- En
- Fr
- عربي
معًا للوطن
هو حلم طفلة تسمّرت عيناها على الشاشة في الأول من آب من كل سنة، وسحرتها الهامات الممتشقة ولمعة السيوف، راودها سؤال لم تجد يومًا من يجيبها عليه: لماذا لا يحق للفتاة الالتحاق بالكلية الحربية؟ ونَمَت الطفلة لتصبح في ريعان الشباب وتقطف حلمًا تحوّل حقيقة، قدّمتها لها قيادة الجيش هدية في يوم المرأة العالمي.
خبر زفّه قائد الجيش العماد جوزاف عون لـ128 تلميذًا ضابطًا ناجحًا (إناث وذكور): «افتخروا بهذا النجاح، لأنّه ليس لأحدٍ فضل عليكم إلّا أنفسكم. تعبتم ودرستم وتخطّيتم الامتحانات بجدارتكم ودخلتم إلى الحربية». أُعطي كل ذي حقٍّ حقّه، ووقّعت نائب رئيس مجلس الوزراء وزيرة الدفاع الوطني زينة عكر عدرا نتائج الامتحانات التي أجرتها قيادة الجيش، وللمرة الأولى، لتطويع تلامذة ضباط من ضمن السلكين العسكري والأمني.
هذا القرار كان مبنيًا على قناعة مشتركة بين وزيرة الدفاع وقائد الجيش حول أهمية استمرارية المؤسسة ومصلحتها، ممهورًا بالشفافية التي طبعت نتائج الامتحانات.
مثال التجربة الناجحة
أَولت وزيرة الدفاع هذه التجربة الفريدة أهميةً عبّرت عنها خلال زيارتها التفقدية برفقة العماد قائد الجيش إلى الكلية الحربية، بعد التحاق هذه الدفعة الجديدة: «إنّكم تحافظون كل واحد من موقعه الجديد على لبنان بكل مكوّناته وعلى استمرارية المؤسسة العسكرية وتلبية حاجاتها، لكن الامتحان الحقيقي يبدأ من هذه اللحظة وهو بحجم وطن.
أوصيكم من موقعي أن تكون بوصلتكم هي ضميركم.
ابتعـدوا عن السيـاسـة وضغـوطاتهـا، احمـوا شعبكم فبدونه لا وطن».
وعبّرت عن فخرها كأول وزيرة دفاع في لبنان والعالم العربي، بالحضور الأنثوي في هذه الدورة. «هذا الحضور الذي بدأ يتعزّز في السنوات الماضية، ومن خلاله أثبتت المرأة جدارتها ومهنيتها في العمل الإداري والعملاني والميداني.
أنتنَّ مثال التجربة الناجحة ومن خلالكنَّ تتشجّع زميلاتكنَّ».
وأودعتهم مسؤولية الوطن الذي يفتخر بهم، ويعتمد عليهم ذكورًا وإناثًا.
مشروع تحدٍّ
جهود التلامذة الجدد وكدّهم وجدارتهم، لم تكن مصدر فخرٍ لهم ولأهاليهم فحسب، بل قدّرها العماد قائد الجيش الذي هنّأهم وأثنى على كفاءتهم التي أهّلتهم للنجاح ودخول الحربية.
واستعاد القائد يوميات الحربية مستذكرًا نمط العيش فيها: «انتقلتم اليوم إلى نمط عيش مختلف في المؤسسة، كنتم في قطعكم مرتاحين في الخدمة إلى حدٍّ ما، الآن سترون نمطًا جديدًا، فستكون المأذونية ليومٍ واحدٍ في الأسبوع بعد اجتياز مرحلة الستين يومًا... ستستيقظون باكرًا وتخضعون لتدريبٍ ودروس مدنية وعسكرية، والتحدي سيكون كبيرًا. من يملك الإرادة الصلبة يتخطى كل الصعوبات».
وأضاف القائد مشجّعًا التلامذة الجدد على المثابرة: «يجب أن تعرفوا أنّ مشروع دخولكم للحربية كان مشروع تحدٍّ لنا بعد أن كان هناك قرار بعدم التطويع. ومع تعيين حكومة جديدة، وقّعت نائب رئيس مجلس الوزراء وزيرة الدفاع زينة عكر على قرار التحاقكم».
