ضيف العدد

روح الشرق: أمل الشرق

د. رولان سيف
طبيب يوزع اهتمامه بين الطبابة وشؤون اللغة العربية.

 

للغة العربية هي روح الشرق لأنها دليل عراقته وقدراته ورهافة مشاعره وتطلعاته، وأمل الشرق لأنها طريقه الأكيد للنهوض.
تواصل البشر بالكلم أولاً، خمسة آلاف سنة، ثم اعتمدوا الكلام والكتابة للتواصل ببطء، خمسة آلاف سنةٍ إضافية، الى أن صنعوا أدوات تعطي التواصل سرعة وامتداداً هائلين. وقد تزامن اختراع الكتابة مع اتساع التجمعات البشرية الى مدن صغيرة وضرورة تنظيم العلاقات بين البشر بطريقة أكثر سرعة ودقة ومرونة. وتزامن تنشيط التواصل أولاً مع حاجة بشرية ملحّة للتعارف والتبادل وتخطي الانعزال داخل المجتمعات الكبيرة وبينها.
كان الشرق مركزاً للتمدّن طوال ألفين وخمس مئة سنة، ثم انتقلت الحضارة الى الغرب ألف سنة، ثم عادت الى الشرق ألف سنة، ثم عادت الى الغرب منذ خمس مئة سنة.
تجمع العربية كل عبقريات اللغات الشرقية (الكنعانية - السومرية - الأكادية - الآرامية - السريانية) وتخطو بها خطى الى الأمام. وما العامية إلا فصحى مبسّطة، أقل وضوحاً ودقة ومرونة. أما وجود الثنائي: فصحى (أكثر وضوحاً) - عاميّة (لعامة الناس)، شكلين للغة واحدة، فهي ظاهرة منتشرة في جميع أنحاء العالم، والفرق بين العامية والفصحى العربية أقل بكثير من الفرق بين العامية والفصحى الفرنسيتين، أو بين العامية والفصحى الإنكليزيتين.
وفي مطلع الألفية الثالثة، تتمتّع اللغة العربية، من دون إدراك الناطقين بها، بمكانة عالية جداً، وهي مدعوّة لتأدية أفضل الادوار، لأنها ببساطة أكثر اللغات سرعة ودقة ومرونة. وهي لذلك لغة المستقبل وحافز لتطوير بقية اللغات. ما ينفّر الناس منها، عرباً وغير عرب، تلامذة وطلاباً وراشدين، هو طريقة تعليمها. نحن من القائلين - وقد وضعنا بعد 20 سنة من الدرس والبحث، طريقة جديدة سريعة وسهلة لتعليم العربية من دون تغيير قواعدها، تعتمد على الفهم والمنطق وترتيب المعلومات والتخلص من مصطلحات التعليم المبهمة - إن تعليم الفصحى العربية أسهل بكثير من تعليم الفصحى الفرنسية أو الإنكليزية. قيل لنا إن العربية مريضة، ففحصناها، ووجدناها في حالة جيدة جداً، أما التقارير عنها فهي المريضة. إن العربية، عكس ما هو شائع، لغة علمية منطقية عقلانية من الطراز الأول. نريد أن نضع حداً نهائياً للمقولة الخاطئة: إنها صعبة ومعقدة، وفيها عيوبٌ وعلل، لنحلَّ محلّها: إنها سهلة ومتطورة.
اللغة العربية هي أكثر اللغات سرعة: لأنها تختصر بكلمة واحدة جملاً كاملة في اللغات الأخرى (ترجموا كلمة: منحناهما الى الإنكليزية)، وتكتفي بعدد قليل من الأحرف لتكوين الكلمات (ترجموا: وفاء - معلوماتية، الى الإنكلــــيزيــــة). كـــل المــترجــمــين المحــترفــين يعــرفـــون أن ثــلاثــة أســـطر بــالــلــــغــة الفرنســـية والإنكلــيزية، في أي مجـــال، تحـتــاج الى ســــطرين باللــغة الــعربية.
وهي أكثر اللغات دقة: لأنها تكتب كل لفظ، وتعطي كل حرف لفظاً خاصاً به (عكس ما هي الحال في الفرنسية والإنكليزية: حيث اللفظ الواحد له عدة أحرف ممكنة، والحرف الواحد له عدة ألفاظ مختلفة)، وتميز بين المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث (ترجموا: طبيبة - مهندسة - قاضية، الى الإنكليزية) (وترجموا: ثلاثة موظفين - ثلاث موظفات، الى الإنكليزية) (وترجموا: واحد - إثنان - ثلاثة الى عشرة، الى الانكليزية)، وتربط بين الفعل والفاعل (ترجموا: ذهبتَ - ذهبتما - ذهبتم - ذهبتن، الى الإنكليزية)، وتحوّل الافعال بطريقة ثابتة ومنتظمة  (ترجموا: قتل - يقتل، أخذ - يأخذ، الى الإنكليزية)، وتربط بين الشكل والمعنى: الفتحة في وسط الفعل الماضي الثلاثي تعني مبادرة (ترجموا: سرَق - فتَح - بحَث)، الكسرة رد فعل (ترجموا: فهِم - حزِن - طرِش - سكِر، الى الإنكليزية)، الضمة تحوّل تدريجي (ترجموا: كبُر - بعُد - بطُن - نحُف)، وتعتمد على الإيقاع الموسيقي، تسلسل ألفاظ قصيرة وطويلة، لتكوين الكلمة والجملة وبيت الشعر.
هي أكثر اللغات مرونة: لأنها تستعمل علامات دور في أواخر الكلمات تحرّر الكلمة من مواضعها في الجملة، وهو ما يعطي الجملة العربية مرونة كبيرة لا وجود لها في بقيّة اللغات لأنها لا تستعمل علامات دور (يمكن مثلاً بالعربية صياغة الجملة: الابُ لا يخذلُ الإبنَ، بستة تسلسلات مختلفة بينما اللغات الأخرى مقيّدة بتسلسل واحد لا غير: فاعل - فعل - مفعول به)، وتستعمل ثلاثة أنواع من الجمل (جملة مبنية حول فعل، جملة مبنية حول اسم من دون فعل وهي من خصائص اللغة العربية، وجملة اسمية مطعمة بجملة فعلية)، وتهندس كلمات تحمل معنى حدثين مترافقين (ترجموا: تكاذبوا - كِذب + تبادُل، الى الإنكليزية).
هي روح الشرق: لأنها تحمل كل قيمه ومثله وخبرته وحضارته وحكمته، هــي نحـن ونحـن هــي، نؤمن برب العالمين، نحب أولادنا أكثر من أنفسنا، نعطي الكلمة أهمية عالية،ـــ سمـــاتنا الفخر والنخوة والإحساس المرهف. وهي في حالة جيدة جداً، رغم أدائنا الحضاري الضعيف منذ خمس مئة سنة، لأنها تراث حيّ دليل على قدراتنا وتطلعاتنا ورفضنا لحالة الفشل، وهي مدعاة فخر واعتزاز وعامل وحدة وثقة وانفتاح بغض النظر عن أي اعتبار.