- En
- Fr
- عربي
علامات فارقة
من الصعب الإحاطة بمسيرة فنان مثل زياد الرحباني في عجالة سريعة، فهذه الإحاطة تتطلب جهودًا جدية متعددة ومتخصصة، فضلًا عن مساحة كافية للكتابة والنشر. فزياد الفنان والإنسان مثّل حالة فريدة من نوعها في الموسيقى والمسرح والإخراج والكتابة وفي التزام قضايا الإنسان والعصر قولًا ومسلكًا وفنًا.
تُشكّل أعماله ما يمكن اعتباره منجمًا يحتاج إلى طاقم من العمّال المهرة القادرين على استنطاق الكنوز التي يزخر بها، مع العلم أنّها في بساطتها أضحت على كل شفة ولسان، وفي عمقها لسان حال أجيال وأجيال.
في ما يأتي استعادة للمراحل التي مرّ بها زياد الرحباني الفنان والأعمال التي أنتجها في كل من هذه المراحل.
من البدايات لغاية 1974
ظهرت علامات موهبة زياد باكرًا، وانشغل بالألحان والتصوير السينمائي منذ طفولته في محاولات كانت نوعًا من التسلية يُمضي بها وقته مع أولاد أعمامه وصبري الشريف، على هامش المدرسة وخلال العطلات الصيفية.
بدأ دراسته الموسيقية في عمر التاسعة على يد بوغوص جلاليان الذي رأى فيه موهبة فذّة. إضافةً إلى البيانو، أتقن زياد مبكرًا العزف على آلة البزق، متأثّرًا بوالده. من بواكير ألحانه أغنية «ضلِّك حبيني يا لوزية»، التي غنتها خالته هدى في المسلسل التلفزيوني من يوم ليوم (1971). كما صدر له ديوان «صديقي الله»، وهو نصوص وخواطر شعرية كتبها وهو في عمر الحادية عشرة، فجمعها والده ونشرها. ساهم زياد في أعمال مسرحية كانت تقام في القرى، وفي مهرجانات المناطق مثل «ضيعة الحزازير»، و«موسم الطرابيش»، و«بحر اللولو».
قدّم «سهرية» من بطولة جوزيف صقر، ومروان، ومحفوظ، وفيفيان، التي حلّت جورجيت صايغ محلها في بقنايا – جل الديب، ومن ثم في بيروت في العام 1973. جالت المسرحية في العام التالي في المناطق، ولاقت استحسانًا كبيرًا لدى الجمهور والنقاد. من المحطات الأساسية في هذه المرحلة أيضًا أغنية «سألوني الناس» التي لحنها زياد وكتب كلماتها عمه منصور، وغنتها فيروز كتحيةٍ لعاصي بعد مرضه. كانت هذه الأغنية ضمن مسرحية المحطة (1973)، التي تولّى فيها تلحين المقدمة الثانية وتوزيع بعض المقطوعات، تبعها «قديش كان في ناس» (قصيدة حب، 1973) و«نطرونا كتير» (لولو، 1974). شمل نشاط زياد الموسيقي في هذه المرحلة المشاركة تلحينًا في قداس الشباب في انطلياس، وإصدار أسطوانة موسيقية أعاد فيها تقديم مختارات من أعمال فيروز والأخوين الرحباني (مهرجان الرحباني، 1973)، وأخرى مخصصة للرقص الشرقي وهي بعنوان «رقصة سمر». كما عمل على تأليف مقدمات موسيقية لأعمال مسرحية مثل «أبو علي الأسمراني» من إخراج برج فازليان، والمسلسل التلفزيوني «آثار على الرمال» من إخراج أنطوان ريمي. تَوّجت هذه المرحلة مسرحية «نزل السرور» التي تجلت فيها بوضوح توجهات زياد السياسية ومفرادته اللغوية وحيويته الموسيقية.