وعن تجربة التلامذة الضباط الإناث، قال العماد عون: «تجربتكنّ هي الأولى من نوعها في المؤسسة العسكرية، ستتلقَّينَ التدريبات كرفاقكنَّ الشباب لمدة ثلاث سنوات، وقد أخذنا هذا القرار انطلاقًا من المساواة بين الرجل والمرأة، ودور المرأة التي أثبتت مهنيتها وحرفيتها وجدارتها في مختلف الميادين، وخصوصًا في القوات الجوية والبحرية والشرطة العسكرية... وبناءً على إيماننا بهذا الأمر وتجربتنا الناجحة معكنَّ في القطع، أخذنا قرار إلحاقكنَّ بالكلّية الحربية، وسنبني على هذه التجربة الرائدة للمستقبل».
ودعا القائد ضباط المستقبل لأن يكونوا سفراء للمؤسسة في عائلاتهم وبيئتهم ومجتمعهم، «فالنجمة هي مسؤولية تجاه أنفسكم وتجاه مرؤوسيكم وتجاه شعبكم ووطنكم. زادت المسؤولية على عاتقكم، فكونوا قلبًا واحدًا من دون أي فرق بين شاب وفتاة، ساعدوا بعضكم، تمسّكوا بالقيم التي ستتعلّمونها في الكلية، لأنّ المؤسسة تنتظركم لتحملوا معها مسؤولية الشرف والتضحية والوفاء».
إلى ميدان الشجاعة
هذه الكلمات أودعها القائد لأبنائه الجدد الذين التحقوا بالكلية الحربية.
معهد الحرب الأشم، مدرسة الرجال الأولى، تفتح أبوابها من جديد، ولكن هذه المرة لا لاستقبال دفعة جديدة من الشباب فحسب، بل إلى جانبهم أيضًا إناث اخترنَ تقديم الذات بذلًا وعطاء على مذبح الوطن، مندفعات إلى ميدان الشجاعة بإرادةٍ صلبة يرفضنَ التفرقة والتمييز، همّهنَّ إثبات جدارتهنَّ وقدراتهنَّ الذهنية كما الجسدية والنفسية، فيستحققنَ الإمرة بعد ثلاث سنوات من التدريب.
كلمة واحدة على لسانهنَّ: شكرًا للقيادة التي منحتنا هذه الفرصة وحققت لنا حلم الطفولة من خلال خطوة بهذه الجرأة... نعرف أنّ ما ينتظرنا ليس سهلًا ولكنّنا لن ننسحب ولن نتراجع، سنكون «قدّا وقدود» مهما استلزم الأمر، فمنذ لحظة ارتدائنا البزّة بتنا جاهزات لأي مهمة.
الأنوثة بالنسبة لهنَّ لا تقتصر على المظهر أو ارتداء التنورة والكعب العالي، الأنوثة هي أن تكون للفتاة استقلاليتها، وتكون «قدّ حالها»، أن تؤكّد ذاتها. الأنوثة جزء منّا ولا نفقدها إن ارتدينا البزّة... لا تستخفّوا بنا لأنّنا اجتزنا الاختبارات، والتحدّي الأكبر الآن هو اكتساب كل المهارات اللازمة التي تؤهلنا لمشاركة رفاقنا الشباب في مسؤوليات حماية وطننا وأهلنا وخدمتهم. لا ينقصنا شيء، ولا يميّزنا عن الإناث في جيوش الدول العظمى شيء، لا بل فينا من روح الاندفاع والوطنية ما يكفي ويزيد لتحمّل هذه المسؤولية التي تحثّنا على الشعور بالعز والحاجة إلى خدمة الوطن. هذا الاندفاع يرافقه شعور كبير بالرهبة والمسؤولية: نتمنّى أن نكون قدوةً تمهّد الطريق وتشجّع القيادة على تكرار هذه التجربة.
مشاركة بالطموح والمسؤولية
الشباب يقفون إلى جانب رفيقاتهم، الكتف إلى الكتف، الجميع شركاء الطموح والمسؤولية. لا فـرق بالنسبة لهم بيـن شاب وفتاة، فنحـن جيل اليوم نؤمن بالمساواة والقدرات، والشاطـر يثبت نفسـه. وخلافًـا للأفكـار التقليديـة السـائدة في مجتمعنا، هم يؤمنون بأنّ الفتاة قد تفوقهم قدرةً، والتحدّي معها جدّي، ويبقى الهدف الأسمى واحدًا: خدمة الوطن والمصلحة العامة قبل أي مصلحة شخصية.
