- En
- Fr
- عربي
وجهة نظر
ارتفع منسوب النوّ في الخليج. تمايلت الصواري، وتحرّكت كثبان الرمال، لم تعد المضارب في مأمن، وعصفت في الجوّ تقلّبات عاصفة... وكأنّ الأقدار قد أفلتت من معاقلها، لترقص رقصة الجنون حول آبار النفط.
ما يجري في الخليج مقلق، فالأصوات الصافرة، تزيد من مخاوف نشر الفوضى في المكان.
صراع فوق رمال متحرّكة
هناك خوف يتنامى، وقلق يستشري، والمتداول حاليًا في بورصة المصالح، قاعدته «أن العواصف تستولدها الرؤوس الحامية، أما الرؤوس الباردة فتخطط، وتقدّم العروض، وتتحين الفرص لتقرع الطبول، وتسرج الخيول، وتؤذن بالانطلاق؟!».
لكن الانطلاق إلى أين؟ طالما أن المضارب تتكىء على أوتاد تغور في محيط هادر من الرمال المتحرّكة، التي لا تعرف هدوءًا أو سكينة.
حاول أمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح، في ثمانينيات القرن الماضي، إيجاد الأرضيّة الصلبة المشتركة التي يمكن البناء عليها. اقترح فكرة إنشاء مجلس التعاون. زار دولة الإمارات ليقنع الشيخ زايد بالفكرة، وكان قد حظي بالضوء الأخضر من المملكة العربيّة السعوديّة، وعندما اكتملت المراسم، ولد «مجلس التعاون الخليجي»، وكان ذلك في أبو ظبي في 25 أيار 1981.
يومها توصّل قادة كلّ من المملكة العربيّة السعودية، ومملكة البحرين، والإمارات العربيّة المتحدة، وسلطنة عمان، ودولة قطر، ودولة الكويت إلى صيغة تعاونيّة تضم الدول الست، وتهدف إلى: «تحقيق التنسيق، والتكامل، والترابط بين دولهم في جميع الميادين، وصولًا إلى وحدتها»، وفق ما نصّ عليه النظام الأساسي للمجلس، في مادته الرابعة. والتي أكّدت أيضًا على تعميق- الروابط والصلات، وأوجه التعاون بين مواطني دول المجلس وتوثيقها إيمانا بالمصير المشترك، ووحدة الهدف، وبأن التعاون في ما بينها إنما يخدم الأهداف السامية للأمة العربيّة.
وتفاهم القادة يومها على رزمة من الأهداف، منها:
1 – تحقيق التعاون والتكامل بين دول المجلس في جميع المجالات وصولًا إلى وحدتها.
2 – توثيق الروابط بين الشعوب.
3 – وضع أنظمة متماثلة في مختلف الميادين الاقتصاديّة، والماليّة، والتجاريّة، والجمارك، وغيرها من الأنشطة الاقتصاديّة المختلفة.
4 – دفع عمليّة التقدم العلمي والثقافي في المجالات الاقتصاديّة المختلفة عن طريق إنشاء مراكز بحوث علميّة، كما هو حال الدول المتقدمة المتطوّرة.
5 – إقامة مشاريع مشتركة، وتشجيع التعاون مع القطاع الخاص.
المخاوف من الهيمنة.. والابتلاع
تسارعت وتيرة القمم، واللقاءات، والاجتماعات، والزيارات المتبادلة بين قادة الدول، وأنشئت أمانة عامّة يتولاّها حاليّا عبد اللطيف بن راشد الزيّاني، واتخذت سلسلة من القرارات لتفعيل العلاقات الاقتصاديّة، على غرار ما هو معتمد في الاتحاد الأوروبي، وتأمين مظلّة وافرة مشتركة للحرص على أمن الخليج، إلاّ أن أسبابًا جوهريّة عديدة كانت لا تزال تتفاعل، حتى في ظلّ البحبوحة الاقتصاديّة، وتعمل على تأجيج الشكوك المتبادلة.
أولها يتصل بمورثات العلاقة القائمة على ماضٍ شابته نزاعات، لإثبات الحضور، والدور، والمكانة. وبأن مفهوم الدولة وفق المواصفات المتعارف عليها في الأمم المتحدة، لم يستند في هذا المحيط الجغرافي إلى فكرة راسخة...
