- En
- Fr
- عربي
قضايا إقليمية
ليس هناك شيء ادعى للسخرية والتعجب اكثر من ادعاء اسرائيل انها واحة للديموقراطية في صحراء من البداوة والبربرية، في وقت تتجاوز فيه حقوق الانسان وترتكب من الجرائم والانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي ما يندى له جبين الانسانية. وخطاب الديموقراطية العنصرية الذي تنجح به اسرائيل إنما يرمي الى التستير على واقع الاغتصاب والعدوان من منطلق استغلال ازمة الضمير الغربية الناتجة عن احداث المحرقة اليهودية المضخمة والظهور بمظهر الضحية المسالمة المنتمية الى منظومة الحضارة الغربية وقيمها الاخلاقية.
والحقيقة ان تمحيض هذا الخطاب المزيّف يظهر بأن ثمة مخططاً إعلامياً دعائياً ممنهجاً، لا يرمي فقط الى تأكيد تميُّز اسرائيل واستثنائيتها في المنطقة بل يرمي ايضاً الى استخدام ذرائع تبريرية هدفها الاساءة الى صورة العرب وتسويق آلية التملص من التزام المعايير والقرارات الدولية الايجابية تجاههم.
وعلى هذه الخلفية، وبالاسلوب الذرائعي الخبيث، تمكنت الحكومات الاسرائيلية المتلاحقة من تغطية احتلالاتها للاراضي العربية والتمويه على ممارساتها العدوانية والعنصرية، كما وتمكنت ايضاً من تعطيل اية مبادرات لتسويات سلمية حتى لو اتت من اعلى المرجعيات الدولية، وحتى لو كانت مجحفة بحق الجهات العربية المعنية بمثل هكذا تسويات.
وما من شك بأن احداث الحادي عشر من ايلول عام 2001 قد خدمت اسرائيل في هذا المجال ايما خدمة، حيث عمدت الى تسويق صورة سياسية مشوهة لاسباب الصراع العربي الاسرائيلي فنسبته فقط الى الطبيعة اللاديموقراطية السائدة في الانظمة العربية وعلاقة هذه الانظمة بشعوبها بما فيها الشعب الفلسطيني. وهذا يعني في المحصلة انه لا بد من اجراء عملية تحويل ديموقراطي طويلة الامد على مستوى العالم العربي قبل التفكير جدياً بتسويات عملية وواقعية مع هذا العالم، وبتعبير آخر هذا يعني التهرب من استحقاقات التحولات الحاصلة في المنطقة والعالم، والاستئثار الحصري بتبني الحلول الجزئية غير الاستراتيجية والتي لا تلحق الاذى والضرر بالمشروع الصهيوني في نسخته اليهودية المتجددة والمتعصبة. ومن هنا جاء التفكير السياسي لشارون في خطة الفصل، ليس كتفكير في اتفاقات سلام دائمة وعادلة، وانما في تسويات هدنة واستقرار وردع وعدم اعتداء، وذلك عبر التشديد على الترتيبات الامنية، من منطلق عدم الايمان وعدم الثقة في الترتيبات السياسية مع مختلف الاطراف العربية.
ومن هذا المنطلق يشتكي شارون بالحاح من قذائف القسام في فلسطين او صواريخ الكاتيوشيا، في لبنان وهو الذي يمتلك اضخم واخطر ترسانة حربية متطورة في منطقة الشرق الاوسط برمتها، بالاضافة الى شبكة واسعة من الحماية الفضائية والتجسسية التي تلاحق الاحداث والوقائع في المنطقة لحظة بلحظة.
ان خطاب الديموقراطية الاسرائيلي ما هو في الواقع سوى امتداد لسياسة التضليل والمراوغة ومحاولة ذر الرماد في العيون، لأن طبيعة ايجاد اسرائيل بحد ذاتها كانت سبباً من اسباب غياب الديموقراطية في المنطقة، بسبب تفشي التوترات العسكرية الدائمة واعطاء المبررات لسيادة الدولة الامنية بامتياز في العالم العربي.