أرقام
• 2122 طلبًا تلقّته اللجنة العامة لامتحانات الدخول إلى الكلية الحربية.
• 55,4% منهم ذكور و44,6% إناث.
• وصل 944 مرشحًا إلى المثول أمام اللجنة بعد اجتياز الاختبارات الصحية والرياضية والنفسية.
• نجح من هؤلاء 128 تلميذًا ضابطًا دخلوا إلى السنة الأولى، بعد خضوعهم للامتحان الخطي في المواضيع العامة.
• 61% منهم ذكور و39% إناث.
• 58% منهم مُجاز و42% يحملون الشهادة الثانوية.
• 100 تلميذ منهم تابع للجيش، 8 لقوى الأمن الداخلي، 14 لقوى الأمن العام، و6 لقوى أمن الدولة.
الزيارة الأولى
في نهاية الأسبوع الأول لالتحاق دفعة التلامذة الضباط الجدد بالكلية، كانت زيارة الأهالي التي تسبق مرحلة الستين يومًا. مشاعر مختلطة، فرحة وفخر ودموع واشتياق، شعور غريب يختبرونه للمرة الأولى التي يبيت فيها أولادهم، وخصوصًا بناتهم خارج كنفهم.
«شو عاملي يا إمي؟ عم تاكلي؟ عم تنامي؟ تعباني؟» قلق الأهل على فلذات أكبادهم طبيعي، ولكن «فدا الوطن»، فشعورهم بالمسؤولية الوطنية وتقديرهم للمؤسسة العسكرية أكبر، وهو ما دفعهم لتسليم أولادهم ومستقبلهم للمؤسسة والوطن. هم السند الداعم لقادة المستقبل، ومنبع القيم التي دفعت أولادهم لاختيار هذا الطريق والتزام هذه الرسالة السامية، رسالة «الشرف والتضحية والوفاء».
شعور هؤلاء الأهالي لا يوصَف، «لا تساعهم الدنيا»، يشكرون القيادة الحكيمة لأنّها اتّخذت معيار الكفاءة «وهذا ما نحلم به في وطننا». يزيدهم فخرًا إيمانهم بأولادهم وثقتهم بأنّهم قادرون على تحمّل المسؤولية، خصوصًا وأنّهم تعبوا وسهروا ليبلغوا هذه المرحلة بكفاءتهم واجتهادهم. وإخوتهم لن يتردّدوا بأن يحذوا حذوهم في المستقبل، فقناعتهم الوحيدة هي أنّ الجيش هو خشبة الخلاص الوحيدة للوطن ومن دونه لن يبقى وطنًا.
من بين الأهالي من كان ابن المؤسسة، ومنهم من قدّم دماء ابنه فداءً للوطن، وجميعهم مستعدّون لبذل المزيد من التضحية وتسليم مصير أبنائهم وبناتهم ومستقبلهم للمؤسسة الأشرف في لبنان.
للمرة الأولى
أن يتمّ تطويع تلامذة ضباط من ضمن السلك العسكري حصرًا، هو خيار تقوم به القيادة للمرة الأولى، وذلك تفاديًا لأي انعكاسات لقرار وقف التوظيف لمدة ثلاث سنوات الذي أقرّته موازنة 2019، قد تصيب هرمية المؤسسة وهيكليتها.
أصابت القيادة بهذه الخطوة جملة أهداف، أبرزها:
- استمرارية المؤسسة العسكرية والحفاظ على هرميتها من خلال التطويع السنوي للتلامذة الضباط، فالتوقف عن التطويع لمدة ثلاث سنوات له انعكاسات سلبية على الهيكلية العسكرية.
- هي المرة الأولى في تاريخ الجيش التي يتمّ فيها تطويع تلامذة ضباط من الإناث، خضعنَ للاختبارات نفسها التي كان يُعمل بها سابقًا.
- إنّ تطويع هؤلاء التلامذة الضباط لا يكبّد الخزينة أي أعباء إضافية، كونهم من السلك العسكري والأمني ومعظمهم من رتبة رتيب وما فوق، وبالتالي عند دخولهم تلامذة في الكلية الحربية سيتدنّى الراتب.
- من إيجابيات تطويع ضباط من داخل السلك أيضًا أنّهم على دراية بكل التفاصيل العسكرية والأمنية، وغالبًا ما تُسند إليهم وظائف تحتاج إلى خبرات راكموها نتيجة خدمتهم السابقة.
