- En
- Fr
- عربي
في مواجهة الحياة
ندين البلعة خيرالله
مناضلات يليق بهنّ الفخر والاعتزاز (1)
... وعاد إليها مستشهدًا، فكيف تواجه غيابه المضني؟ الحزن رفيق دربها، الوجع يدمغ كل الأيام، المحطات الصعبة كثيرة، لكنها مع كل ذلك وأكثر منه، تنهض... تستوي في مواجهة حزنها ووجعها والحياة. تحيي ذكرى رجل كان شريك عمرها وأخذته الشهادة منها. تتصالح مع الغياب لتصنع منه خبزًا لأولادهما ومقلعًا ينبت فيه رجال ونساء يفتخر والدهم من عليائه بهم، كما يفتخرون بشهادته.
في ما يلي إضاءة على قصص وتجارب عاشتها زوجات ضباط استشهدوا ليحيا الوطن، قصص قد تختلف تفاصيلها من بيت الى آخر، لكنها أيضًا تتشابه كثيرًا، حيث المرأة زوجة الشهيد، أم، وأب وأكثر...
ليديا الحكيم: كنت أتكئ إلى جبل فإذا بالجبال على رأسي
ثلاثون سنة مرّت على استشهاد اللواء الركن نديم الحكيم ودمعة زوجته السيدة ليديا حماده لم تجف بعد. فهو كان مثال الزوج والأب والضابط المخلص الذي لا مثيل له في نظرها وفي نظر كل مَنْ عرفه.
صوره المزروعة في كل زاوية من زوايا البيت تعيد إلى الذاكرة الأيام الجميلة التي أمضياها معًا ومع العائلة قبل تاريخ الحادث المشؤوم. في البداية، لم تكن ترغب في الزواج من ضابط لأنها عاشت في بيئة تحب الاستقرار العائلي. ولكن عندما تعرّفت إلى نديم تغيّرت نظرتها للحياة العسكرية، وبدأت مسيرة النضال إلى جانبه. ثمرة حياتهما المشتركة المبنية على الحب والوفاء والثقة والإحترام المتبادل، كانت أربعة أولاد: عماد، ناجي، ديما ولينا. مسؤولية تربيتهم كانت على عاتقها إجمالا، وغالبًا ما كانت تقسو عليهم وتعاملهم بحزم. وعندما يحضر الوالد كان «الدلع» سيّد الموقف تعويضًا عن غيابه عنهم. ويوم بلغ ابنهما البكر عماد الـ16 سنة (بتاريخ 7 آب 1984)، شعرت بأن الحمل ثقيل عليها فطلبت من زوجها اللواء مسؤولية مرافقة ابنه في هذا العمر لأنه بحاجة إلى أبيه أكثر منه إلى أمه. لكن عماد لم ينعم بصداقة والده في هذا العمر كباقي الأولاد، فكان الحزن صديقه لأيام طوال إذ أخذ الموت منه والده بعد أيام قليلة على الاحتفال بعيد ميلاده.
المفاجأة مأساة
قبل استشهاده، لم تكن حياة اللواء الركن حكيم تخلو من الصعوبة كضابط في الجيش دائم التنقّل بحكم المناصب التي شغلها في ذلك الزمن الصعب من تاريخ لبنان. فقد تولّى قيادة منطقة طرابلس وصيدا وصربا وحمانا قبل أن يستقر في رئاسة الأركان. إلا أن يوم موته كان الأصعب في حياتها.
