- En
- Fr
- عربي
قضايا اقليمية
كسب الحروب بدماء الآخرين
تؤكد شبكات التجسس الاسرائيلية التي تم اكتشافها أخيرًا في العديد من الدول العربية وابرزها مصر ولبنان، أن اسرائيل هي العدو الأول لهذه الدول مجتمعة، ولا تمييز بين دول أبرمت معها اتفاقيات سلام وأخرى لم تبرم هذه الإتفاقيات. فهي تستهدف أولًا وأخيرًا الأمن القومي العربي بكل أبعاده السياسية والإقتصادية والعسكرية والإجتماعية، الأمر الذي يستوجب من الجميع التعاون والتنسيق للوقوف بوجه هذا الغزو السرطاني الخفي والعمل على اجتثاثه من جذوره، ووقف كل أشكال التعاون الأمني مع اجهزة العدو من قبل بعض الأجهزة الرسمية، لأن في ذلك خطرًا كبيرًا داهمًا على وجود الأمة العربية ومصالحها وعلى كرامتها وروحها وتاريخها ومستقبلها.
ومعلوم أن الجاسوسية الإسرائيلية لا توفر صديقًا ولا حليفًا، حتى لو كان لهؤلاء الفضل الأول في بقاء اسرائيل واستمرار تفوقها الاقليمي مثل أوروبا والولايات المتحدة، ومجموع عدد الأشخاص والشبكات التي ساهمت في هذه الجاسوسية يكاد لا يحصى منذ ما قبل تأسيس الكيان الصهيوني وحتى أيامنا هذه. ويضاف الى هذا كله مجموعة ضخمة من مراكز الدراسات والأبحاث التي تساهم هي أيضًا في أعمال التجسس والتخريب والتشجيع على الانقسامات والفتن داخل العالمين العربي والاسلامي، وهذا ما نشهد تطبيقات كثيرة له في مصر والمغرب والجزائر والسودان والعراق ولبنان والأردن، وصولًا إلى تركيا وباكستان ودول آسيا الوسطى والدول الأفريقية الواقعة على خط مسار نهر النيل. وتعتمد الموساد ومراكز الأبحاث المشار إليها على مجموعة من النظريات والمخططات التي ترمي في آخر المطاف إلى تفتيت المجتمعات العربية عبر إثارة الفتن وتأجيج حالات التمرد والعصيان والتنازع، وذلك من خلال الاستعانة بالجماعات الإتنية والطائفية والمذهبية التي تعيش حالات من التذمر والغضب والنزوع نحو الانفصال والتقسيم.
والجدير بالذكر أنه منذ العام 1959 أصدر رئيس الموساد (المؤسسة المركزية للاستخبارات والمهمات الخاصة) رؤوفين شيلواح توصيات لإنشاء مركز لدراسة الوطن العربي يحمل اسمه، وتم ربطه ظاهريًا بجمعية الاستشراق الاسرائيلية، ثم ضمّه العام 1965 إلى جامعة تل أبيب. وكان هذا المركز يشتمل على عدة شعب وأقسام تتناول دراسة مصر والعراق وسوريا وجمع المعلومات عنها، وبالتالي تحليل هذه المعلومات وتقديمها إلى الموساد والسلطات السياسية التي ترعاها وتشرف عليها.
وكان هذا المركز الوحيد في اسرائيل حتى ما قبل حرب حزيران 1967، وقد شكل مصدر معلومات وتحليل أساسي في صناعة القرار الأمني في الدولة. والعام 1983 تم تغيير اسمه ليصبح مركز ديان لأبحاث الشرق الأوسط وأفريقيا. وبالتالي تم توسيع نشاطه وأقسامه البحثية وتطوير بنيته الإدارية والأرشيفية المعلوماتية. وكان أول مسؤول في ادارة هذا المركز البروفسور شمعون شامير واضع سياسة واستراتيجية «تحييد دور مصر من ساحة المواجهة» منذ وفاة الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر (1970). وقد كرس هذا المركز منذ ذلك الحين الجهد والوقت من أجل التغلغل في تفاصيل عدد من الدول العربية التي تعيش فيها جماعات اتنية وطائفية ومذهبية غير متوافقة، وتزويد الموساد بالتالي بتوصيات واستخلاصات تساعد هذا الجهاز التخريبي على انجاز عمليات اختراق تلك الجماعات والتحكم بنزاعاتها ومشاريعها، وتكييفها بما يلائم مخططات اسرائيل التقسيمية والتخريبية.