المرأة قادرة
لفت حماس الإناث نظر قائد الكلية الحربية العميد الركن جورج الحايك، الذي رافقهنّ منذ اليوم الأول لتقديم الطلبات، ويختصر نجاح تجربة الإناث في الجيش وإثباتهنّ القدرة التي يتحلَّين بها، بأنّ طليعة الدورة أنثى.
«أتوقّع أن تحصد الإناث المراكز الأولى، وأنتظر أن أراهنَّ آمرات فصائل مدفعية، إشارة، لوجستية، مشاة... فالمرأة تبرع في كل ما يستلزم عملًا جديًا ودماغًا، كما أنّها تستطيع أن تكون بشكلٍ ناجح في وحدات المشاة والقتال عند الحاجة.
الحرب حاليًا ليست حرب حصان وسيف، بل هي حرب أدمغة، والمرأة التي تشكّل نصف المجتمع، تملك المؤهلات لتكون جاهزة في أي اختصاص يستلزم استخدام الدماغ، وبالتالي فإنّ وجود المرأة في الجيش اللبناني أمر وصل متأخرًا قليلًا ولكنّه ضروري».
• ونسأله: أليست فكرة استلام الفتاة أمرة فصيلة غريبة على المجتمع اللبناني والجيش؟
فيردّ قائلًا: «هل المرأة في الجيش الأميركي أو فرنسا أو بلجيكا أو الأردن أو مصر مختلفة عن المرأة في لبنان؟
حين كانت الوفود الطالبية تزور الكلية الحربية، كان يُطرح سؤال لم أكن أعرف إجابته «لماذا لا تدخل الأنثى الكلية الحربية؟». لكن قيادة الجيش قامت بعدة تجارب من تطويع إناث كضباط اختصاص ورتباء وعسكريين، وبالتالي ليس الأمر غريبًا على الجيش.
هذه التجربة وُجدت لتستمرّ بعد أن أثبتت التجارب السابقة قدرة الإناث على بلوغ أعلى المستويات الفكرية والجسدية والنفسية».
• هل طوّرتم منشآت خاصة لاستقبال العسكريين الإناث لمدة ثلاث سنوات؟
«لقد طبّقنا تعليمات قيادة الجيش التي تحدّد كل التدابير ذات الصلة، وبالنسبة للكلية هنَّ لسنَ الإناث الأوائل اللواتي سينمنَ فيها، إذ لدينا إناث ضمن عديدنا ولديهنَّ منشآتهنَّ الخاصة. خصّصنا في مبنى الإناث طابقًا كاملًا للتلامذة الضباط الإناث. وللتذكير، النوم فقط سيكون منفصلًا أما باقي النشاطات من الرياضة إلى تمارين السير والتعليم والتدريب فهي مشتركة مع الشباب».
• هل سيواجه المدرّبون في الكلية تحدّيًا جديدًا في تدريب هؤلاء؟
«كما ذكرنا أنّه سبق أن درّبنا ضباط اختصاص إناث لفترة ستة أشهر، بالإضافة إلى التدريبات الدورية للإناث اللواتي يندرجنَ ضمن عديد الكلية، وبالتالي الأمر ليس غريبًا بالنسبة للمدربين ومن بينهم ضباط إناث ومؤهلون ورتباء. لم تُعطَ تعليمات بتمييز الأنثى عن الذكر في التدريبات، وبالتالي لن يختلفنَ لا من حيث الحجز أو التعب أو المعموديات أو الطعام أو الرياضة والتدريب والتعليم، فالتعليمات نفسها للجميع».
يتوجّه العميد الركن الحايك إلى أهالي هؤلاء التلامذة الجدد كما في كل جولاته التي يقوم بها خلال الزيارة الأولى لأولادهم في الكلية، يطمئنهم قائلاً: «حاليًا أولادكم أصبحوا أولاد المؤسسة، سنربّيهم وننشئهم لكي يمتلكوا عند تخرّجهم المؤهلات والمهارات التي تخوّلهم التعامل مع العسكريين وتنفيذ المهمات الموكلة إليهم. إنّنا نعاملهم بطريقة عسكرية مغلّفة بالأبوة، وأشدّد على أنّنا نعدّهم للحياة وليس للموت وبالتالي لحياة أفضل للبنان وللجيش ولهم، وهذا هو المهم».