، العلاقات الدوليّة، منشورات الحلبي، ط1، بيروت، 2011م، ص 5
2. القوميّة، مقالة نُشِرت بتاريخ 7/9/2020 على موقع https://political-encyclopedia.org/dictionary
3. Richard Perloff, The dynamics of Political Communication, Routledge, New York, 2014, P 28
4. Ibid. P 41
5. عبد الرحمن أسامه، الأمن القومي، مقالة نُشرت بتاريخ 13/7/2020 على موقع https://political-encyclopedia.org
6. عدنان السيد حسين، نظرية العلاقات الدوليّة، مجد، ط3، بيروت، 2010م، ص 95
7. فادي مخول، منهجية التخطيط الاستراتيجيّ المطلوبة لحماية الأمن الوطنيّ اللبنانيّ، مجلة الدفاع الوطنيّ، العدد 126، تمّوز 2024، ص 8
8. عدنان السيد حسين، الجغرافيا السياسيّة والاقتصاديّة والسكانيّة للعالم المعاصر، مجد، ط 2، بيروت، 1996م، ص 73
9. نبيل خليفة، جيوبوليتيك لبنان الاستراتيجيّة اللبنانيّة، مركز بيبلوس للدراسات، ط1، جبيل، 2008م، ص 20
10. نبيل خليفة، لبنان في استراتيجيّة كيسنجر، مركز بيبلوس للدراسات، ط3، جبيل، 2008م، ص 115
11. كلود الحايك، الاستراتيجية، كلية فؤاد شهاب للقيادة والأركان، بيروت، 2013، ص 1
12. دليل إعداد الخطط الاستراتيجيّة، مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإداريّة، بيروت، كانون الثاني 2013م، ص 54
13. Ken Favaro, Defining Strategy, Implementation, and Execution, article published on 31/3/2015 on the official website of the Harvard Business Review Magazine https://hbr.org
14. Strategy, published on https://dictionary.cambridge.org, accessed on 27/12/2024
15. فادي مخول، منهجية التخطيط الاستراتيجيّ المطلوبة لحماية الأمن الوطنيّ اللبنانيّ، مجلة الدفاع الوطنيّ، العدد 126، تمّوز 2024، ص 27
16. Chase Metcalf, Campaign Planning Handbook, published on 14/8/2024 on the official website of the US Army War College Publications  https://publications.armywarcollege.edu, p 5
17. فادي مخول، مرجع سابق، ص 28
18. DOD Dictionary of Military and Associated Terms, published on the official website of the US Army Training and Doctrine Command www.tradoc.army.mil, accessed on 27/12/2024
19. What is the Role of the National Security Advisor, published on 28/4/2022 on Notre Dame University’s International Security Center website https://ndisc.nd.edu/
20. National Security Council, www.whitehouse.gov, accessed on 8/11/2024
21. National Security Act of 1947, Public Law 235 of July 26, 1947, www.dni.gov, accessed on 7/11/2024
22. Stephen J. Hadley, The Role and Importance of the National Security Advisor, published on the Center for Strategic and International Studies website, https://defense360.csis.org, accessed on 8/11/2024
23. دليل إعداد الخطط الاستراتيجيّة، مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإداريّة، بيروت، كانون الثاني 2013، ص 55
24. Peter Byrd, Raison d’Etat, www.oxfordreference.com, accessed on 11/11/2023
25. دليل إعداد الخطط الاستراتيجيّة، مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإداريّة، بيروت، كانون الثاني 2013، ص 33
26. America Overcommitted: United States National Interests in the 1980s, by Donald E. Nuechterlein, published on the official academic website of the Oxford University Press https://academic.oup.com, accessed on 27/12/2024
27. فادي مخول، المرجع السابق، ص 14
28. Thomas W. Robinson, A National Interest Analysis of Sino-Soviet Relations, International Studies - 14 Quarterly, Oxford University Press, Vol. 11, June 1967, pp. 135-175
29. Communication, www.Britannica.com, accessed on 13/12/2024
30. Richard Perloff, The dynamics of Political Communication, Routledge, New York, 2014, P 30
31. Understanding Strategic Communications, published on 2/6/2023 on the official website of the NATO STRATEGIC COMMUNICATIONS CENTRE OF EXCELLENCE https://stratcomcoe.org/
32. عبدالرحمن السلطان، التواصل الاستراتيجيّ، نُشر بتاريخ 26/1/2020 على الموقع الإلكترونيّ لجريدة الرياض www.alriyadh.com
33. The Role of Global Strategic Communications in Diplomacy, published on 4/3/2024 on the official website of the College of Journalism and Communications - University of Florida https://onlinemasters.jou.ufl.edu
34. خطاب الكراهية – ما هو الفرق بين المعلومات الخاطئة والمعلومات المُضللة والمعلومات الضارة، منشور على الموقع الإلكتروني الرسمي لمنظمة الأمم المتحدة www.un.org، تاريخ الدخول 6/12/2024
35. Guz Kurzeja, Adding to the Armoury: Why Strategic Communication is a key weapon in both conventional and asymmetric military operations, Lebanese National Defense Magazine, Issue Number 115, Jan 2021
36. عبدالرحمن السلطان، التواصل الاستراتيجيّ، نُشر بتاريخ 26/1/2020 على الموقع الإلكترونيّ لجريدة الرياض www.alriyadh.com
37. Defence Strategic Communications, The official journal of the NATO Strategic Communications Centre of Excellence, Volume 2, Spring 2017
38. Richard Perloff, The dynamics of Political Communication, P 157
39. Clara Eaglen, Strategic Communication, published on the British Government Communication Service official website, https://gcs.civilservice.gov.uk, accessed on 5/12/2024
40. John Haber, Understanding Strategic Communications, Published on 17/2/2022 on Harvard Kennedy School website www.hks.harvard.edu
41. Clara Eaglen, Strategic Communication MCOM function guide, published on the British Government Communication Service official website, https://gcs.civilservice.gov.uk, accessed on 5/12/2024
42. مديرية التخطيط للتواصل الاستراتيجيّ، نُشر على الموقع الإلكتروني الرسمي للجيش اللبنانيّ www.lebarmy.gov.lb، تاريخ الدخول 9/12/2024
43. ندين البلعة خيرالله، استراتيجيّة التواصل 2024 النشاطات والصور تتكلّم ولكلّ دوره، مجلة الجيش، العدد 458، شباط 2024