ونسألها: كيف تلقيت الخبر؟ ترقرقت عيناها بالدموع وأجابت: عند وقوع الحادث كنت مع الأولاد في رحلة استجمام في اليونان بطلب منه. لم أكن أريد الذهاب من دونه لكنه أصرّ على إبعادنا عن الأجواء التي كانت سائدة في تلك الأيام. كان يتصل بنا كل يوم ليطمئن علينا. في اليوم الثالث من الرحلة، اتصل بي ليقول إنه مدعو على الغداء عند الرئيس سليمان فرنجيه في إهدن، وطمأنني أنه ذاهب بطائرة الهليكوبتر كي لا أخاف. كان ذلك يوم 23 آب من العام 1984. عند الساعة الثالثة (لحظة وقوع الحادث) من بعد ظهر ذلك اليوم، شعرت بنار تلتهم قلبي وقلت لشقيقة زوجي نبيلة بأن شيئًا ما قد حدث. لم يطل الوقت عندما تسلّمت في المساء تلغرافًا يخبرني بأن زوجي تعرّض لحادث. فصرخت فورًا نديم مات. أرسلوا لنا طائرة خاصة لتقلّنا إلى لبنان، إلى حيث الألم الذي لم يندمل حتى اليوم. لقد نصحه الرئيس سليمان بالبقاء في قصره وبعدم الرجوع بالطائرة نظرًا الى سوء الرؤية وكثرة الضباب في حينه، إلا أن القدر كتب له مسارًا آخر فارتطمت الطائرة بشجرة واستشهد مع ثمانية من مرافقيه. في وقت لاحق، أخبرها مسؤول مكتب السفريات أنه كان يريد أن يفاجئهم بالانضمام إليهم يومي السبت والأحد، إلا أن القدر حوّل المفاجأة إلى مأساة.
وبدأت مسيرة النضال والعذاب التي عاشتها السيدة ليديا مع عائلتها التي لم تتقبّل بسهولة غياب الوالد. هنا تروي ما جرى مع ابنتها الصغرى لينا (كان عمرها 10 سنوات) عندما طلبت منها المعلمة في المدرسة أن تكتب موضوع إنشاء يتناول أهم ما أثّر في حياتها. فكتبت بطريقة مؤثّرة جدًا عن حادث استشهاد والدها وما ترك في حياتها من ألم وحزن وشوق إليه، مما أبكى معلمي المدرسة ومعلماتها.
«ما حدا محل حدا»
كيف تابعت مسيرة النضال مع أربعة أولاد صغار؟ تتنهد بعمق وتقول: لقد عانيت الأمرّين بعد وفاة زوجي، وتعجز الكلمات عن وصف الحالة الصعبة التي عشتها في تربية أربعة أولاد كان عمر كبيرهم عماد 16 سنة، وديما 14 سنة، وناجي 12 سنة، ولينا 10 سنوات. إلا أن قيادة الجيش وقفت إلى جانبي وكانت بمثابة الأم والأب والصديقة ولم تسمح أن أحتاج إلى أحد. وهي لا زالت حتى اليوم تزورني في ذكرى استشهاد زوجي كما في كل المناسبات. أهلي وإخوتي لم يتركوني يومًا. ولكن العذاب المعنوي أقوى وأصعب من العذاب المادي، لأن «ما حدا محل حدا». عندما كنت أضعف في اللحظات الصعبة كنت الجأ إلى الله وأطلب معونته في الشدائد. وقد ربيت أولادي على الإيمان ومخافة الله. وأنا اليوم أفتخر بهم بعد أن أنهوا تحصيلهم الجامعي وباتوا يتبوأون مراكز إدارية في الشركات التي يعملون فيها في الخارج. وهم يفتخرون بأنهم أولاد اللواء الركن نديم الحكيم ويعيشون بصيته وسمعته الحسنة بين الناس.
قبل متابعة الحديث، جاءتني برسالة محفوظة في كادر تعلوها صورتهما، كان قد كتبها لها اللواء حكيم في فترة الحجز القسري، يقول فيها: «لن أوصيك بالأحبة يا أخلص وأوفى زوجة وأمثل أم». هذه الرسالة كانت مصدر قوتها في الأيام العصيبة وفي كل مرة كانت تشعر بالضعف، لأنها «معه كنت لاقية عاجبال، صارت الجبال لاقية عا راسي».
