ثقافة وفنون

سعيد تقي الدين
إعداد: وفيق غريزي

الكاتب الساخر الشاهد لعصره

ما يقارب الأربعة عقود مضت على غياب سعيد تقي الدين، وإسمه يكبر ويشمخ عاماً إثر عام. فالزمن الذي دأبه سحق الأسماء، وإغراقها في بحر النسيان، طأطأ رأسه أمام المبدعين الكبار أمثال سعيد تقي الدين وميخائيل نعيمه، وجبران خليل جبران، والياس أبو شبكة وغيرهم، فإذا الساحة كلها مرتع لأقدام هؤلاء، كما أرادوها، طوال حياتهم أن تكون.
هذا الكاتب المهيمن على رحاب الإبداع، المغامر الشجاع الثائر، اللاحدود لثورته. هذا الساخر المنتقد لأطر حياتنا الإجتماعية والفكرية، المتضاحك من ممارساتنا السخيفة الناشزة، المزوع بصماته الفريدة، بدون تحفظ، على مرافق مجتمعنا ووطننا الغالي لبنان. فمن هو هذا المبدع اللبناني؟

 

الفجر والمساء

ولد سعيد تقي الدين في 15 أيار 1904. درس في معهد الأنطونية في بعبدا خلال المرحلة الإبتدائية، وكان من زملائه في المدرسة الرئيس الراحل كميل شمعون. ومن ثم انتقل إلى الإعدادية التابعة للجامعة الأميركية العام 1918، ومنها إلى الجامعة نفسها حيث تخرج  العام 1925. وخلال سنوات الجامعة ترأس جمعية «العروة الوثقى» ومجلتها العام 1923، وألف مسرحيتي «لولا المحامي» و«قضي الأمر»، إضافة إلى عشرات المقالات والقصص القصيرة التي نشرها في مجلة المعرض، وفي غيرها من الدوريات البيروتية والدمشقية والمصرية.
بعد تخرجه هاجر إلى الفيلبين، وبقي في مانيلا حتى العام 1948، حيث عمل في حقل التجارة وجمع ثروة كبيرة. وخلال إغترابه، أسس مع بعض المغتربين «الجمعية اللبنانية السورية» العام 1944، وانتخب رئيساً لها، وبعد انقطاع عن الكتابة دام بضع سنوات، عاد إليها بمسرحية «نخب العدو» ومجموعة قصص قصيرة، نشرت في كتاب واحد العام 1945.
العام 1946، عُين قنصلاً للبنان في الفيلبين، وبقي في منصبه حتى عودته في مطلع 1948. خلال الحرب اليابانية - الأميركية، اعتقله اليابانيون في مانيلا حوالى شهرين. قبل عودته إلى لبنان أصدر مسرحية «حفنة ريح». العام 1948عاد إلى لبنان بحراً، وانتخب في أواخر العام نفسه رئيساً لجمعية متخرجي الجامعة الأميركية لمدة أربع سنوات، تمكن خلالها من تشييد مركز للجمعية يحتوي على قاعة للمحاضرات ومسرح وفندق خاص بالخريجين وملعب تنس (كرة مضرب). العام 1950 صدرت له مجموعة قصص قصيرة بعنوان «غابة الكافور»، والعام 1954 أسس في بيروت «لجنة كل مواطن خفير» لمكافحة التجسس. العام 1960 توفي كاتبنا إثر نوبة قلبية.

 