1975- 1983
تنطلق هذه المرحلة مع بداية الحرب اللبنانية التي كانت بداية تحوّلات جذرية في الخطاب اللبناني وظهور انقسامات عنيفة بين الطوائف والمناطق. تناول زياد هذه الأحداث في برنامجه الإذاعي مع جان شمعون بعنوان «بعدنا طيبين قولو الله» (1975)، وفي توجهه الموسيقي ليهتم بموسيقى الجاز والبوسا نوفا. وقد عبّرت ثلاثيته المسرحية عن جحيم الحرب ومقارباته النقدية في الاقتصاد (بالنسبة لبكرا شو، 1978) والطائفية السياسية (فيلم أميركي طويل، 1980) والفن والثقافة (شي فاشل، 1983). وجدير بالذكر أنّ أسطوانة «بالأفراح» (1977) وهي عبارة عن وصلة موسيقية شرقية مطوّلة، اعتُمدت كمادةٍ لتدريس الموسيقى الشرقية في مناهج عديدة في لبنان وأميركا. كما استمر زياد في المشاركة الفنية في أعمال فيروز والأخوين الرحباني من خلال مقدمات موسيقية وأغانٍ، وهي: مقدمة «ميس الريم»، مقدمة «مهرجان دمشق الدولي» 1976، مقدمة «بترا»، وأغنيات: «حبوا بعضن»، «يا جبل الشيخ»، «أنا عندي حنين»، و«البوسطة» التي طلبها عاصي الرحباني منه تحديدًا لتغنيها فيروز. وقد ظهرت أول أسطوانة مستقلة ومشتركة بين فيروز وزياد بعنوان «وحدن» في العام 1979. كما أعد لفيروز برنامج رحلة أميركا للعام 1981 التي شملت حفلة في الأمم المتحدة قدمت فيها مغناة «الأرض لكم»، وهي مختارات من جبران خليل جبران قام بتوليفها الشاعر جوزيف حرب ولحّنها زياد. وشهدت هذه المرحلة بداية التأليف الموسيقي للسينما مع فيلم «نهلة» لفاروق بلوفة (1978)، و«عائد إلى حيفا» لقاسم حول (1981)، و«لعبة النساء» لسمير الغصيني (1982)، بالإضافة إلى مرافقة موسيقية للقراءات الشعرية المسجلة مع «أحمد العربي» لمحمود درويش و«قهوة مرة» لعصام العبدلله.
1984 – 1995
استمرت أعمال زياد بزخمٍ رغم ظروف الحرب، وأطلق مشروعه في الجاز الشرقي، وهي تسمية مؤقتة قرر زياد لاحقًا التراجع عنها. فكانت مجموعة من الحفلات الموسيقية في لبنان وأوروبا وإصدارات «هدوء نسبي» (النسخة الأولى)، «شريط غير حدودي»، «بهالشكل»، واكبهما شريط فيديو تسجيلي يشرح فيه حيثيات مشروعه الموسيقي. أمّا مع فيروز، فقدم أسطوانتهما الثانية بعنوان «معرفتي فيك» التي سُجِّلت بين العامين 1983-1984، وصدرت في ربيع العام 1987. وأعلن عن رغبته بتكريم والده عاصي الرحباني بعد رحيله في العام 1986، عبر إعادة توزيع وتسجيل مختارات من أعماله مع فرقة موسيقية مُوَسّعة. وقد صدرت هذه الأسطوانة بعنوان «إلى عاصي» في العام 1995، بعد أن قدّمت فيروز نماذج من إعداده الجديد في حفلاتها (لندن 1986 و1994 وباريس 1988). سبق هذا العمل إصدار أسطوانة «كيفك إنت»، وهي الثالثة في سلسلة التعاون الفني بين فيروز وزياد، وقد حصدت انتشارًا واسعًا في لبنان والخارج. وشهدت هذه المرحلة صدور عمله النقدي الفريد من نوعه «أنا