- En
- Fr
- عربي
كلمة رئيس الجمهورية
دعا الجميع الى عدم السماح بفتح الساحة اللبنانية للصراعات والتدخلات الأجنبية
في كلمته الى اللبنانيين عشية الاستقلال، أجرى رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان ما يشبه المراجعة لما حقّقه اللبنانيون من مكتسبات، وما اعترى مسيرة الوطن من عثرات بدءاً من العام 1943 وصولاً الى اليوم.
وشدّد العماد سليمان على أن المسؤولية الأهم في اجتراح الحلول المناسبة والثبات عليها، تبقى على عاتق اللبنانيين، وإليهم تعود المحافظة على المكتسبات السابقة والإنطلاق منها لوضع أسس الجمهورية الثالثة، محدّداً الأهداف التي ينبغي العمل لتحقيقها. في ما يلي نص رسالة رئيس الجمهورية الى اللبنانيين في الذكرى السابعة والستين للإستقلال.
أيها اللبنانيون واللبنانيات
كلما خفقت راية الوطن، في ذكرى استقلاله، في لبنان وفي دنيا الإنتشار الواسعة، هفّت إليها القلوب، وشخصت نحوها العيون، وصفّقت لها الأكفّ، مستعيدة محطات النضال المجيدة التي اجتازها قبلنا قادة وطنيون عبّدوا الطريق إلى هذا الإستقلال. وهو استقلال فتح أبواب التقدّم والترقي أمام أجيال متوثّبة يدفعها الطموح والتصميم والذكاء إلى احتلال المواقع الأمامية في مسيرات التحرّر والتحرير وميادين العلم والحضارة في الداخل وفي الخارج.
إنه لفخر عظيم أن ينتمي المرء إلى وطن متجذر في التاريخ، يضج بالحرية والديموقراطية ويمتاز بالتنوّع الفكري والحضاري، ما يدفعنا إلى المحافظة عليه وعلى استقلاله وحمايته من المخاطر والفتن، وإلى العمل على إعلاء شأنه وتثبيت كيانه.
لكنّ خفقات راياته اليوم، لا بدّ وأن تعيدنا إلى ملامسة الواقع وتحسّس مشاكله وتعقيداته، وإلى مواجهة الحقيقة المجردة. فبناء الإستقلال قد يبدو أحياناً متعثراً وغير ناجز حينما يسابقه استقلال الطوائف والمذاهب، وكلما تعرّض لاعتداءات وانتهاكات خارجية.
لقد تعاهدنا العام 1943 على أن نعيش معاً، بطوائفنا المتعددة، في إطار نظام ديموقراطي برلماني حر، وتوافقنا على ميثاق وطني هو في صلب فلسفة الكيان اللبناني، ما جعل من لبنان بلداً مميزاً بين الأمم، وأضفى عليه صفة البلد - الرسالة.
نجح لبنان، في السنوات الأولى للإستقلال، في فرض نفسه على الساحتين الإقليمية والدولية، فشارك في تأسيس جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة، وساهم بصورة أساسية في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ودافع عن قضايا الحق والعدالة وفي طليعتها قضية فلسطين. وبرز كبلد يحترم حرية الرأي والمعتقد والتعبير، وصاحب مشروع نهضوي على الصعيدين السياسي والثقافي.
وبالرغم من النكسة التي تعرّض لها ميثاقه الوطني وسلمه الأهلي العام 1958، والتي انتهت على قاعدة عدم تغليب فئة على أخرى، فقد عاد وشرع قادته في بناء دولة الإستقلال اعتباراً من مطلع الستينيات، واعتمدوا نهجاً يصلح في جوهره أساساً في الإصلاح الإداري وبناء المؤسسات وتحقيق العدالة الإجتماعية والإنماء المتوازن للمناطق، وأصبح شرف الإنتماء إلى الوظيفة العامة مصدر افتخار، وغدا للطبقة الوسطى موقع ومكانة على مساحة الوطن.
إلا أن دعائم دولة الإستقلال الثانية سريعاً ما تداعت بفعل الإقتتال الذي نشب اعتباراً من العام 1975، نتيجة لاعتبارات داخلية وإقليمية ودولية متعددة، أسأنا تقييمها وتدارك تداعياتها عن طريق الحوار الوطني المخلص البنّاء، مع ما استتبع ذلك من تدخّل لقوات ردع شقيقة. كما واجه لبنان سلسلة اعتداءات إسرائيلية مدمّرة واجتياحين لأراضيه العامين 1978 و1982. ولم تنته الحرب الداخلية فصولاً إلا بعد التوصّل إلى إقرار اتفاق الطائف واعتماد وثيقة الوفاق الوطني العام 1989.
لقد أدار لبنان شؤونه بعد إقرار اتفاق الطائف في ظل وجود ودور سوري مباشر.
وبعد انسحاب الجيش السوري العام 2005، وقع على عاتق الجيش اللبناني والقوات المسلحة واجب المحافظة على الإستقرار الداخلي ومحاربة الإرهاب والمشاركة في مواجهة العدو الإسرائيلي، كما تجلّى ذلك في نهر البارد وخلال عدوان تموز 2006 الذي تمكّن لبنان من دحره وعمل على محو آثاره.