أعماله المسرحية

صدر لسعيد تقي الدين بين 1925 و1961 اثنا عشر مصنفاً، تتناول فنوناً أدبية عديدة أهمها: المسرحية، الأقصوصة، والمقالة. مسرحيته «الدرب الموحشة» التي كتبها العام 1944، هي ملهاة إجتماعية ذات فصل واحد تتناول الثرثرة وحب المال والسخرية من بخل الأغنياء. تدور قصة المسرحية حول مهاجر لبناني يدعو إلى وليمة ليؤسس نادياً للمهاجرين، وتحدث ملابسات محورها فتاة سترث عن أبيها أربعة ملايين دولار، يتودد إليها الشبان من أجل مالها، أما أبوها فبخيل جداً، يحضر إلى الوليمة مع عائلته مشياً على الأقدام. أما مسرحية «نخب العدو» العام 1946، فهي مسرحية كوميدية ذات ثلاثة فصول، موضوعها الصراع الطائفي في القرية اللبنانية، وبث روح الألفة والمحبة بين أبنائها. ومسرحية «حفنة ريح» (1948) مهزلة في فصل واحد، موضوعها نقد المجتمع البيروتي، والسخرية من العادات والتقاليد التافهة المسيطرة على عقول الناس، في تمسكهم بالقشور من دون اللباب. «لولا المحامي» مسرحية جدية في خمسة فصول. موضوعها ثورة على الإقطاع في القرية اللبنانية. يقوم الصراع في الظاهر بين شابين. الأول إبن إقطاعي غني، والثاني فقير، هاجر إلى أميركا بعد أن تعاهد مع فتاة على الحب. وبعد عودته علم أن أهله ماتوا جوعاً، فثار غضباً لأنه أرسل مالاً كثيراً إلى أهله عن طريق الإقطاعي، الذي استأثر بالمال لنفسه، ومن هنا يبدأ الصراع وأحداث المسرحية. أما مسرحية «المنبوذ» فهي من فصل واحد موضوعها: لتحرير المجتمع اللبناني من عبوديته يجب تحويل جهوده الفردية المبعثرة إلى نظامية موحدة. يدور الصراع في المسرحية بين جبهة شريفة جائعة، تتمثل في جواد وزوجته فهيمة التي تعمل لإعالة عائلتها، وجبهة ثانية متهتكة تعيش من طرق غير مشروعة تتمثل في عارف إبن عم جواد الموظف الأمي، وجماعته، وهنا يدور الصراع بين القيم السامية والقيم الفاسدة.

 

تقنية الحوار

لقد أدرك سعيد تقي الدين، منذ بدء تأليفه للمسرح، أهمية الحوار وتطويع اللغة العربية لتصبح صالحة للحوار المسرحي، وقد راعى، في لغة الحوار، مطابقتها لمستوى الأشخاص، فهي فصيحة مع من يفترض أن يكون على جانب من العلم، وعامية مع البسطاء أو الأميين، على غرار «الآباء والبنون» لميخائيل نعيمة، ولكنه على الرغم من محاولته، لم يستطع حل هذه المشكلة نهائياً.
ففي «لولا المحامي» نرى معظم الحوار باللغة الفصحى، إلا أن ما دار منه على ألسن القرويين، كان بالعامية، غير أن المؤلف، إذ يتلافى هذا الأمر، يقع في ما هو أشد إساءة منه للحوار الجيد، وهو المواقف الدرامية - الدراماتيكية المسهبة، حيث يفضي الشخص بكل ما يريد أن يقوله دفعة واحدة.
وحسب رأي إدفيك شيبوب فإن فن الحوار البارع القصير المعبر، والمعتدل من حيث المزج بين فصيحة وعامية، قد ظفر منه سعيد تقي الدين بنصيب أكبر في «نخب العدو»، منه في «حفنة ريح»، ثم «المبنوذ». كما استغل سعيد موهبته في «التنكيت»، بصورة أوسع في «نخب العدو» لتلائم فقط المسرحية الكوميدية، التي إختارها لها. وهي تجمع بين الموقف الدراماتيكي وبين روح «الملهاة» مع التشديد على العنصر الثاني.
ويرى البعض أن أديبنا يلجأ أحياناً إلى عنصر المفاجأة، كسبيل لنكتته في المسرحية المذكورة، وذلك للتخفيف من حدة التوتر في الموقف الدراماتيكي الجدي، وأحياناً نراه يكتفي بالدعاية البريئة، عن طريق التلاعب بالمعنى واللفظ، كوسيلة إلى الإسترخاء الذهني.

 

الشعرية والموسيقى

من الأمور التي عني بها سعيد تقي الدين في نصوصه المسرحية، عنصر الشعر والموسيقى، باعتبارهما وسيلتين فعالتين من وسائل إرضاء الجمهور.
من هنا فإن مسرحياته يتخللها الكثير من المواقف الشعرية والغنائية بعضها زجل «قرّادي» وبعضها شعر مكسّر للتنكيت. ويكون المعنى أحياناً من صلب موضوع المسرحية أو معبراً عن مغزاها.
ونلاحظ أنه كان شغوفاً بتزيين مسرحياته بالشعر والموسيقى، بصرف النظر عن قيمتها الفنية. ومن الشعر الذي تضمنته «نخب العدو»:
«بين داري ودارك درب
توصل بابينا
في صدري وصدرك حب
يغمر قلبينا
نهدم وراثة البغض
من عهد أجدادنا
ونحيا لبعضنا البعض
ونبني لأولادنا»
إن مسرحيات كاتبنا لبنانية، تستمد موضوعاتها وشخصياتها، وتفاصيل أجزاء حبكتها من واقع المجتمع اللبناني، بشطريه القروي والمديني، ويقوم الصراع من جانب أبطالها، ضد تقاليد وعادات قديمة، عاشها الكاتب وأحس بخطرها على سلامة مجتمعه. فأعلن ثورته عليها، غايته إصلاحها وتطهيرها.