ثانيّا: إنّ النزعة الاستقلاليّة كانت هي الطاغيّة عند غالبية دول مجلس التعاون، لا بل كانت متقدمة على النزعة الوحدويّة، خصوصًا لدى الإمارات الصغيرة التي كانت ولا تزال حريصة على استقلال ناجز، وسيادة مطلقة تبدد المخاوف من يقظة مستجدة بتوحيد شبه الجزيرة العربيّة لاستعادة أمجاد تاريخيّة طواها الزمن. والدليل أن الملك عبدالله بن عبد العزيز، عندما اقترح في العام 2011، وخلال انعقاد القمّة الخليجيّة الـ32، تحويل مجلس التعاون إلى اتحاد خليجي، والتنسيق في ما بين دوله سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا، كانت سلطنة عمان أولى الرافضين، وتلتها قطر، ولم تكن الكويت خارج هذا السرب، وإن بدت متحفّظة.
لقد كان شبح الهيمنة دائمًا جاثمًا على صدور الدول الأعضاء في مجلس التعاون، خوفًا من سطوة الشقيق الأكبر، ونفوذه المادي والمعنوي، وهذا ما دفع بها إلى التفتيش عن البدائل والضمانات التي ترسّخ قواعد الكيان، وتضاعف مداميك السيادة.
ثالثًا: إن الثروة النفطية كانت أشبه بسيف ذو حديّن. لقد أسهمت في توفير متطلبات الحياة الرغيدة اجتماعيًّا، واقتصاديًّا، معيشيًّا، وعمرانيًّا، إلاّ أنها ضاعفت من منسوب القلق حول المستقبل والمصير، ولذلك توجهت هذه الدول ناحية الدول الكبرى، وتحديدًا الولايات المتحدة، طلبًا للحماية، ولبناء القواعد العسكريّة على أراضيها، ولإبرام الصفقات الخيالية لشراء أحدث الأسلحة، والمعدات الحربيّة، بهدف توفير الحدّ الأدنى من الحماية الذاتيّة...
الأسباب المعلنة.. وغير المعلنة
تشير صحيفة «فايننشال تايمز» البريطانيّة، في تقرير لها، إلى أن سبب تأجيج الأزمة الحاليّة هو فدية المليار دولار التي دفعتها قطر مقابل إطلاق سراح بعض أفراد أسرتها الحاكمة في العراق، ومسلحين شيعة في سوريا.
قد يكون في هذا بعض الحقيقة، أما الوجوه الأخرى فمتعددة، أبرزها الدور الريادي الذي راحت تجيده بعض الإمارات الخليجيّة الصغيرة على المستويين، الإقليمي والدولي، وتوغلها في الكثير من الملفات المعقدة المطروحة على بساط البحث في الأندية الدوليّة الكبرى، والتصرف حيالها من موقع الطرف المؤثّر، أو الفريق الضامن للحلول والتسويات. وقد لعبت الوفرة المالية – النقديّة دورها في هذا المجال، فكان الإعلام القوي النافذ الهادف والموجه إلى تضخيم الأمور، ومنحها أحجامًا أكبر مما تستحق، أو اعتراض مسارات مختلفة لها الموقع والمكانة الدوليين. وكان لها النفوذ المالي – الاقتصادي القوي، حتى داخل عواصم دول القـرار، لنـدن علـى سبيـل المثـال، أو بـاريـس، أو واشنطـن، وحتّـى نيويـورك...
وهنا حصل الخلل الكبير في «الاتزان والتوازن الوطني» – والتوصيف لـ«نيويورك تايمز» في تقرير طويل نشرته حول الخليج – بمعنى أن دولًا خليجيّة صغيرة تريد أن تتصدر المنابر، والمنتديات الدوليّة، وتتدخل في عظيم الأمور وشواردها، وتحاول أن تقدم نفسها على أنّها الأجدر والأولى في استهلاك، أو استخدام كل جديد متطور في مختلف الحقول والمجالات، نظرًا إلى ما تملك من وفرة ماديّة، وفي الوقت عينه تريد الحماية، وتريد أن تنفق لتأمينها... فكيف يكون توازن واتزان عند من يريد أن يتصرّف وكأنه الخارق، فيما هو فعلًا بحاجة إلى من ينوب عنه لحمايته؟
الزعامة العربيّة
شكّل «الربيع العربي» انعطافة كبرى، وبعد أشهر من اندلاع الحريق، أعلن الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي عبد اللطيف الزيّاني (10 أيار 2011)، وخلال انعقاد المجلس على مستوى القمّة في الرياض، موافقة القادة الخليجييّن على ضّم المملكة الأردنيّة الهاشمية إلى المجلس، ودعوة المملكة المغربيّة للانضمام، لكن المغرب اعتذر، واعتبر أن «اتحاد المغرب العربي يشكل موقعًا استراتيجيًّا له».