«الجمرة ما بتحرق إلا محلها»
عندما سألتها أن توجّه كلمة دعم إلى زوجات شهداء الجيش، خصوصًا اللواتي استشهد أزواجهن حديثًا، قالت:
«أمامكن مرحلة صعبة، ولكن إذا تحليتن بالإيمان والقوة والصبر تتخطين كل الصعاب»، لأن «الجمرة ما بتحرق إلا محلها».
أما رسالتها إلى قائد الجيش: «العماد قهوجي هو قائد أشرف مؤسسة أحبّها اللواء حكيم حتى الاستشهاد. أدعو إلى الله أن يحمي هذه المؤسسة وقائدها وأن تبقى صفًا واحدًا خصوصًا في هذه المرحلة الصعبة التي يواجهها في محاربة الإرهاب والإرهابيين الذين يتربصون شرًا بلبنان».
قبل أن نتركها مع الهواية الأحبّ إلى قلبها وهي قراءة الكتب الأجنبية خصوصًا السيرة الذاتية لقادة العالم، جاءتها حفيدتاها تمارا وتاليا فأثلجتا قلبها وغيّرتا الأجواء الحزينة التي أعادتها إلى حزن عتيق لم ينضب منذ 30 سنة.
إشارة الى أنّه، وفاء لخدماته وتضحياته في المؤسسة العسكرية، أقام فخامة رئيس الجمهورية السابق إميـل لحود يوم كان قائدًا للجيش، جادة اللواء نديـم الحكيم على طريق وزارة الدفاع.
لودي الحاج:
لماذا لم تعد بعد؟
يعود بنا الزمن إلى سبع سنوات مرّت، إلى يوم استشهاد اللواء الركن فرانسوا الحاج في 12/12/2007، لنعيش المأساة من جديد في عيني زوجته السيدة لودي الحاج وهي تروي قصة حبهما ونضالهما معًا في الحياة...
بعد انتهاء معركة نهر البارد، وبينما كان الشعب يزف جيشه المنتصر على الإرهاب بالورد وأكاليل الغار، اتصلت السيدة لودي بزوجها اللواء فرانسوا الحاج وسألته: «لقد انتهت المعركة، لماذا لم تعد إلى البيت بعد؟»، فكان جوابه: «حدا بيجي عا بيتو قبل ما يوصّل ولادو؟». وعندما وصل إلى البيت بادرته بسؤال آخر وهي تشاهد عبر شاشة التلفزيون أجواء الفرح والاحتفالات التي عمّت المناطق اللبنانية: «هل من المعقول ألا تكون بين صفوف الجيش المحتفل بانتصاره على الإرهاب، وأنت من كان يقود المعركة ضدّه؟»، فقال لها: «أفضّل أن أتفرّج على الفرحة في عيون اللبنانيين الذين يحتفلون بانتصار جيشهم بعد زمن طويل. لكنه لم يكن على علم أن معركة خفية كانت له بالمرصاد، غدرت به، قبل أن يتمكّن من إدارة عملياتها.
البدايات
كانت تربطها بزوجها علاقة مبنية على الحب والإحترام، إذ كان يجمعهما هدف واحد ورؤية واحدة: بناء عائلة قوامها الإنسان والمحبة والإلفة واللاطائفية وحب الوطن، بعيدًا من كل الشوائب المتغلغلة في المجتمع. لكنّ مسؤولية متابعة تنفيذ هذه المبادئ كانت تقع على عاتقها بحكم غياب الأب عن البيت في معظم الأحيان.
تتذكر يوم تزوجا في العام 1981 في ظل حرب كانت تعصف بالبلاد، وكيف وضعت أمام مسؤولياتها كزوجة وأم إلى جانب ضابط اتصف بمناقبيته العسكرية، لا يساوم ولا يهادن وقد ساعدها بنفسه في تخطي هذه المرحلة. فقد تابع في العام 1982-1983 دورة في الولايات المتحدة الأميركية، وقد تضمنت الدورة درسًا مخصصًا لنساء الضباط حول كيفية التعامل مع أزواجهن، وقد أطلعها على مضمون هذه المادة... وكان الاختبار الأول عندما أسّس اللواء الحاج فوج التدخل الثاني وما رافق هذه المرحلة من غياب متكرر عن البيت، فكانت يده اليمنى ومصدر راحته في البيت إذ لا مكان للتذمر. في قرارة نفسه كان يدرك معاناتها ويتحسسها ويشيد بها.
