- En
- Fr
- عربي
رياح الفتن وأسوار الصمود
في الاستعراض العام لوشائح العلاقة بين الجيش اللبناني ووطنه، نقول أن الجيش قد ورث من وطنه الغنى الفكري والتنوّع الاجتماعي والإنساني، وأن هذه الأمانة استلزمت منه السهر على وحدة عناصر التنوّع المذكور، بحيث بتنا نقول أيضًا أن الجيش، من ناحية، هو المؤتمن على حماية الوحدة الوطنية، وهو من ناحية أخرى المكلّف إعادة إنشائها حين تتعرّض للخطر بفعل مخططات بعض أهل الداخل والخارج.
نستخلص من ذلك أن صمود المؤسّسة العسكرية، ودوام حرصها على قوّتها ومنعتها، سواء من حيث العتاد والسلاح، أو اللحمة والتماسك، هما ضمان الدفاع عن الوطن، وإنقاذه من الأزمات التي تعصف به من وقت إلى آخر، في منطقة كثيرًا ما تنفجر براكينها، ويرتفع غبار صراعاتها، وهذا ما عنته قيادة الجيش، حين أشارت إلى أن تماسك الجيش هو الذي يحمي الوطن، ويجنّبه بالتالي تداعيّات ما يجاوره من أحداث.
وينطلق الجيش في معالجته للأمور، من مسلّمة واضحة وبسيطة، هي العمل في خندق تتساوى المسافات التي تفصله عن جميع المواطنين، من دون أن يكون منعزلاً أو منكفئًا عن القيام بواجباته تجاههم. أما العداء الثابت، الذي لا يحتاج إلى قياس المسافات، ولا يسمح فيه الحياد، فهو لإسرائيل، وهذا ما نشهره ونعلنه منذ أن أنشأت تلك الدولة كيانها، مغتصبة جزءًا من الأرض العربية، مشرّدة أهله الفلسطينيين، الذين توجّه قسم كبير منهم إلى لبنان، وقد كان لذلك ما كان له من التسبّب بالحرمان والظلم لهؤلاء، ومن فرض للأعباء الاجتماعية والأمنية والسياسية على بلادنا.
إن بقاء الجيش على مسافة واحدة من مكوّنات المجتمع كافة، تجعله معتادًا على التعامل مع التنوّع السياسي، لا بل التنافس، ولنقل الصراع السياسي، مع الحرص على إبقاء هذا الصراع في إطاره، من دون أن تطغى عليه الوسائل العنفية التي تتخذ من الرصاص وسيلة عمياء لفرض الرأي، وقمع الآخر، والميل إلى القضاء عليه.
وفي حين نعمل دائمًا على منع التدخّل الخارجي في تلك العملية الداخلية، فإننا لا نسمح لأنفسنا بالتدخّل في ما يحصل لدى غيرنا، من دون أن نعرض عن القيام بواجبنا الإنساني حيثما يجب، وبالتعاون مع باقي المؤسّسات الأمنية والاجتماعية والحكومية.
بهذا المعيار تنظر المؤسّسة العسكرية إلى الأحداث المأساوية التي تشهدها سوريا منذ ما يزيد على سنتين، تلك الأحداث التي شهدنا مثلها في وقت من الأوقات، بالحدّة عينها والأساليب الدموية نفسها، وخرجنا في النهاية لنقول بمرارة وألم، أن الوطن هو الخاسر بفعل ذلك، وكان من الأجدى لو أن التفاهم السياسي بين الأخوة حلّ محلّ تبادل العنف الدامي، وهو عنف ترافق مع خسائر لا يمكن التعويض عنها، في التربية والاقتصاد والعمران ومعالم التاريخ، إضافة إلى حالات التفلّت من القوانين والضوابط الأخلاقية التي تحدّد العلاقات بين أفراد المجتمع.
ويتصدّر انعكاسات الأزمة السورية على لبنان كلام كثير حول ما اصطلح على تسميته ضبط الحدود. وفي الإضاءة على تلك المسألة نذكّر بأن الجيش اللبناني ينتشر على حدود بلاده، ويقوم بواجبه بكل الإمكانات المتاحة لديه، على الرغم من امتداد هذه الحدود وتشعّبها وتداخلها، وذلك جنبّا إلى جنب مع متابعة القيام بمهمات داخلية يعرفها الجميع، وهو يعالج الخروقات الحاصلة للسيادة اللبنانية، ومنع التهريب والعبورغير الشرعي ذهابًا وإيابًا، وكثيرًا ما أصاب هذا الأمر حياة عسكريينا وسلامة مراكزهم.
إلا أن الأهم من ذلك كله، هو عزم الجيش على منع استدراج الصراع الدولي والإقليمي إلى المجتمع اللبناني، ومهما كانت التضحيات، فرسالة الوطن ومكتسابته التي تحقّقت بجهود أبناء شعبه، هي أمانة في أعناق الجيش الذي اعتاد الصمود أمام الأخطار والتحديات، وستبقى أسواره حصينة منيعة في مواجهة رياح الفتن.