ومثل هذه الدولة هي مصلحة اسرائيلية بحتة من حيث انها مميزة بالحفاظ على الفجوة النفسية والوجدانية الدائمة بين الحكومات ومجتمعاتها، ومن حيث انها ذات مصلحة وجودية بقمع اية اعتراضات او تحركات شعبية ضدها في حالتي السلم والحرب على حد سواء. والشاهد على ذلك ان الدولة العربية التي تتمتع بقدر اكبر من الديموقراطية هي الدولة التي تشهد معارضات شعبية اكبر للتسويات المجحفة والمشوهة، وضمن هذا الهامش تمكنت المقاومة في لبنان من احراز ما احرزته من مكاسب وانتصارات.
والملاحظ ان اسرائيل سعت دائماً وباستمرار، من فوق الطاولة او من تحتها، الى ممارسة ضغوط على الجهات التي تقيم معها معاهدات تسوية او علاقات ثنائية، من اجل خنق الحريات في مختلف مجالات المجتمع المدني مثل مجالي الاعلام والتحركات النقابية وما الى ذلك، علماً بأن اسرائيل في وسائل اعلامها ومناهجها التعليمية الرسمية وادبيات الاغلبية الساحقة من احزابها السياسية، تمارس ابشع انواع التحريض العنصري ضد العرب، ولا سيما الفلسطينيين منهم، من دون ان ترف لها عين، او ان يشعر فيها المسؤولون بأي احراج.
ويكفي هنا التذكير بقتل 13 مدنياً من المواطنين الفلسطينيين من حملة الهوية الاسرائيلية، لمجرد مشاركتهم السلمية في مسيرة مؤيدة لاخوانهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، ومن ثم منع المحاكمة عن رجال الشرطة الذين ارتكبوا هذه المجزرة.
وعلى الرغم من كل هذه الممارسات غير الديموقراطية الفاضحة يقول آرييل شارون: «انني لا اريد المساس بأي عربي في العالم، لكنني اقول بأسف انني لا أثق بالاتفاقيات معهم. انني افضل عقد الاتفاقيات مع الولايات المتحدة... الشعوب العربية لا تحترم الاتفاقيات وترفض التطبيع...».
وقد كشف الكاتب المعروف ميرون بنفنستي في صحيفة «هآرتس» (1 /3 /2005) حقيقة النفاق الديموقراطي الاسرائيلي بقوله: «ان مطلب ربط السلام بالديموقراطية في العالم العربي هو عملية نفاق من اجل عرقلة اية خطوة حقيقية نحو السلام». وكذلك كتب الصحافي تسفي بارئيل يقول: «من المستبعد ان تكون الديموقراطية العربية صيغة لتأييد السلام مع اسرائيل... المسألة تتعلق بنسبة اكبر بالتاريخ المشترك للمنطقة وبتواصل الاحتلال على وجه الخصوص» (هآرتس 3 /4 /2005).
اما الكاتب ب. ميخائيل فسخر من مطالبة شارون السلطة الفلسطينية الضعيفة بوقف التحريض بقوله: «جدير بشارون الا يكتفي بطلبه اللطيف هذا بل ويضيف عليه بعض الافعال اللطيفة، باسم مبدأ التبادلية، وكي يتمكن الزعماء الفلسطينيون من ان يتعلموا منا كيف يتم فصل الامور».
من ناحية اخرى يستنكر الكاتب عكيفا الدار في «هآرتس» (22 /11 /2004) المطالب الاسرائيلية المتضمنة «الجمع بين الديمقراطية والاحتلال والكولونيالية، والتي تطالب الشعب المحتل بأن يغمد لسانه بالاضافة الى سلاحه، مقابل وعد بتنازلات مؤلمة جنباً الى جنب مع تسريع نهب الاراضي واستلابها وتدمير المنازل».
وتساءل كاتب آخر: «هل يوجد لدى من يطالب بتطبيق الديمقراطية في فلسطين استعداد لتحديد حدود دولة الديمقراطية الفلسطينية المنشودة قبل ان يطالبها بالديمقراطية؟».
من خلال ما تقدم تتبين لنا عملية التلفيق والتزوير الاسرائيلية في تفاصيلها الاستنسابية الوظيفية والتي لا هدف لها سوى تغطية كونها دولة استعمارية استيطانية عنصرية، تعطي الاولوية لمجتمع المستوطنين الوافدين عن غير وجه حق على حساب مجتمع السكان الاصليين، الذين يتم اخراجهم حتى من دائرة المواطنية.