 

 

Role of Strategic Communication in protecting National Security

Major Hussein Hamadeh

"National security" is a comprehensive concept with political, diplomatic, military, security, economic, and social dimensions. It can be described as the fact of manifesting the state's capabilities and measures to defend its sovereignty and protect its borders, territories, citizens (residents and abroad), economy, institutions, interests, identity, and values, aiming to achieve security, safety, and stability on all levels. On the other hand, the Strategy is the embodiment of the relationship between "idea and implementation", transitioning from current reality to a desired ultimate goal, in alignment with a specific and clear vision. Consequently, it is a "methodical" approach
expressed through plans, programs, projects, and activities that are prepared, coordinated, and implemented to achieve a final objective within a specific timeframe.
Therefore, a National Security Strategy (NSS), can be defined as a comprehensive conceptual framework through which the state highlights its priorities in protecting national security, its strategic orientations and objectives, defines its national interests, prepares the necessary means, and allocates the required resources to achieve them.
In this context, we noted that to enhance the chances of achieving the objectives of National Strategies, a strategy for Strategic Communication (StratCom) must be developed. We also pointed out that the need to analyze national security issues requires a cohesive structure with appropriate authorities, andfor this reason, states
have established advisory bodies, often linked to the head of the executive authority, commonly referred to as the National Security Council (NSC) or similar titles.
Communication is the exchange of Meanings through the exchange of information, ideas, and emotions among individuals using a shared system of symbols. This occurs through an interactive reciprocal process by which messages are transmitted from a sender to a targeted recipient. Political Communication is the process of using language and symbols by presidents, officials, politicians, parties, media, and citizens to create intended or unintended effects on political perceptions, attitudes, and behaviors of states, groups, and individuals, or the policies and stances of a particular state, public opinion, or community. On the other hand, Strategic Communication is defined as the systematic planning of goals, policies, and activities related to the flow of information within the organization, and towards its external environments. This concept is executed by Strategic Communicators and StraCom Practitioners. These individuals master the art of crafting messages and delivering them to audiences.
Since relations among states are based on power, interests, and communication, and since power has instruments that are used to achieve these interests and protect national security, the official governmental strategic communication is considered one of the instruments of national power, and specifically one of the "Soft Power" instruments. It supports the government and its agencies in communicating and interacting with targeted audiences domestically and internationally, in line with the national vision and ethical values. This process enhances the state’s opportunities to achieve its strategic objectives and national interests and protects its national security. To do so, StratCom plays a vital role in influencing local, regional, and international public opinion, enhances the state’s efforts to promote its positive image abroad, and also contributes to influencing the behavior, approaches, and foreign policies of other states regarding specific issues and crises. Moreover, it enables a state to gain the support and endorsement of another state, a group of states, or international organizations.
Based on the above, we highlight the importance of developing a National StratComStrategy by defining it as a comprehensive approach built on the principle of the deliberate and coordinated use of official, governmental, and national communication tools, in both the public and private sectors. Its purpose is to highlight the state’s positive image, protect its reputation, and enhance the opportunities to achieve its strategic objectives and national interests by delivering the national narrative vision, influencing the targeted audience, and countering adversarial communication strategies and narratives.