وعن علاقته بأولاده، تخبرنا أنّه كان حنونًا إلى أبعد حد، ولم تكن شخصيته العسكرية لتطغى على ما عداها عندما يكون في البيت. كان يعتمد أسلوب التحدي معهم من خلال مناقشة جمل معينة أو حزورة أو أي فكرة تراوده، فيعلّقها على لوح في غرفة الجلوس ويناقشها معهم في المساء. لم يكن بطبعه يحب المظاهر الغشاشة، فعلّم أولاده الشفافية المطلقة في الحياة والاتكال على الكفاءة الشخصية وليس على الواسطة.
قبل معركة نهر البارد، خاض فرانسوا الحاج كضابط مقاتل معارك كثيرة في حياته، إلا أن المعركة ضدّ الإرهاب كانت مفصلية بالنسبة إليه فخاضها بشراسة حتى انتصر. بعد انتهاء المعركة، طلبت منه زوجته أن يقدّم استقالته من الجيش، بعد أن حقق بطولات كثيرة في مسيرته العسكرية. كانت تريد أن ينعما بالهدوء والراحة وقد حُرما منهما لسنين طويلة. نظر في عينيها وقال لها بهدوئه المعتاد: «من قال لك بأن الذي نقش وحفر في هذا الوطن لن يحدث تغييرًا ما في المعادلة، أو في الأداء...»، فأدركت أن تعبه وجهده طوال هذه السنين لن يذهبا سدًى، ويريد أن يحفرهما على صخرة هذا الوطن؛ وأجهشت بالبكاء.
بُعد رؤية
كان اللواء الركن فرانسوا الحاج يتمتّع ببعد رؤية خوّلته استكشاف ما قد يحدث. وهذا ما يؤكّده قائد الكلية الحربية آنذاك العميد الركن سهيل حمّاد عندما كتب مقالًا بعد استشهاد اللواء يروي فيه كيف طلب منه، في عزّ المعركة، تغيير المناهج الحربية أو القتالية لأنّ الحرب على الإرهاب طويلة. وعندما سئل اللواء في المؤتمر الصحافي المشترك الذي عقد في وزارة الدفاع، بحضور وزير الدفاع وكبار الضباط بعد انتهاء معركة نهر البارد: «هل قضيتم على الإرهابيين؟». فأجاب: «الآن بدأت معركتنا ضدّ الإرهاب».
وسألتها: هل كنت تتمنين لو أنه لم يكن يدير معركة نهر البارد التي بسببها اغتيل واستشهد؟ فأجابت على الفور: أنا مقتنعة أن زوجي لم يستشهد بسبب نهر البارد، إنما هذه المعركة وضعته في الصفوف الأمامية وأظهرته كضابط مقدام وشجاع، وكشفت سيرته الذاتية الغنية بالنجاحات التي حققها، فخافوه.
يوم الاغتيال
كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحًا عندما وقع الانفجار في اليوم 12 من شهر كانون الأول العام 2007. كانت المرة الوحيدة التي يستيقظ فيها متأخرًا، إذ من عادته الحضور في الصباح الباكر إلى وزارة الدفاع. ماذا حصل؟ بعد أن استيقظ وارتدى ملابسه، جلس على حافة السرير، قبّل زوجته وقال لها: أنا ذاهب. وكأنه يودّعها للمرة الأخيرة. ما هي إلا لحظات حتى سمع دويّ الإنفجار. لكنها لم تكن تريد أن تصدّق إحساسها، فهرعت صوب المغارة التي هندسها بيديه، صلّت إلى الله متضرّعة أن لا يكون هو المستهدف في الانفجار. لكنها شعرت بنار تشتعل في صدرها، لأن قلبها قلّما يخطئ؛ وكانت الصدمة.