وبالرغم من الإحباط الذي يشعر به كل لبناني نتيجة إخفاقاتنا السابقة في حماية استقلالنا وتثبيت دعائمه، لا بل ضياع مفهوم السيادة والإستقلال لدى الكثيرين، فإن الفرصة باتت وما زالت متاحة أمامنا منذ العام 2008، كي نثبت مقدرتنا على إدارة شؤوننا بأنفسنا، وأخذ الخيارات الصحيحة التي من شأنها أن تقودنا من جديد على دروب الأمن والإستقرار والعدالة والنمو. يجب علينا ألا ننسى بداية، أنه بالرغم من الإنتكاسات التي طاولت مسيرة الإستقلال في الصميم، فقد تمكنّا من المحافظة على إيماننا بلبنان وبوحدته ونظامه الديموقراطي الحر، وبعيشنا المشترك، ومستوى مناهجنا التعليمية وحيوية نظامنا المصرفي. وتسنّى لنا قبل كل شيء إنجاز تحرير معظم أراضينا المحتلة العام 2000، بتضامن جيشنا وشعبنا ومقاومتنا ومجمل قدراتنا الوطنية. وكانت الدبلوماسية اللبنانية قد نجحت اعتباراً من العام 1978، في تكريس اعتراف مجلس الأمن الدولي بحقنا في استعادة كامل أراضينا المحتلة بدون قيد أو شرط، ومن دون الحاجة لأي شكل من أشكال التفاوض مع العدو الإسرائيلي.
أما خلال السنوات الماضية فقد تمكنّا من توفير الإستقرار الداخلي، ومن الإلتزام بالإستحقاقات الدستورية، عن طريق إجراء انتخابات نيابية وبلدية حرة، ومن تشكيل حكومة وحدة وطنية، وإطلاق هيئة الحوار الوطني، واعتماد آلية واضحة للتعيينات الإدارية على قاعدة الكفاءة. ونجحنا في إعادة العلاقات اللبنانية - السورية المميزة إلى مسارها الصحيح وإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، والفوز بمقعد غير دائم في مجلس الأمن، وإعادة موقعنا ومكانتنا على الساحة الدولية، والحؤول دون حصول عدوان خارجي. وتمكنّا كذلك من الإستحصال على مواقف دولية داعمة لموقف لبنان الرافض توطين اللاجئين الفلسطينيين على أراضيه، والتواصل بصورة أفضل مع الإغتراب اللبناني، وتفادي تداعيات الأزمة المالية العالمية واجتذاب الودائع والرساميل، وتحقيق نسب نمو مرتفعة.
أيها اللبنانيات واللبنانيون
مع تسجيل امتناننا للأشقاء العرب في دعم لبنان وسلمه الأهلي وإمكان الإستفادة من مساعيهم الحميدة، فإن المسؤولية الأولى والأهم تبقى على عاتقنا نحن كلبنانيين، لاجتراح الحلول المناسبة والثبات عليها، كون الإرادة اللبنانية الحرة شرطاً أساسياً من شروط الاستقلال.
لذا يعود إلينا المحافظة على المكتسبات السابقة والإنطلاق منها لوضع أسس الجمهورية الثالثة، ونحن قادرون، إذا ما توافرت لدينا الإرادة السياسية الصلبة وجُنّدت الطاقات والقدرات في هذا السبيل. وهذا يستوجب العمل على تحقيق الأهداف التالية:
1- المحافظة على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي كأولوية، والتخلي عن الخطاب المتشنّج المثير للأحقاد. فالفتنة التي تم الحؤول دون وقوعها بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وشخصيات لبنانية أخرى، يجب ألا نسمح لها بأن تطل علينا بطرق وأوجه مختلفة، وأن تبلي لبنان بشرورها.
2- العمل من ضمن النظام وأحكام الدستور، والتمسّك بنهج الحوار واحترام المؤسسات الشرعية والإحتكام إليها في كل وقت وظرف لحل أي إشكال أو نزاع.
3- التمسّك باتفاق الطائف واستكمال تنفيذه، بدون تردد أو خوف، والتوافق معاً على توضيح الإشكالات الدستورية التي اعترت تطبيق بعض بنوده بعد أكثر من عقدين على اعتماده.
4- المشاركة في تحمل المسؤولية، بالطرق الأمثل، بعيداً عن التعطيل أو الاستئثار أو الإستقواء، وعدم الإكتفاء بتقاسم الحصص أو التنازع عليها، بل الإنتقال من منطق السلطة إلى منطق الدولة.