Le rôle de La Communication Stratégique dans la protection de la Sécurité Nationale

Commandant Hussein Hamadeh

La "sécurité nationale" est un concept global englobant des dimensions politiques, diplomatiques, militaires, sécuritaires, économiques et sociales.
Elle peut être définie comme l'ensemble des capacités et mesures adoptées par l'État pour défendre sa souveraineté, protéger ses frontières, ses territoires, ses citoyens (résidents et expatriés), son économie, ses institutions, ses intérêts, son identité et ses valeurs, en vue d'assurer la sécurité, la sûreté et la stabilité à tous les niveaux.
Par ailleurs, la stratégie représente le lien entre "l’idée et l’exécution", permettant de passer d'une situation actuelle à un objectif final souhaité, en accord avec une vision spécifique et claire. C’est une approche "méthodique" qui s'exprime par des plans, programmes, projets et activités, préparés, coordonnés et exécutés pour atteindre un objectif dans un délai déterminé.
Ainsi, la Stratégie de Sécurité Nationale (SSN) peut être définie comme un cadre conceptuel global dans lequel l'État détermine ses priorités en matière de sécurité nationale, ses orientations et objectifs stratégiques, identifie ses intérêts nationaux, et mobilise les moyens et ressources nécessaires pour les atteindre. Dans ce contexte, nous avons observé que, pour renforcer les chances de succès des stratégies nationales, une stratégie de communication stratégique (StratCom) doit être développée.

Nous avons également souligné que l'analyse des enjeux de sécurité nationale nécessite une structure cohérente avec des autorités appropriées.
C'est pourquoi de nombreux États ont mis en place des organes consultatifs, souvent rattachés au chef de l'autorité exécutive, généralement appelés Conseil de Sécurité Nationale (CSN) ou équivalents.
La communication est l'échange de significations par le partage d'informations, d'idées et d'émotions entre individus via un système commun de symboles. Elle repose sur un processus interactif et réciproque, où des messages sont transmis d'un émetteur à un récepteur ciblé. La communication politique, quant à elle, est le processus par lequel les présidents, responsables, politiciens, partis, médias et citoyens utilisent le langage et les symboles pour produire des effets intentionnels ou non sur les perceptions, attitudes et comportements politiques, ou sur les politiques et positions d'un État, de l'opinion publique ou d'une communauté.
D'autre part, la communication stratégique se définit comme la planification systématique des objectifs, politiques et activités liés au flux d'informations à l'intérieur d'une organisation et vers ses environnements externes.
Étant donné que les relations entre États reposent sur le pouvoir, les intérêts et la communication, la communication stratégique gouvernementale officielle est considérée comme un instrument de puissance nationale, plus précisément comme un outil de "Soft Power". Elle soutient le gouvernement et ses agences dans leur communication et interaction avec les publics ciblés, au niveau national et international, en accord avec la vision nationale et les valeurs éthiques. Ce processus renforce les chances de l'État de réaliser ses objectifs stratégiques, ses intérêts nationaux et de protéger sa sécurité nationale.
En conclusion, il est impératif de développer une Stratégie Nationale de StratCom, définie comme une approche globale reposant sur l'utilisation délibérée et coordonnée des outils de communication officiels et nationaux, dans les secteurs public et privé. Son objectif est de promouvoir l'image positive de l'État, de protéger sa réputation, et de maximiser les opportunités pour atteindre ses objectifs stratégiques et ses intérêts nationaux, en transmettant une narration nationale cohérente, en influençant les publics ciblés, et en contrant les stratégies adverses.