وأعلنت «ليبيراسيون» يومها أن «توسيع الدائرة ناجم عن خوف، ذلك أن دول مجلس التعاون أرادت أن تصيب أكثر من جوزة بحجر واحد.
- الحفاظ على التركيبة السياسيّة، كون جميع الأعضاء هي دول ملكيّة. ثلاث منها نظام حكمها ملكي – دستوري هي قطر، والكويت، والبحرين. ودولتان نظام حكمهما ملكي مطلق، هما السعوديّة، وسلطنة عمان، ودولة نظام حكمها ملكي اتحادي، هي دولة الإمارات العربيّة المتحدة (سبع إمارات، وكل إمارة لها حكمها الخاص). وإضافة دولتين ملكيتين قويتين يمكن أن تسهم في المزيد من الإطمئنان.
- تحصين المناعة الذاتية الداخلية للحؤول دون قيام أي تحرّك تغييري في أي دولة، ضدّ الملك، أو الأمير، أو العائلة الحاكمة... بحيث لا يكون «للربيع العربي» أي مكان في أي دولة خليجيّة».
- امتلاك قمرة القيادة في السفينة المتهالكة، والتي كانت تعرف يومًا بجامعة الدول العربيّة، بعد أن أخذت «ثورة الياسمين» تونس إلى غير المكان الذي كانت عليه. وأخذت انتفاضة «الأخوان المسلمين» مصر إلى الثورات والاحتجاجات في ميدان التحرير، وسائر الميادين الأخرى. وبعد أن حلّ «ربيع سوريا» الذي حولها من «صاحبة اكتفاء ذاتي» إلى دولة الأشلاء. وبعد خروج العراق الذي خرج من وحدته القويّة المتراصة، إلى أقاليم، وكانتونات فئويّة مذهبيّة متنافرة...
التوقيت الأميركي
زار الرئيس ترامب الرياض في أيار الماضي، دخلها وسط أبهة إمبرطوريّة (واشنطن بوست). عقد ثلاث قمم. الثانية كانت مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي.
كان هؤلاء قد استبقوا القمة بلقاء تشاوري في ما بينهم، وخلال هذا الاجتماع وقعت الواقعة. عرض عبد اللطيف الزيّاني الخطوط العريضة للبيان الختامي الذي صدر في ما بعد عن القمّة الأميركيّة – الخليجيّة – العربيّة – الإسلاميّة، وفيه مواجهة إيران، وتمددها في الخليج وفي بعض الساحات العربيّة، وهنا أبدى الجانب القطري اعتراضه، وحجته أن دول مجلس التعاون كانت قد كلّفت دولة الكويت نقل مبادرة إلى طهران لفتح صفحة جديدة معها عن طريق الحوار والتواصل، وتجاوبت الكويت، وتوجه نائب رئيس مجلس الوزراء، وزير الخارجيّة الشيخ صباح الخالد الصباح إلى طهران (25 كانون الثاني الماضي)، وعرض المبادرة الخليجيّة على كبار المسؤولين في القيادة الإيرانيّة، ولمس كل ترحيب، واستعداد للتعاون. وعلى أثر هذه الزيارة قام الرئيس الإيراني الشيخ حسن روحاني ( 19 شباط الماضي) بزيارة رسميّة لكل من دولة الكويت، وسلطنة عمان، وكانت النتائج إيجابيّة، ومشجّعة، بدليل أن أمير دولة الكويت الشيخ صباح الأحمد الصباح قام بزيارة رسمية لسلطنة عمان فور عودة روحاني إلى بلاده، وذلك من أجل إطلاق آلية عمل تضع المبادرة موضع التنفيذ. كذلك، قام وزير الخارجيّة الإيراني محمد جواد ظريف بزيارة رسميّة إلى الدوحة في التاسع من آذار الماضي للتأكيد على استعداد طهران لالتزام المبادرة الخليجيّة، والدعوة إلى الحوار فورًا، فما الذي بدا مما عدا؟!.
انفرط العقد الخليجي يومها تحت شعار «كبح الغيظ»، والظهور أمام ترامب بمظهر الموقف الموحد المنسجم. وهذا ما حصل، لكن ما أن غادر الرياض، ووصل إلى مكتبه البيضاوي في البيت الأبيض حتى «انثقب الدفّ في الخليج، وتفرّق العشّاق؟!».