مش كافر» (1985)، وأعمالًا إذاعية: «منو إلّا موسيقي» (1989)، «العقل زينة» (1987)، و«يه ما أحلاكن» (1989). وكانت هذه الأعمال مقدمة نحو الثنائية المسرحية الأخيرة التي عرضها في السنوات الأولى بعد انتهاء الحرب الأهلية وتناول فيهما نقده للشعب، والمسرحيتان هما: «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» (1993) و«لولا فسحة الأمل» (1994). لم يقدم زياد أي أعمال مسرحية منذ ذلك الحين رغم إعلانه عن أكثر من مسرحية جديدة في مقابلاته. واستمر في عمله بالموسيقى التصويرية لفيلم «وقائع العام المقبل» لسمير ذكرى (1985)، وفيلم «غياب» لمحمد سويد (1989)، ومسرحيتي «أمرك سيدنا» (1985) و«أبطال وحرامية» (1987)، وهما من إخراج زوهراب يعقوبيان، ومرافقة موسيقية لديوان شعر «سطر النمل» لعصام العبدلله (1994)، وشريط «حكايا» للأطفال (1987)، والمقدمة الموسيقية لكل من المسلسلين التلفزيونيين «أستاذ ممنوع» لمروان نجار (1986)، و«دوّار يا زمن» لألبير كيلو (1987)، إضافةً إلى موسيقى عروض الرقص لفرقة فهد العبدلله. وصدر في هذه المرحلة فيديو تسجيلي لإحدى حفلاته بعنوان «موسيقى على قيد الحياة من بيروت» (1991).
1996-2011
في 1 كانون الثاني 1997، توفي جوزيف صقر أحد الشركاء الفنيين الأساسيين لزياد، والذي طوى برحيله مرحلة أساسية من مراحل إنتاجه الفني في ظل التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي شهدها لبنان. في ذلك العام توجّه زياد نحو الكتابة في جريدة السفير ونشر سلسلة من المقالات تحت عنوان «أُعذر من أنذر» بعد ابتعاده عن المسرح والإذاعة، واستكملها بدءًا من العام 2006 في جريدة الأخبار، ليصبح العنوان «ما العمل». قدّم زياد في هذه المرحلة مجموعة من الحفلات في بيروت والمناطق اللبنانية (1998 و2001 و2004 و2009)، بما فيها حفلاته مع خماسي شارل ديفز في الجامعة الأميركية (2009)، بالإضافة إلى أمسيات موسيقية في نوادي بيروت، تخلّلتها حفلات في معهد العالم العربي في باريس (1998)، وأبو ظبي (2005)، ودمشق (2008 و2009)، والقاهرة (2011). كما تميزت هذه المرحلة بأربع حفلات موسيقية مع فيروز في بيت الدين ودبي (2000، و2001، و2003)، ترافقهما فرقة موسيقية موسعة تشمل 51 عازفًا من أرمينيا وهولندا و فرنسا وسوريا ولبنان بقيادة المايسترو كارين دوغريان.
أمّا على صعيد الإصدارات، فقد صدر فيديو حفلة أبو ظبي (2007)، وتسجيل حفلة دمشق (2009)، وأسطوانات «مش كاين هيك تكون» لفيروز (1999) بالاشتراك مع الملحن محمد محسن، «مونودوز» مع سلمى مصفي (2001)، «ولا كيف» مع فيروز (2001)، وحفلة فيروز في بيت الدين (2000)، و«إيه في أمل» مع فيروز أيضًا (2010)، و«نص الألف خمسمية» وهي توليفة نصوص وموسيقى لزياد (2005)، و«معلومات أكيده» (2006)، مع المطربة التونسية لطيفة.