ومن بين الباحثين المساهمين في انشطة كهذه نجد أوري لوبراني ويهوديت رونين وعوفرا بانجو، الذين كانت لهم أدوار بارزة في إثارة الفتن الطائفية والمذهبية في العراق والسودان ولبنان ومصر، الأمر الذي استوجب الإشادة بهم من قبل العديد من المسؤولين الاسرائيليين مثل وزير الخارجية ليبرمان ووزير الاستخبارات دان مريدور ورئيس الموساد مئير داغان.
والجدير بالذكر في هذا السياق، أن مراكز الأبحاث الصهيونية المولّجة استقراء الأوضاع العربية واستكشاف مكنوناتها وخصوصياتها ونقاط ضعفها قد تجاوز عددها في الآونة الأخيرة الثلاثين مركزًا، ومن أبرزها: مركز يافيه (جافي) للدراسات الاستراتيجية في جامعة تل أبيب، وقد تولى رئاسته الجنرال أهارون ياريف، مركز بيغن - السادات التابع لجامعة بار ايلان، ومعهد أبحاث الأمن القومي وغيرها. وتحصل هذه المراكز جميعها على دعم غير محدود من قبل الهيئات الأمنية والسياسية الرسمية الاسرائيلية، وكذلك من قبل منظمات المجتمع المدني والجامعات والأحزاب. كما تحصل على دعم أميركي هائل بسبب تقاطع برامجها وأنشطتها مع برامج وأنشطة أميركية، على مستوى الادارة الأميركية وعلى مستوى مراكز البحوث والاحزاب والحركات الايديولوجية والدينية الأميركية، التي تسعى حثيثًا إلى تفتيت المنطقة العربية بشكل خاص، واقامة ما يسمى الشرق الأوسط الجديد المنزوع الهوية الثقافية والسياسية والاستراتيجية.
هذا على مستوى التفكير والتخطيط، أما على مستوى التنفيذ الميداني، فإن الموساد تقوم بالتعاون مع مراكز الابحاث هذه بجمع المعلومات الأمنية والاستخبارية عن المواقع العسكرية والأمنية التي تعتقد اسرائيل أنها قد تشكل خطرًا عليها مستقبلًا في أي مواجهة عسكرية، بالإضافة الى تدريب الجواسيس والعملاء على أحدث الاجهزة الالكترونية وعلى استخدام الحبر السري واساليب التمويه والخداع، ووضع علامات الكترومغنطيسية وفوسفورية على الأماكن الواجب استهدافها بالقصف، كما حصل في حرب تموز العام 2006، وكذلك زرع أجهزة التصوير والتنصت في مواقع حساسة كثيرة تم الكشف عنها أخيرًا في اكثر من مكان في لبنان من اقصاه الى أقصاه، وصولًا إلى جبل صنين وجبل الشيخ. وبناء على هذه الأنشطة، تمكنت الموساد من اغتيال العديد من رموز المقاومة والممانعة في العديد من الدول العربية. كما ساهمت أجهزة الموساد بإمداد الاجهزة الرسمية الاسرائيلية بسيل من المعلومات الاقتصادية والاستثمارية والسياحية والزراعية والصناعية، وشملت هذه المعلومات حركة البورصة وتداول الأوراق المالية وأنشطة رجال الأعمال في معظم الدول العربية. وافادت تقارير الأمن المصرية أن 86% من جرائم التهريب وتزوير العملات ارتكبها اسرائيليون، وانه قبل عامين تم احباط محاولات اسرائيلية تهريب أدوات تجميل وصبغات للشعر تحتوي على مواد مسرطنة إلى الدول العربية عبر أسواق أوروبا.
واخيرًا، لا يمكن التغاضي عما تقوم به أجهزة الموساد من أنشطة ظاهرة وخفية للتخريب الاجتماعي والإفساد الاخلاقي وترويج الدعارة والمخدرات وتجارة الرقيق الأبيض، وصولاً الى عبادة الشيطان، علمًا أن هذه الأنشطة تشكل جزءًا لا يتجزأ من استراتيجيات السياسة الخارجية الاسرائيلية، خصوصًا في ظل حكوماتها اليمينية المتطرفة التي تدفع باستمرار نحو تصعيد احتمالات الصراعات المسلحة بين اسرائيل والدول العربية المجاورة، ونحو الاستحصال على حصص دسمة من مشاريع تقسيم بعض الدول العربية والاسلامية، كما يحصل في العراق والسودان ومصر وسوريا وأفغانستان ولبنان. وقد تبين أنه من بين 870 وثيقة لدى المخابرات الاميركية بشأن اسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة، ثمة 810 وثائق مصدرها اسرائيل والموساد الاسرائيلي، وهذا يعني أن اسرائيل تريد كسب الحروب في المنطقة بدماء غيرها ومن دون أن تتكلف من أجل ذلك قرشًا واحدًا أو حتى طلقة واحدة.