مسيرة النضال
كانت الصدمة قوية جدًا على أولاد اللواء الركن الشهيد فرانسوا الحاج (إيلي، رشا وجيسي) وعلى زوجته، لأنه كان يملأ حياتهم كما هم بالنسبة إليه بمنزلة حياته كلها. لذا لم يكن سهلًا عليهم تقبّل خسارة أقرب صديق إليهم بعدما رسم لهم طريق الحياة.
خافت والدتهم أن تفقدهم الصدمة توازنهم، فكانت إلى جانبهم كي يتخطوا هذه المرحلة. العلاقة القوية التي كانت قائمة بينهما هي مصدر قوتها في كفاحها المستمر من أجل تخليد ذكراه. فهو لم يكن يحب الأشخاص الذين يضعفون أمام المصيبة. ولسان حاله كان: «كل مصيبة تصيبني ولا تميتني هي قوة جديدة لي». إن ما يعزّي العائلة هو الإرث الثمين الذي تركه اللواء الركن الشهيد وسامًا على صدر كل فرد فيها.
مؤسسة تخلّد ذكراه
كان عميد الشهداء فرانسوا الحاج مدرسة في الجيش، بشهادة كل من قاتل إلى جانبه أو عرفه. ومن أجل تخليد ذكراه، كانت مؤسسة تحمل اسمه أنشئت في بداية الربيع المنصرم، هدفها مساعدة العسكريين المعوقين أو الشهداء الأحياء كما تحب أن تسميهم السيدة لودي، الذين أصيبوا بإعاقة دائمة بعد الحروب التي خاضها الجيش. تعمل المؤسسة وفق مبادئ فرانسوا الحاج ومناقبيته التي تؤمن بها العائلة وتسير على خطاها. من هنا تسعى المؤسسة إلى تأمين احتياجات المعوّق الإضافية (كتأمين كراسي متنقلة ومتطورة تساعدهم على التنقل بمفردهم)، إلى جانب المساعدات التي تقدّمها مؤسسة الجيش لهم ووزارة الشؤون الاجتماعية. ولتحقيق ذلك نحن بحاجة إلى شبكة متبرّعين، وما نحن إلا صلة الوصل. يبقى الدعم المعنوي هو الأهم في استراتيجية أهدافنا لأنه يعزز ثقة المعوّق بنفسه وبالمجتمع، وأبوابنا مفتوحة أمام كل الأيادي البيضاء.
إلى زوجة الشهيد
بصفتها عميدة زوجات شهداء نهر البارد، وجّهت السيدة لودي الحاج رسالة مؤثرة حثّتهنّ فيها على تخطي جراحهنّ وإكمال مسيرة أزواجهنّ بالطريقة التي يرونها مناسبة. كما حفّزتهنّ على تعليم أولادهن أهمية الشهادة في الحياة، وعلى الافتخار بمسيرة والدهم النضالية. ونصحتهنّ بمتابعة أولادهنّ نفسيًا إذا كانوا صغارًا كي يتخطوا بطريقة سليمة مرحلة السؤال المطروح: «لماذا والدنا». وقالت: «من خلال الصلاة والمثابرة نصل إلى حيث هم بجوار ربهم».
فاطمة جمعة:
لا وقت لعيش المأساة!
«شعرتُ بأنني ضائعة ومسحوقة، وكأن أطنانًا رُميت فوقي!»، هكذا تتذكّر السيّدة فاطمة فضل الله زوجة المقدّم الشهيد عبّاس جمعة (الذي استشهد في 24/9/2012)، لحظة تلقّيها خبر إصابة زوجها الذي دخل في غيبوبة ثم استشهد.