تابع زياد عمله في الموسيقى التصويرية ليتعاون مع المخرجة رندة الشهال في فيلمين: «متحضرات» (1998)، و«طيارة من ورق» (2003)، الذي اشترك فيه تمثيلًا، وفيلم «تاكسي سرفيس» لإيلي خليفة (1996)، وموسيقى مسلسل «قصتي قصة» لإيلي أضباشي (2006). أخيرًا، تولّى زياد الإعداد الموسيقي لمسرحية «صح النوم» للأخوين الرحباني (2006) التي أعيد تقديمها في بعلبك لليلة واحدة، وبيروت، ودمشق، وعمّان، والشارقة.
2012-2025
في المرحلة الأخيرة من سيرته الفنية، اشترك زياد تمثيلًا في مسرحية «مجنون يحكي» للينا خوري (2013)، واستمر إحياء الحفلات، بينما خفّت وتيرة الإصدارات رغم أنّ حفلاته كانت تشمل مقطوعات موسيقية وأغاني جديدة يقدمها من حين إلى آخر. استعاد تراتيله التي قدمها في شبابه في حفل موسيقي في كنيسة مار الياس في انطلياس (2013)، وأقام حفلًا كبيرًا ضمن إطار حفلات أعياد بيروت (2013)، واستمر في إحياء أمسياته في نوادي بيروت وفي المركز الثقافي الروسي (2015 و2018 و2019). وظهر في تلك الفترة في مجموعة من المقابلات الإذاعية والتلفزيونية ومجددًا في العامين 2018 و2019، وكأنّ هذه المقابلات أضحت بديلًا عن حلقاته الإذاعية وكتاباته في الصحف. بعد ابتعاده عن الساحة الفنية أعلن عن مجموعة أعمال جديدة، وذكر عنوان أحدها: «هي كدة الحياة» (باللهجة المصرية)، بالإضافة إلى أعمال أخرى مع لطيفة التونسية وكارول سماحة.
استمرت في هذه المرحلة إطلالاته خارج لبنان عبر سلسلة من الحفلات والجولات شملت القاهرة (2013 و2018)، وتونس في مهرجان الحمّامات الدولي (2019)، وجولة أوروبية شملت عدة مدن بدءًا من برلين، وبروكسل، ثم باريس في تحية للموسيقي جو سامبل في صالة نيو مورنينغ (new morning) والتي مر عليها أساطين موسيقى الجاز والبلوز، وصولًا إلى لندن وروتردام.
من بين أواخر أعماله إحياء حفل مهرجان بيت الدين (2018)، بعد أن سبق وألغى مشاركته في المهرجان قبل ثمانية أعوام لظروف صحية قاسية ظلت تتراكم منذ النصف الثاني لتسعينيات القرن الماضي، وحفل أعياد بيروت (2019)، الذي شاركت فيه مجموعة من المغنين والموسيقيين من لبنان ومصر وسوريا وأميركا ومنهم حازم شاهين وليزا سيمون. وصدرت لزياد في هذه الفترة أسطوانة توليفية لعدة نصوص سياسية واجتماعية قرأتها مجموعة من زملائه وهي بعنوان «الجمهورية ب»، إلى جانب أسطوانة تحمل موسيقى فيلمَي «متحضرات» و«طيارة من ورق» لرندة الشهال (2019). وتم ترميم فيديوهات مسرحيتَي “بالنسبة لبكرا شو” (2015)، و«فيلم أميركي طويل» (2016)، وعُرضا في الصالات اللبنانية. كما أنشأ قناة خاصة عبر منصة فيميو (vimeo) تحتوي على مختارات من أغانيه وحفلاته، وهي المنصة الرسمية الوحيدة لزياد على شبكة الإنترنت.
اعتكف زياد مرة ثانية في السنوات الأخيرة بعد غروبه الأول في بداية العقد الثاني من الألفية الثانية، وابتعد عن الشأن العام واختار أن يعيش في حلقة ضيقة وعزلة ما لبثت أن ضاقت أكثر فأكثر حتى كان الصمت الأخير والأبعد من الخيبات وانكسارات الأوطان.