5- التمسّك بصيغتنا الحضارية والعمل على إنجاح التحدي اللبناني القائم على مشاركة جميع الفئات والطوائف في إدارة الشأن العام وليس على العيش المشترك فحسب؛ وهذه مسؤولية لبنانية وعربية على السواء. ذلك، في مواجهة سياسة إسرائيل القائمة على يهودية الدولة وسعيها لشرذمة العالم العربي، وتنامي الفكر الرافض للرأي الآخر والمعتمد نهج الإرهاب، إضافة لارتفاع أصوات جديدة في الغرب تشكّك في إمكان نجاح نماذج العيش القائمة على التعددية الثقافية. ومن المفيد التمسّك من ضمن هذا التوجه، بقاعدة المناصفة وتمثيل الطوائف، من دون تكريس الطائفية، وذلك باعتماد معايير الإلتزام الوطني وليس الطائفي.
6- متابعة الجهد الهادف لإرغام إسرائيل على الالتزام بالقرار 1701وتنفيذ كامل بنوده، مع الإحتفاظ بحقنا في تحرير أو استرجاع ما تبقى لنا من أراضٍ محتلة بجميع الطرق المتاحة والمشروعة.
7- المضي قدماً في عملية البحث والتوافق على استراتيجية وطنية دفاعية، ترتكز الى الدور الأساسي للجيش الذي أثبت فعاليته وجدارته في الدفاع عن الوطن خلال عدوان تموز 2006 وواقعة العديسة، وتأمين مستلزمات التسليح والتجهيز المناسبة له. وتالياً، استمرار عمل هيئة الحوار في أعمالها، إذ يبدو الإنكفاء عن هذه الهيئة في المبدأ، بمثابة انكفاء عن الذات وعن الخصوصية اللبنانية.
8- الإستمرار في تعزيز فرص النمو اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، وتحقيق الإنماء المتوازن وإقرار الخطط لقطاعات الإنتاج والخدمات ووضعها موضع التنفيذ، وتشجيع الحكومة على مضاعفة الجهد، بعيداً عن الجدل السياسي، التزاماً منها ومن جميع أعضائها بتحقيق أولويات المواطنين في الحياة الكريمة. ذلك أني أعي وأتحسس آلام الشعب وآماله، وحقّه في التنعم بالأمان والخدمات الأساسية في مجالات الماء والكهرباء والنقل العام والضمان الصحي والإجتماعي وضمان الشيخوخة، وغيرها من الحقوق البدهية من دون تمييز أو إبطاء.
9- إجراء الإصلاحات السياسية والقضائية والإدارية الضرورية لحسن سير عمل المؤسسات.
10- المضي في عملية السعي لتثبيت حق المغتربين بالإقتراع وتسهيل إجراءات استعادة جنسيتهم الأصلية، بما يسمح بخلق دينامية مؤاتية للعزة الوطنية وللنمو والإزدهار.
لقد آن لنا فعلاً، بعد عقود من الحروب والنزاعات، أن نحظى بحالة عامة من الهدوء والإستقرار، كي ننصرف فيها إلى العمل المجدي، وإلى معالجة هموم الناس، وتقويم ما اعوجّ من أخلاقيات وسلوكيات مجتمعنا، ومكافحة الفساد والغش والجشع والإنتهاك الصارخ لحرمات بيئتنا الجميلة، والحدّ من نزف هجرة أبنائنا إلى الخارج وخلق الظروف المطمئنة لمغتربينا للعودة إلى ربوع لبنان.
أيها اللبنانيات واللبنانيون
إن التوافق ركن أساسي من أركان وحدة الدولة واستقرار النظام، كما يفيد بذلك الميثاق الوطني ووثيقة الوفاق الوطني. والدستور اللبناني نفسه ينص في الفقرة «ي» من مقدّمته على أن «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك»؛ ويشجع في مادته 65 على اتخاذ القرارات في مجلس الوزراء بالتوافق، ناهيكم عن الحاجة لتوافر الثلثين في التصويت على المواضيع الأساسية.
لذا، ومن منطلق القَسم الذي أدّيته في المجلس النيابي، بأن «أحترم دستور الأمة اللبنانية وقوانينها وأن أحفظ استقلال الوطن وسلامة أراضيه»، أعاهدكم في الذكرى السابعة والستين للإستقلال، مواصلة المسيرة، بعزم وقناعة وإيمان، وبالإنحياز دوماً إلى مصلحة الوطن العليا، والسهر على دفع البلاد على دروب التعقل والتوافق والإستقرار والنمو.
وأدعوكم، أيها اللبنانيات واللبنانيون، فرداً فرداً، كما أدعو القادة السياسيين والروحيين وقادة الرأي والنقابات والطلاب وهيئات المجتمع المدني، من موقعي كرئيس للدولة ورمز لوحدة الوطن، الى أن لا تسمحوا بأن يكون لبنان ساحة مفتوحة للصراعات والتدخل الأجنبي. وأدعوكم للعمل معي، تلافياً للأزمات، لتغليب الثوابت التي أقرّتها وثيقة الوفاق الوطني، والإلتزام بخط التوافق والحوار والتسامح والتآخي الذي أثبتت تجارب التاريخ، أن لا خط لنا جميعاً سواه. هكذا نستحق ثقة شعبنا الأبيّ وعرفان أجيالنا الطالعة.
عشتم، عاش لبنان