في كل بيت

سلوك الطفل ومسؤولية الأهل
إعداد: ناديا متى فخري

 بين الحزم والقسوة فارق أكيد...
 يبدأ تفتّح طاقات الطفل واستعداداته في الأشهر الأولى من عمره. ومع العلم أن كل طفل فريد في شخصيته وذكائه وطاقاته، فإن جميع الأطفال يحتاجون الى الوسط الملائم لنمو استعداداتهم ولإشباع حاجاتهم ودوافعهم. والأهل هم أول المسؤولين عن تأمين الأجواء التي تتيح من جهة نمو الطفل بشكل سليم، وتساهم في تنشئته على العادات الخلقية من جهة أخرى.

 

مفاهيم التربية
 يؤكد علماء التربية والاجتماع أن العادات الخلقية تتكوّن لدى الأطفال منذ سن مبكرة جداً، أي، من سنّ الثانية حتى السادسة، وبعد هذه السن تصبح تربية الأطفال مهمة صعبة إذا لم نكن قد رسخنا في نفوسهم مفاهيم الطاعة والإستقامة والصدق والأمانة والنظام والتمسك بالقيم الخلقية والعادات السلوكية الطيبة. فحياة الطفل تتطلب التوجيه السليم للحد من نزوات النفس ونوازعها، علماً أن الحاجة الى متنفس لمصدر الطاقة الطبيعية يعتبر من أولى الضروريات في حياة الطفل. فالدوافع الطبيعية متى منعت من أخذ سبيلها المقرر لها فإنها تلتمس أشكالاً غير طبيعية وغير مقبولة. إن أي إنحراف يظهر في تصرفات الطفل له أسبابه، وبعض علماء النفس يردون أسباب الميل الى العدوانية والعناد والمشاكسة الى عوامل بيئية ونفسية، والى ما يتعرض له الطفل من عوامل ضغط وجداني وذهني، على أنهم في الوقت نفسه، لا ينكرون أو ينفون أثر الدوافع الفطرية الموروثة التي تعزز الميول الخلقية والسلوكية في مرحلة الطفولة. الطفل في سنواته الأولى حساس جداً وله متطلباته ومخاوفه، وهو أيضاً مراقب جيد، ويتصرف مدفوعاً بدافع حب الاستطلاع الفطري، فهو يتأثر بكل الدوافع اللاشعورية وما يتلقاه ويلتقطه في بيئته، ويتطلع الى من يفهمه، كما أنه يفسر الأمور بإيحاء من خياله ومن مشاعره.. وعشوائية التصرف عند الأطفال تفرض على المربين احتضان الطفل احتضاناً شاملاً بما معناه توفير الاستقرار النفسي والطمأنينة لهم، وتنشئتهم تنشئة سليمة مشفوعة بتوجيه وجداني وسلوكي سوي مستقيم.

 