وتتابع: «لا تستطيع المرأة أن تتلكّأ، ولا أن تبكي... لا تستطيع عيش مأساتها لتخطّيها، بل عليها أن تستعيد قواها ووعيها فورًا من أجل عائلتها. إبني علي الذي كان عمره سنتَين و8 أشهر حين استشهد والده، هو الذي كان الدافع الأول لي لكي ألملم جراحي وأتألّم بصمت. فهو ملاك بطبعه، لا يصرخ ولا يشاغب، ولكن حين استشهد والده شعرتُ أنه واعٍ، يفهم كل ما يحدث ويتأثر به. أصبح عدائيًا يرفع صوته ولا يتعاون مع أي أحد. خفتُ عليه كثيرًا وقرّرتُ استشارة اختصاصي لتجنّب تفاقم هذه المشكلة لديه. أمّا حسن فقد ولد ليلة استشهاد والده! لم يحظَ بفرصة التعرّف إليه، ولكنه الآن يعرفه بالصورة وبالأخبار التي نخبرها أنا وعلي عنه».
تصمت هنيهة قبل أن تتابع قائلةً: «يحق لولدَي أن يعيشا بفرح مثل جميع الأولاد، لذا فقد احتفظت بحزني لنفسي وقرّرتُ احتضانهما بسلامٍ وفرحٍ وقوة».
وتضيف فاطمة المثقّفة والمؤمنة والواعية: «لقد استشهد زوجي وأصدقاؤه وكل من سبقهم ولحقهم فداءً لقناعاتهم وواجباتهم العسكرية... لقد ذهب عبّاس ليدهم مطلوبًا مجرمًا بناءً على أوامر أعطيَت له، لكي يحفظ أمن منطقة وبالتالي أمن وطن... عبّاس استشهد، والمجرم الآن في السجن، في غرفة مليئة بكل مستلزمات الرفاهية والراحة، يستخدم هاتفه وهو ناشط على مواقع التواصل الإجتماعي ينشر صوره ويقتلني يوميًا!!».
ما كان بوسعه سوى الاستشهاد
لقد أصبحت الشهادة قدرنا، قدر كل فرد في المؤسسة العسكرية، فلبنان مجبول بالأزمات وعبّاس الذي كان يطلب الكمال في كل ما يقوم به، لم يكن باعتقادي قادرًا سوى على الاستشهاد في سبيل قناعاته وحبّه للوطن وللمؤسسة. كل ضابط وعسكري في الجيش اللبناني هو مشروع شهيد... لو لم يستشهدوا لكان الوضع أسوأ، ولكن كل فترة تأتي أصعب من التي سبقتها، والذين عزّوني بعبّاس، ذهبت وعزّيتهم لاحقًا برجالهم! لا نتعلّم من أخطائنا، فالكل يشمت بالآخر والجيش في الوسط يتلقّى ولا يردّ! وأنا أعرف أننا كعائلات شهداء لا ننتظر كلمة شكرٍ من أحد، ولكن أملنا الوحيد هو ألاّ تذهب دماء شهدائنا هدرًا...
نظرتُ في أحد الاحتفالات التي تقيمها قيادة الجيش لعائلات الشهداء، فرأيتُ القاعة مليئةً... لقد أصبح عدد شهدائنا هائلاً، وهو يزداد يومًا بعد يوم! متى ستهتزّ ضمائر الحكّام إذا لم يهزّهم ما يحدث؟ الجيش مستهدف من كل مكان، يقاتل باللحم الحيّ، عسكريّوه واثقون بأنهم ذاهبون إلى الاستشهاد... فمتى سنتعلّم ونأخذ العبر؟ ظُلمنا وخسرنا أشخاصًا غالين، ولم يربح أحد في المقابل، لم يتوقّف الإجرام، ولم يُطرد الإرهاب من الوطن، والجيش ما زال يدفع أثمانًا باهظة».
وتختم قائلةً: «كما أن الجيش هو الصامت الأكبر والصامد الأكبر، علينا كزوجات شهداء أن نصمد بصمت ونتابع مسيرتنا إلى جانب أولادنا الذين يحتاجون إلينا اليوم أكثر من ذي قبل».
تصوير:
الجندي مارون بدر
جاك واكيم