 

الأقصوصة والمقالة

تأتي الأقصوصة في المرحلة الثانية، وقد ترك لنا الكاتب ستاً وثلاثين أقصوصة موزعة على أربع مجموعات هي: «الثلج الأسود وقصص أخرى»، «موجة نار»، «غابة الكافور» و«ربيع الخريف».
لأقاصيص سعيد تقي الدين موضوع واحد، محور الإنسان اللبناني، اللبناني المقيم، في صراعه التقليدي ضد الإقطاعيين، أو اللبناني المغترب في صراعه للحصول على الثروة التي كانت سبب هجرته. وهذه الأقاصيص انعكاس لسيرة حياة كاتبنا، تطغى عليها فكرة الهجرة، وما يرافقها من مغامرة وشقاء، تأرجحا بين الغنى والفقر، النجاح والفشل. وذكر البعض أن هذه الظاهرة توضحت في أقاصيص سعيد تقي الدين إلى درجة اطلاق اسم «أدب المهاجرين» عليها، لأن مسرحها المهجر وأبطالها لبنانيون هاجروا. ولعل هذه الصلات المبنية بين أقاصيص كاتبنا وحياته وشخصيته، هي التي تمنحها هذه المميزات الفردية التي لا نجدها عند غيره من الأدباء.
أما المقالة، فقد أهمل كاتبنا في مرحلة من مراحل حياته كل إنتاج مسرحي وقصصي، وتوجه إلى كتابة المقالة، ومن كتبه التي ضمت مجموعة من المقالات: «سيداتي سادتي»، «تبلغوا وبلغوا»، «غبار البحيرة»، «غداً نقفل المدينة»، «رياح في شراعي»، و«أنا والتنين»، كما له مجموعات من المقالات السياسية والإجتماعية الأدبية. إن هذا الأديب الكبير أعطى أدبنا العربي والمعاصر، الطابع الشخصي الطريف، والتنوع في الإنتاج، وهو بالتالي شاهد عصره، لأن أدبه عكس بصدق، جوانب الحياة الإجتماعية والفكرية في لبنان والصراع القائم بين مختلف التيارات السياسية في هذا القرن، أي القرن الماضي.


وجهة نظر

الجيش ومشروع الدولة

لقد أثبتت المراحل التي مر بها هذا الوطن انه لا بديل عن سلطة الدولة بمؤسساتها الشرعية كافة، شرط أن تكون الدولة دولة انتماء للانسان، كما انه لا مقومات لوجود دولة بدون جيش قوي أو مؤسسة عسكرية قوية، تحفظ الانجازات التي تحققت أو التي ستحققها الدولة.
قد يسأل البعض، أي دولة نريد؟
نقولها بكل صراحة ووضوح: نحن نريد دولة قوية جامعة، تحفظ الهوية الوطنية وكرامة المواطن الذي أصبح يعيش في دوامة وغلبت حالة اللامبالاة على واقعه الحالي في ظل الواقع السياسي المزري، وفي ظل الخطاب الطائفي والمذهبي والمشروع الكونفدرالي أو الفيدرالي لوطن مساحته الجغرافية لا تتسع أساساً لعودة من هاجروا...
السؤال يبقى، أي دولة نريد؟
نريد دولة على مفهوم مشروع الجيش اللبناني، هذا الجيش الذي أثبت في الماضي والحاضر واليوم انه جيش وطني حفظ هوية الانتماء. بدون أي مجال للشك، وهذا ما قاله قائد الجيش العماد ميشال سليمان، ان الجيش للجميع وهو سياج الوطن والمدافع عن الأرض والوجود. لقد أثبتت المؤسسة العسكرية انها القادرة على تثبيت الاستقرار النفسي لوطن تهب عليه رياح عاتية تبشر بانقسامات طائفية ومذهبية لا تبشر بخير...
لقد ثبت ان رياح التغيير القادمة على منطقتنا لا خلاص منها الا بالوحدة الوطنية، هذه الوحدة التي لا تدرّس في المدارس بل عبر مؤسسات الدولة الشرعية، وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية التي انشأت الخطاب العقائدي بالانتماء الى الوطن والولاء له.
لا خلاص لهذا الوطن إلا بمؤسسة عسكرية قادرة وقوية، وستبقى المؤسسة محط آمال الوطن.

 

محمد نديم الملاح عضو الأمانة العامة لمنبر الوحدة  الوطنية