 حاجات الطفل
 الطفل قابل للتأثر بكل النماذج والخبرات التي تتاح له سلبية كانت أم إيجابية، ومن واجبات الآباء تجاه أولادهم في التنشئة مراعاة القواعد الأخلاقية وما يترتب عليها من اتجاهات عامة صحيحة يتشكل منها الاقتداء السلوكي المستقيم. فالطفل يعبّر تعبيراً صريحاً عن انفعالاته وعن استجاباته بوضوح، فنجده مثلاً يرفض الامتثال لرغبة أبويه، وتطبيق النظام الثابت في الأسرة، (مواعيد النوم، ومشاهدة التلفزيون... الخ) فهو يحب ويبغض على مزاجه، وغالباً ما يكون معرضاً للشعور بالغضب والقلق وعاجزاً عن التكيّف مع أي تغيير يتعرض له. من هنا ضرورة تعويده على التمييز بين المسموح والممنوع والالتزام بحدود معينة. يرى بعض علماء النفس أن الأطفال لا يستطيعون مقاومة التأثيرات السيئة التي قد تصدر عن البيئة، لكنهم يستجيبون في المقابل بسرعة الى دواعي المحيط الصالح متى توفّر هذا وتيسّر. ولا شك في أن حكمة الأبوين في التنشئة وشيئاً من الاعتدال والمودة والتكيّف الإيجابي في تبادل الانفعال بين الآباء والأبناء، سيؤدي الى النمو الانفعالي المتسم بالنضج عند الأطفال ويلغي وجود التناقض الوجداني لديهم. فللطفل حاجات فيزيولوجية ¬ نفسية، فهو بالإضافة الى الحاجات البيولوجية كالطعام والهواء والنشاط والحركة والراحة يحتاج أيضاً من أجل نمو متكامل وسليم الى الشعور بمكانته، فكل طفل يتطلع الى الاعتراف بوجوده ويحب أن يحظى باهتمام من هم حوله وينشد احترامهم. والطفل يحتاج الى الشعور بالاستقرار تماماً، كما يحتاج الى الحب والحنان كي لا يفقد الثقة بنفسه ويصبح قلقاً حائراً.
ويؤكد علماء النفس، ان الطفل المتمتع بالصحة النفسية السليمة هو الطفل الذي تكون قدراته واستعداداته قد أُتيح لها فرص النمو الصحيح ويكون قد نشأ وهو ينعم بالثقة بالذات بعيداً عن الأجواء المشحونة بالسلبيات وهذا يحمي شخصيته من التصدّع. إذن، الاحتضان السليم والتنشئة الصالحة ضرورة لا بد منها لرفد الطفولة ومقتضيات النمو، وخير ضمانة للسماح للطفل بالتعبير عن نفسه وانفعالاته والافصاح عما لديه من قابليات ومن طاقات خلاقة. وهي قدرات تتجلى في نشاطه العام وبما يتناسب وسنه والمرحلة التي هو فيها. هنا لا بد من التمييز بين التنشئة الصالحة والتوجيه السديد والسماح لقدرات الطفل بالنمو والكشف عن نفسها، وبين الصرامة والقسوة والحد من حركة الطفل وضربه لأتفه الأسباب. فكثيراً ما يُعاقب الطفل بالضرب وهو لا يعرف لماذا عوقب أو ضرب، وهذا الموقف يستقر في ذهنه ويترسخ في اللاشعور إن هو تكرر وتراكم، ويكون له أسوأ الأثر في حياته المقبلة، على أن هناك معايير أخلاقية عالية ومقاييس مثلى من السلوك لا بد من الأخذ بها في تربية الأطفال للحفاظ على صحتهم النفسية والعقلية. وما من شك أن بذور الأخلاق الأولى وما يترتب عليها من اتجاهات صحيحة في ما بعد إنما يأتي بالإقتداء، فنحن نعرف أن الأخلاق تكتسب ولا تُلقّن، وهذا يفرض على الآباء التصرف بوعي وحكمة لأن الإبن يقلد سلوك أبويه ويتعلم منهما أصول التصرّف، وكذلك على الأبوين توجيه قابليات طفلهما وقدراته العامة الى غاية بنّاءة؛ المفروض أن نهيئ للطفل المقومات التي يحتاجها ليكون بوسعه استخدام طاقاته على نحو تتمثل فيه قوة الإرادة ومتانة الخلق، فالطفل على استعداد لأن يكشف عن أصفى استعداداته متى وجد الجو الصالح المشجع له، وفاز بالرعاية الإيجابية التي تضمن له إشباعاً لحاجاته الأساسية. وهو اذا شعر بأي تقصير بحقه يصبح عاجزاً عن التكيّف المنطقي وتتزعزع ثقته بمن حوله، وقد يتجه الى أنواع مختلفة من السلوك غير المقبول اجتماعياً، أو ينسحب من المجتمع مفضلاً العزلة على المشاركة، وكثيراً ما تثبت الإتجاهات السلبية لدى الأطفال وربما تلازمهم بعد مرحلة الطفولة من جراء أخطاء يرتكبها بحقهم الكبار.


 

ميول وطباع
 ينشأ الطفل وهو يتصف بشيء من العناد والتمنّع عن الإنصياع الى ما يقتضيه نظام البيت والمجتمع من طاعة وتهذيب، وتظهر مظاهر العناد وبوادره بين العام الأول والعام الرابع من حياته، ويكون ظهوره أول الأمر على صورة تردد بسيط في تنفيذ ما يُطلب منه تنفيذه، ولكنه قد يتخذ شكل عادة يصعب استئصالها في ما بعد. ويتخذ مظهر العناد لوناً من ألوان الانتصار للذات عندما يجد الطفل أنه لا يحظى بالرعاية والاحترام من جانب أبويه أو الأخوة الكبار وممن يؤلفون البيئة الاجتماعية من الراشدين، وفي هذه الحالة تصبح استجاباته جافة وجامدة وتكيّفه سلبياً. وغالباً تكون تصرفات الطفل العنيد مشحونة بالتحدي، وقد لا يقوى على التحكم في طبعه، ويرجع السبب الى الاضطراب الانفعالي عنده والى الصلة المضطربة بينه وبين أبويه، فالطفل حين لا تكون حاجاته مضمونة ومؤمنة يصيبه الإحباط ويلوذ الى العدائية... ومهما كانت العوامل المتسببة في عناد الطفل وسوء طباعه فإن تأثير الجو العائلي الملازم له يكون أشد لا سيما إذا كانت الصلة قائمة مستمرة، فوجود الطفل في حضانة من يخطئ توجيهه وإرشاده يحيل ما هو عليه من تكيف لطيف الى تحد، ويحوّل مودّته الى كراهية. وبدلاً من أن يكون مطيعاً يلوذ الى العناد. والسلبية توجدها عوامل شتى منها: مواجهة أحاسيس الطفل الوجدانية بالسخرية والاعتراض من جانب الكبار، ومواجهة محاولاته للتعبير عما يكونه من صور تتصل بخبراته الحسية بالاهمال، ومثل هذه العلاقة المتناقضة تولّد في نفس الطفل الغضب وتدفعه الى الاصرار على تكرار المحاولة بعناد وتحد.