لن تنتهي... كما بدأت
صحيفة «نيويورك تايمز»، قالت إن مقاطعة 5 دول عربيّة لقطر من أجل عزلها، ستضرّ بالجهود الأميركيّة لبناء تحالفات واسعة في المنطقة، وستضعف حليفًا يوفّر قاعدة حيويّة للجيش الأميركي في حملته ضدّ تنظيم الدولة الإسلاميّة.
ونسب تقرير للصحيفة إلى الباحثة في معهد واشنطن لدراسات - الشرق الأوسط، راندا إسلم، قولها: «إن مقاطعة قطر تثير تساؤلات حول ما إذا كانت إدارة ترامب تدري ما أطلقته عندما مكّنت السعوديّة من فعل ذلك؟!».
واعتبرت الصحيفة «أن الأزمة ستؤدي إلى تغيير السياسات والتحالفات في الشرق الأوسط، في ظلّ إصرار قطر على البقاء خارج دائرة النفوذ السعودي، وصمودها أمام الحصار الذي فرض عليها».
وقالت الصحيفة في تقريرها «إن الأزمة هزّت منطقة الخليج العربي، وورطت الولايات المتحدة، وتهدد الآن بالامتداد نحو تركيا وإيران. ويجب العودة إلى الوراء لفهم جذورها، وأسبابها».
فالشيخ حمد خليفة بن آل ثاني (والد الأمير تميم)، اعتبرمنذ توليه الحكم في سنة 1995، أن الدوحة لن تحقق الأمن القومي، إلاّ في حال تغيّرت علاقتها بالرياض.
وأكدت الصحيفة: «أن البعض اعتقد أن الاستراتيجيّة القطريّة ستنهار سريعًا، بعد أن فرض عليها بعض جيرانها الخليجييّن حصارًا مطبقًا. ولكن قطر أثبتت أن لديها حلفاءها هي أيضًا، ولذلك فإنّ هذا الصراع سيتواصل، وسينجم عنه متغيّرات، وستكون له تبعات أخرى؟!. وذكّرت بأن بعض الأحداث السابقة غذّت الرغبة القطريّة بالخروج من عباءة السعوديّة، حيث أن الدوحة في سنة 1988 أقامت علاقات دبلوماسيّة مع الاتحاد السوفياتي، على عكس خيارات الجار السعودي، وهو ما مثّل أولى خطوات قطر نحو الاستقلال بقرارها. وفي سنة 1992 أدى نزاع حدودي بين البلدين إلى سقوط اثنين من الجنود القطرييّن. ثم بعد سنتين اندلعت الحرب الأهلية في اليمن، وساندت كلّ من الدوحة والرياض طرفين مختلفين».
ولقد كانت قطر «واحدة من دول قليلة في العالم تحوّلت من دولة ضعيفة، وتابعة، إلى قوّة إقليميّة، خلال بضع سنوات، وأطلقت قناة «الجزيرة» الفضائيّة التي تمثّل قوّة إعلامية ناعمة مكّنتها من دعم حلفائها، وإزعاج بعض جيرانها». وأكدت الصحيفة، «أن قطر شكّلت ملاذًا للسياسيين الإسلامييّن المنفيّين...».
وبحسب الصحيفة نفسها، «فقد جاء الربيع العربي في سنة 2011 ليخلط الأوراق من جديد في المنطقة، ويبدو أن عمليّة خلط الأوراق ستجتاح حكمًا منظومة مجلس التعاون الخليجي، ذلك أن التطورات التكنولوجيّة في تسعينيات القرن الماضي خلقت سوقًا عالمية جديدة للغاز الطبيعي المسال الذي يمكن شحنه في البواخر، ما أتاح الاستغناء عن خط الأنابيب الذي يمر عبر السعوديّة، ومكّن قطر من رفع حجم مداخيلها من 8.1 مليار دولار في العام 1995، إلى رقم خيالي يناهز 210 مليار دولار في الـ2014. إلى قفزة غير متوقعة في الـ2016، حيث تجاوزت المداخيل حدود الـ400 مليار... وهذه الأرقام تغري الرئيس ترامب، وإدارته؟!».
... ويبقى السؤال: متى ينتهي هذا الإعصار، وكيف ستكون حال المضارب عندما ينتهي؟!... لا جواب حاسمًا عند أحد...