العوافي يا وطن

ذكريات وأسئلة ساذجة
إعداد: د.إلهام نصر تابت

 

لمواسم قطاف الزيتون في الجنوب مساحة رحبة في ذاكرتي الطفولية، خصوصًا أن هذه المواسم كانت مناسبة لنساعد عمتي التي لم تُرزق بأولاد في جني المحصول، ولنحظى لديها بالكثير من الدلال. كنّا نرافقها إلى الحقل «ناحية القبلي» كما تُسميه. ذلك الحقل الذي يقع في الناحية الغربية للبلدة ويحتضن أشجار زيتون معمّر، وتردّد عمتي بفخر أنّ شجراته العتيقة هي من الأقدم في المنطقة، وقد زرع زوجها إلى جانبها أخرى بعد أن اشترى قطعة الأرض الملاصقة لحقله.
في واحدة من سنوات مطلع السبعينيات رافقتُها إلى الحقل كما في السنوات السابقة، وما إن وصلنا حتى أسرعتُ تلقائيًا إلى حيث كنّا عادة نضع ما نحمله من مياه وطعام تحت الشجرة الأكبر بين رفيقاتها، والتي كنّا نختبئ في تجويف داخل جذعها الضخم. وكم كانت صدمتي كبيرة عندما اكتشفتُ أنّ تلك الزيتونة باتت مجرد جذع أسود، أما رفيقاتها فليست أفضل حالًا!
ماذا حصل يا عمتي؟ قالت: «حرقتهن إسرائيل الله يهدّا...»
يومها لم أكن أفهم لماذا تحرق إسرائيل الشجر! لم يكن ليخطر ببالي أنّ الأشجار تستحق أن تُحرَق...
مشهد تلك الزيتونة الحزينة ورفيقاتها المعمرات ظلّ يرسم في بالي أسئلة كثيرة ساذجة لفترة طويلة. لقد رسا في ذاكرتي كلطخة سوداء ظلت مبهمة، إلى أن بدأت الحياة ترسم الأجوبة القاسية لتلك الأسئلة.
بين النيران التي أحرقت زيتون عمتي والنيران التي تُحرق اليوم حقول الجنوب وبساتينه وأحراجه بالفوسفور، أكثر من نصف قرن. نصف قرن تراكمت خلال سنواته وأيامه تجاربنا مع العدو محتلًّا ومرتكبًا أبشع الجرائم. وبين عمتي وأطفال فلسطين والجنوب اليوم، أجيال وُلدت وكبُرَت وسط جحيم القتل والدمار والحرائق. لكن ما نعيشه اليوم من غزة إلى الجنوب، يفوق أي جحيم كان يمكن تصوّره. تُرى ما الأسئلة التي يطرحها هؤلاء الأطفال اليوم؟ ما الذي يُفكّر به طفل يسير ميتًا إلى دفنه وما من قبر أو كفن يحتضن جسده المسلول عطشًا وجوعًا؟ كيف يمكن لمخيّلة أن تستوعب مشهد «مجزرة طحين» و«مجزرة سحور» ومئات من المجازر الأخرى، لبعضها أسماء ولمعظمها اسم واحد: إنسانية فقدت وجهها وباتت مجرد كلمة لا مرادف لها على أرض الواقع؟ كيف يُمكن لضمير أن يتلقّى كل تلك المشاهد المروّعة وكأنّها مجرد صور متحركة في لعبة إلكترونية بيد ساذج أو مجنون؟ وكيف لهذا العالم أن يظل مساحة ممكنة للحياة؟
لقد شكّلت الحرب العالمية الثانية صدمة في الوعي الإنساني كان لها تجليات كثيرة في التيارات الفلسفية والفكرية، وفي الحركات الشبابية. وكان التجلّي الأبرز في قيام الأمم المتحدة والإقرار بوجوب العمل للسلام وتلافي الحروب ومآسيها. لكن أين نحن من ذلك؟ أين العالم من قضايا السلام والعدالة والتنمية ومكافحة الفقر والجوع...؟
ربما هذه بمجملها أسئلة ساذجة أيضًا كتلك التي وُلدت في حقل عمتي.
أعود إلى عمتي، أتّصل بها للمرة المئة، وقد علمت أنّ معظم سكان البلدة التي تقطنها قد نزحوا. فأقترح عليها بإصرار شديد هذه المرة أن تأتي للعيش في واحد من بيوتها الكثيرة في بيروت. تردّ بالجملة إياها التي سمعتها سابقًا: «كل هالعمر ما تركت البيت، ما رح إترك هلق».
أحاول من جديد: «ألستِ خائفة؟ كيف تتدبّرين أمورك في الدواء والغذاء؟ ربما تتطور الأمور إلى الأسوأ بعد!» تُصر على موقفها: «للخوف، أكيد خايفة بس أنا عشت عمري، الطفالى عم يموتوا كل يوم. بيتي مليان من كل شي، والجيش ما عم يتركنا، كل كم يوم بيطلوا وبيشوفوا شو ناقصنا. أنا وهالبنت اللي عم تساعدني مدبّرين حالنا. الله يحميكن، انتبهوا على حالكن. والله يحمي هالجيش. مبارح إجوا طفّوا الحريقة بحقلة الزيتون عند أبو وديع، ومن كم يوم ساعدوا أبو سليمان تا يفلح أرضاتو». تصمت قليلًا، وقبل أن أودّعها تصفعني بسؤال: «بتتذكري قديش بكيتي لمن شفتي زيتوناتنا محروقين إنتي وزغيرة؟»
أتذكّر يا عمتي، أتذكّر... وأعلم أنّ الجيش لن يترككم. الله معك عمتي.

 

العوافي يا جيشنا.
العوافي يا وطن. وسلام يا ضمير العالم.