 

 العدوانية
 من مظاهر الطفولة ايضاً "النزعة العدوانية"، فالميل الى الاعتداء واسع الانتشار بين الأطفال، وهو يعد احد مظاهر الغضب عند الطفل، وفي التصرف العدواني دلالة واضحة على اخفاق الطفل في تعلم الاستجابات الدالّة على التكيّف السوي، والحكمة تفرض على المجتمعات كافة وعلى المربين النزوع الى الأساليب التي تساعد في الحد من مثل هذه النزعات. من الطبيعي ان يتعرض الطفل الى العقاب حين يتصرف بشكل عدائي، فالعقاب عامل من عوامل تذكير المسيئ بما قد ارتكبه، لكن العقوبة يجب ألا تطبق بحق الطفل الذي لم يتجاوز الثالثة من عمره، فهو في مثل هذه السن يكون غير قادر بعد على التمييز بين الصواب والخطأ، لكن العقاب أحياناً قد يكون ضرورياً وإن بصورة بسيطة، إذا بات سلوكه العدواني عادة متحكمة به. ونحن نعرف أن الطفل يتعلم بالقدرة، ونعرف أيضاً أنه كي يتم فهم الطفل يجب التعرف على كيفية تفكيره وعلى أحاسيسه ومشاعره والإلمام بها، خصوصاً أن اهتماماته تتصل أمتن الإتصال بانفعالاته واستعداداته العامة.. ولعل أهم ما يميز الطفل انفعالياً ويؤثر على تصرفاته: عدم الاستقرار النفسي وسرعة الاحراج.. وعلى الأرجح يكون السلوك العدواني وليد تعرّض الطفل لمواجهة معارضة، أو، لاختلاطه مع رفاق السوء، فالمخالطة السيئة تكسب الطفل العادات السلبية. وأحياناً تكون ضروب التربية التي يتلقاها الطفل هي المسببة للسلوك العدواني، فالقسوة الشديدة تؤذي أحاسيس الطفل ويتعلم منها قسوة التصرف. أخيراً في حدود الأسرة يتعلم الطفل دروسه السلوكية الأولى، ويحذر علماء النفس من المبالغة في إظهار الحنان والحب، باعتبار أن ذلك من العوامل المشجعة على الاعتداء وأذية الآخر. فالطفل حين يجد أن أهله لا يحاسبانه على أخطائه ينجرف في التصرفات الطائشة. كما أن الإحباط، يعتبر أيضاً من المصادر التي تحد من نشاط الطفل وتنمي لديه الكآبة النفسية، وهذا يجعله يعمد الى انتهاج الاعتداء كتعويض عما يلم به من مشاعر العجز، إذ لا شيء أشد وطأة على نفس الطفل من المواقف التي يشعر فيها أنه أمام تحد مباشر يعجز عن مواجهته.. وقد تصدر عن الطفل تصرفات تأخذ مظاهر شتى: الغش، السرقة، الكذب... الخ، وهي تصرفات تدل على أن الولد لم يتلق التربية التي تثقف أخلاقه وتقوّم سلوكه. إن كل مرحلة يقطعها الطفل تعتبر ركناً أساسياً في تدرجه في الحياة الاجتماعية، وهو في كل مرحلة يجد نفسه إزاء مواقف جديدة عليه أن يكتسب منها خبرات لم يعهدها من قبل، وهذا جانب له أهميته البالغة خلال مدارج نموّه، وعلى الأبوين تهيئته نفسياً وفكرياً ووجدانياً ليكون قادراً على التكيّف مع الواقع بموضوعية. ففي الطفولة، تتكوّن العادات السلوكية وتتشكل الأخلاق، وبقدر حكمة المربين، بقدر ما يفوز المجتمع بجيل إيجابي في أخلاقه وسلوكه.